أرادت الولايات المتحدة، بعد إسقاطها للنظام العراقي عام 2003، أن تنشئ نظامًا ديمقراطيًا بمقاييس خاصة تتناسب مع النظرة الأمريكية للمنطقة، وأن تجعل من التجربة العراقية مثالًا يُحتذى من قبل دول المنطقة، تمهيدًا لرؤية “الشرق الأوسط الجديد” التي كَثُر الحديث عنها في ذلك الوقت، وكانت تُبشِّر دول المنطقة به، وأنه سيبدأ بإنشائه انطلاقًا من التجربة في العراق. ولكن، بعد مرور السنين، كشفت التجربة الأمريكية في العراق عن بناءٍ مشوَّه لا يليق أن يكون تجربة يُحتذى بها، وأقل شأنًا من أن يكون مثالًا يتم الترويج له لشرق أوسط جديد.
وأحد أبرز ملامح فشل التجربة الديمقراطية التي بشّرت بها الولايات المتحدة في العراق، هو العزوف الشعبي الكبير للعراقيين عن المشاركة بأبرز سمات النظام الديمقراطي، ألا وهي الانتخابات.
الانتخابات في العراق ما تُدار بالصناديق، بل بتنسيق النفوذ الخارجي.
تُفتح المراكز ليصوّت الناس، لكن القرار غالبًا يُتخذ بإشراف إيران.
مسرحية ديمقراطية نهايتها مكتوبة منذ أول مشهد
التغيير يصير لما المقاطعة تكون شاملة فتفقد السلطة شرعيتها امام العالم #العراق #مقاطعة_الانتخابات pic.twitter.com/KtDDf5QObS— $N…诺拉o.. l.. a (@dentos_n) October 14, 2025
ما رؤية واشنطن لعراق ما بعد صدام حسين؟
في لقاء أجرته صحيفة “www.swissinfo.ch” في 13 يونيو/ حزيران 2006 مع جيمس إيكنز، السفير الأمريكي السابق في المملكة العربية السعودية، والذي عمل كذلك في السفارة الأمريكية في بغداد، تم سؤاله عن الذي جنته أمريكا من غزو العراق؟ فقال مبتسمًا: “إذا كانت نتيجة الغزو كلها خسائر.. خسائر بمئات المليارات من الدولارات، وخسائر بأرواح آلاف الجنود الأمريكيين، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من المدنيين العراقيين الأبرياء، وكل ذلك كان يستند إلى الكذب والزيف والإيهام بامتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، ثم لجأ بوش إلى تغيير الهدف من مغامرته العسكرية في العراق إلى تحويله إلى نموذج للديمقراطية في الشرق الأوسط الكبير. لم تنجح تجارب إقحام الانتخابات في تحويل العراق إلى نظام ديمقراطي، وأسهم الغزو في تحول العراق إلى ساحة للعنف المتصاعد وتأصيل الخلافات الطائفية”.
وعلى هذا الأساس، حاولت إدارة برايمر، الحاكم المدني الأمريكي، العمل على تأسيس عملية ديمقراطية على عجالة، عسى أن تخرج بنموذج تستطيع إظهاره للعالم بأنه نجاح لمغامرتها العسكرية، وأن النتيجة التي حصلت في العراق كانت تستحق كل تلك الخسائر التي دُفعت جراء هذا الغزو. فأخرج لنا برايمر دستورًا قسَّم فيه العراق إلى إثنيات وطوائف مختلفة، وحدد لكل إثنية وطائفة وزنًا نيابيًا يمثلها داخل البرلمان العراقي، الذي سيُشكَّل بعد انتخابات تُجرى على أساس هذا الدستور. هذا الاستعجال الكبير في كتابة الدستور حال دون بناء دولة متوازنة تحافظ على حقوق جميع العراقيين. كان دستورًا مليئًا بالألغام، غير قابل للتفسير في فقرات مهمة تخص العملية السياسية، الأمر الذي جعل تعثّر العملية السياسية واضحًا طيلة السنوات لما بعد عام 2005.
ومع ذلك، تفاعل جزء من الشعب العراقي مع الانتخابات النيابية والمحلية في دورتها الأولى، وبالذات الشيعة والكرد، بسبب ما تم تصوريه لهم من قِبَل أحزابهم، بأن هذا الدستور وهذه العملية السياسية هي أفضل ما حصلوا عليه. بينما عزف عن تلك الانتخابات العرب السنَّة، معتبرين أن هذه العملية السياسية هي تقسيم للمجتمع العراقي وتمزيق لوحدته، وجعل العراق عبارة عن مواطنين غير متساوين في الحقوق والواجبات.
ومع مرور الوقت، واستفحال عمليات التزوير في الانتخابات التي تُجرى، ورفض إقرار قانون للأحزاب يُنظِّم العملية السياسية، واستعمال آليات انتخابية تُكرِّس وجود الأحزاب الكبيرة مثل قانون “سانت ليغو”، بدأت كل دورة انتخابية تُفرز ذات الأحزاب، لكن مع تغيير بعض الأسماء، ومن ثم أدّت الانتخابات إلى فرز طبقة السياسيين الفاسدين، مما انعكس بالسوء وبشدة على حياة المواطن العراقي.
بعد ذلك، يبدو أن الولايات المتحدة رأت نفسها أمام تجربة فاشلة بامتياز، وبدأت حماستها وتفاعلها يقل شيئًا فشيئًا مع ما يجري في العراق، وأناطت بإيران والأطراف الموالية لها في العراق صلاحية إدارة العمل السياسي في هذا البلد، والاكتفاء بالمراقبة من بعيد، وكأن الأمر لا يعنيها كثيرًا.
كل تلك الأسباب انعكست على تفاعل الناس مع الانتخابات، وبدأت كل دورة انتخابية تقلّ عن سابقتها بنسبة المشاركين. وكانت انتخابات عام 2018 من أكثر الدورات الانتخابية التي شهدت مقاطعة كبيرة، بل تم الترويج للمقاطعة على نطاق واسع بين الأوساط الشعبية. وما زاد الطين بلّة، هو أن مفرزات انتخابات 2018، والتي جاءت بحكومة ضعيفة بقيادة عادل عبد المهدي، لم تلبِّ حتى جزءًا بسيطًا من متطلبات الشعب العراقي. تفاقم بعدها الغضب الشعبي على السياسيين وعلى العملية السياسية، وهذه المرة، كان الغضب من الحاضنة الشعبية للأحزاب التي تمسك بالسلطة؛ شباب من المكوّن الشيعي، وشباب من المكوّن الكردي.
فقد شهدت مناطق الوسط والجنوب تظاهرات عارمة ضد العملية السياسية، وتثقيفًا كبيرًا على عدم المشاركة بأي عملية انتخابية تُجرى، لأنهم لا يظنون أن تغييرًا يمكن أن يحدث من خلال هذه الانتخابات. فانطلقت تظاهرات عارمة عُرفت بـ “تظاهرات تشرين”. ونفس الشيء حدث في مدن إقليم كردستان، حيث خرجت عدد من التظاهرات ضد الحزبين الكرديين الحاكمين، لأسباب تتعلق بفسادهما وسوء الخدمات المقدمة للمواطنين، وقطع الرواتب بحجة توفيرها إجباريًا من قبل سلطات الإقليم. وانتشرت بينهم ثقافة المقاطعة للانتخابات بين أوساط الشباب.
حشود ضخمة ما زالت تملئ ساحة التحرير وسط بغداد، وهتاف “إيران بره بره.. بغداد تبقى حرة” يسمع بوضوح#العراق_ينتقض #نازل_اخذ_حقي pic.twitter.com/r6r9w8l4MB
— نون بوست (@NoonPost) October 26, 2019
أما في انتخابات 2021، والتي لم تشهد مشاركة كبيرة، فقد أفادت أكثر التقارير تفاؤلًا عن مشاركة 20% من الناخبين. وأفرزت عن فوز ساحق لكتلة التيار الصدري الشيعية، لكن أحزاب الإطار التنسيقي المقربة من إيران لم تتقبل الخسارة، وبدأت بالمماطلة في تشكيل الحكومة، الأمر الذي دفع مقتدى الصدر إلى الإيعاز إلى نوابه في البرلمان بتقديم استقالتهم وترك العملية السياسية برمّتها. وبدأ يروّج إلى مقاطعة الانتخابات بشكل تام، حتى لا يشارك “المفسدين” – بحسب رأيه -.
وعلى هذا الأساس، امتنع التيار الصدري عن المشاركة في انتخابات مجالس المحافظات التي عُقدت في 18 من كانون الثاني/ يناير عام 2023.
أما الانتخابات النيابية التي ستُجرى في 11 من تشرين الثاني/ نوفمبر من هذه السنة، فقد شهدت ليس مقاطعة شعبية عن المشاركة فيها فحسب، إنما بدأت كثير من الكتل السياسية تحذو حذو التيار الصدري في مقاطعته للانتخابات، والترويج للمقاطعة بشكل علني. فقد انضمت كتل شيعية، مثل كتلة “ائتلاف النصر” بزعامة حيدر العبادي، رئيس الوزراء السابق، وأغلب الأحزاب المدنية المرتبطة بحراك تشرين عام 2019. ومن الجانب الكردي، أعلنت “الحركة الإسلامية الكردستانية” عدم مشاركتها بالانتخابات النيابية، مبرّرة قرارها هذا بأن المشاركة بالانتخابات “لن تُحدث أي تغيير حقيقي”.
تداعيات عزوف العراقيين عن المشاركة في الانتخابات
لم يُحدِّد الدستور العراقي سقفًا لنسبة المشاركين في الانتخابات النيابية حتى يمكن اعتبار الانتخابات صحيحة أم باطلة، إنما ترك الأمر مفتوحًا. وعلى هذا، فإن المشاركة في الانتخابات، مهما كانت نسبتها متدنية، فلن يؤثر ذلك على صحة الانتخابات، وسوف تُعتبر مخرجاتها صحيحة قانونيًا.
لكن تبقى المشكلة أن الجميع يعرف أن هذه الانتخابات، وبهذه النسبة المتدنية، لن تكون معبّرة عن إرادة الشعب الحقيقية. فكل الأنظمة الدكتاتورية تنظم انتخابات صورية، وتدّعي أن فيها مشاركة بنِسَب فلكية، وتتبنّى مخرجاتها، لكن الجميع يعلم أنها انتخابات شكلية لا تُعبّر عن حقيقة الإرادة الشعبية، وأن هذا النوع من الانتخابات الشكليّة لن يجعل الأنظمة الدكتاتورية أمام العالم أنظمة ديمقراطية، وتتعامل الدول معها على أنها فاقدة لشرعيتها.
نفس الحال يجري في العراق، مع خصوصية تتمثّل بأن هناك طبقة من السياسيين هم من يتحكّمون في البلد، والذي يُصطلح عليه بـ “حكم الأوليغارشية”. فهناك طبقة سياسية في العراق تعاهدت على تدوير السلطة فيما بينها، تحقيقًا لمصالحها وحدها دون الالتفات إلى مصلحة الشعب. هذه الطبقة السياسية تدرك أنها بهذه الطريقة لا تستطيع إقناع العالم بأن نظامهم ديمقراطي جاء بعملية انتخابية ديمقراطية حرة.
وعلى الرغم من أن الأحزاب الممسكة بالسلطة لم تكن لديهم مشكلة في الاعتراف الدولي بحكوماتهم، رغم عزوف نسبة كبيرة من الشعب عن الانتخابات، وذلك بسبب الدعم الأمريكي الكبير لهم، إلا أن المشكلة بدأت تتفاقم بهذا الخصوص منذ مجيء ترامب إلى الحكم بفترته الثانية، وعزمه على تقليص النفوذ الإيراني في العراق، وإقصاء مواليها عن الحكم فيه. لذلك فإن أولئك السياسيين بدأوا البحث عن زيادة المشاركة في الانتخابات لإكسابها شرعية دولية يستطيعون التذرّع بها أمام العالم على أنهم نظام شرعي.
لكن من حيث لغة الأرقام، فإن هذه الانتخابات القادمة، وفي ظل هذا العزوف الشعبي الكبير عن المشاركة فيها، ربما سيغيّر ذلك من خارطة التوازنات السياسية بشكل كبير، وهذا ما نعتقد أن واشنطن تريده إحداثه. وهذا العزوف الشعبي سيتركز في المناطق ذات الأغلبية الشيعية الكردية، فيما يُتوقع أن تشهد المناطق ذات الأغلبية العربية السنيَّة حماسة شديدة للمشاركة في الانتخابات.
مع ذلك، فإن التأثير على عدد المقاعد البرلمانية لن يكون كبيرًا، إلا في المناطق المختلطة، مثل محافظة بغداد، فمن المتوقع أن الأحزاب الشيعية ستخسر عددًا من المقاعد النيابية لصالح السنَّة. ونفس الحال في محافظات نينوى وديالى وبابل، والتي هي محافظات متنوعة طائفيًا وقوميًا.
بالمحصلة، سيكون هناك تغيير (ليس عظيمًا) في عدد مقاعد المكونات العراقية الثلاث في البرلمان القادم لصالح السنَّة. وفي المحافظات الشيعية، إذا ما كانت خسارة أحزاب الإطار التنسيقي كبيرة، وفازت أحزاب شيعية أخرى بعيدة عن الإطار وبعيدة عن إيران، فليس مستغربًا إذا ما كانت إحدى مفرزات الانتخابات القادمة هي كسر العُرف السياسي الجاري منذ عام 2003، بأن يكون رئيس الوزراء من الطائفة الشيعية. ربما سنشهد لأول مرة رئيسًا للوزراء سنيًا، وهذا ما تتخوّف منه بشدة أحزاب الإطار التنسيقي.
ما أسباب المقاطعة؟
أسباب مقاطعة الانتخابات من قبل الشعب العراقي عديدة ومتنوعة، لكن يمكننا تلخيصها ببضعة نقاط على درجةٍ من الأهمية. فبعد التجربة التي خاضها المواطن العراقي طيلة الدورات الانتخابية الخمس الماضية، وصل إلى حالة “عدم ثقة” بمخرجات الانتخابات، وبأن الانتخابات ليست هي السبيل الأمثل للإصلاح والتغيير نحو الأفضل. وما زاد الطين بلّة، هو اعتماد الكتل السياسية المسيطرة على السلطة في العراق على قانون “سانت ليغو” الانتخابي سيئ السمعة والمرفوض شعبيًا، لأنه يُغيّب إرادة الناخب، ويجعل حظوظ الأحزاب الصغيرة شبه معدومة لصالح الأحزاب الكبيرة.
وما أفرزته مجالس المحافظات من صورة سلبية وصراع على المصالح الحزبية والشخصية، متناسين مصلحة المواطن، جعل الشعب العراقي يرى بأن مجالس المحافظات هي حلقة زائدة غير ضرورية، وهي تعقيد إداري يستهلك موارد الدولة ولا يعود بالنفع على المواطن.
النايل لقناة البغدادية :
مجالس المحافظات باب الفساد والسرقات وهو حلقة زائدة ستفتح الشر على العراقيين pic.twitter.com/GnwvaHnBKM— عبد القادر النايل (@ABDLQADERALNAEL) December 5, 2023
والأخطر من ذلك كلّه، هو فقدان المواطن ثقته بمفوضية الانتخابات وسير العمل فيها، فهو لا يعتقد أنها مستقلة، بل خاضعة لإرادة الأحزاب.
وفقدان المواطن ثقته بمخرجات العملية الانتخابية، حيث غالبًا ما تُشكَّل الحكومة من الخاسرين في الانتخابات، بينما يعجز الفائز عن تشكيل الحكومة. مثال ذلك: فشل إياد علاوي في تشكيل الحكومة عام 2010 بالرغم من فوزه، فيما نجح محمد شياع السوداني في تشكيل حكومة عام 2022 بالرغم من أن كتلته السياسية لا تمتلك سوى مقعد نيابي واحد.
لقد سيطر على المواطن العراقي هاجس كبير وقوي، أن التغيير في العراق لن يكون عبر العملية الانتخابية، إنما عن طريق تدخل خارجي، أو صراع مسلّح لانتزاع السلطة، وهي خيارات تنطوي على مخاطر تخريب البلد وفقدان سيادته بدلًا من إصلاحه.
وحتى التجربة التي اختارها بعض المستقلين والمدنيين، في محاولة الوصول إلى البرلمان وإحداث التغيير من داخله، فقد فشلت فشلًا ذريعًا. فقد كان عددهم قليلًا وضعفاء التأثير، فيما انحاز بعضهم إلى الكتل الكبرى بعد فوزه بمقعد برلماني، الأمر الذي سبّب إحباطًا للمواطنين، وعزوفًا عن المشاركة في الانتخابات.
إن بعض أسباب الفشل السياسي في العراق يشارك فيه أيضًا الجهلاء من الشعب العراقي، الذين شاعت بينهم ثقافة بيع الأصوات الانتخابية مقابل ثمن زهيد، وهو دليل على عدم إدراكهم لمسؤولية أصواتهم وضرورة إعطائها لمن يريد بناء البلد. الأمر الذي جعل النخب المثقفة تبتعد عن المشاركة ولا تُثقِّف إليها، لأنها دون جدوى.
هل من جدوى في المقاطعة؟
كما يعلم الجميع، فإن المشاركة في الانتخابات حقٌّ ديمقراطيٌّ للمواطن، تكفله كل الدساتير الديمقراطية. وكذلك فإن عدم المشاركة في الانتخابات هو حقٌّ أصيلٌ للمواطن في الأنظمة الديمقراطية. لكن الحال في العراق مختلف قليلًا، حيث تتهم أحزاب الإطار التنسيقي المقاطعين للانتخابات بأنهم خائنون للوطن، وأنهم يعطون بمقاطعتهم هدية للفاسدين، ويتهمونهم بخيانة المذهب الشيعي والوقوف بصفّ معاوية ويزيد، إلى آخره من الاتهامات. وهي اتهامات باطلة، تحمل معها نفسًا طائفيًا مبعدًا.
لكن لنعد إلى أصل المقاطعة: هل مقاطعو الانتخابات لديهم هدفٌ سياسي؟ بمعنى، إن غالبية المقاطعين هم من الذين يريدون إصلاح العملية السياسية والنهوض بالبلد والتخلص من الفساد المستشري فيه، لكنهم فقدوا ثقتهم بالانتخابات، فامتنعوا عن المشاركة، ولكن ماذا بعد؟ هل المقاطعة ستحقق تلك المطالب؟ وهل المقاطعة ستمنع وصول الأحزاب الفاسدة إلى السلطة؟ بالتأكيد لا.
إن حجة المقاطعين، وعلى رأسهم مقاطعو التيار الصدري، هي “عدم مشاركة الأحزاب الفاسدة في الحكم”، ويريدون تشكيل حكومة أغلبية وطنية، وبسبب عدم تمكنهم من ذلك، قاطعوا الانتخابات.
من الواضح أن حجج التيار الصدري واهية وساذجة، لا سيما وأن البديل عن المشاركة في الانتخابات هو الجلوس والاكتفاء بالتفرّج على أحزاب الإطار التنسيقي وهي تقود العراق إلى الحضيض. إن عدم وضوح الرؤية عند التيار الصدري بشأن الخطوة اللاحقة لما بعد المقاطعة، يُفقد المقاطعة قيمتها السياسية.
لقد باتت مقاطعة الانتخابات سلاحًا فاعلًا أمام الأحزاب الفاسدة والميليشيات المتوغّلة في الدولة، وهي انعكاس لدرجة وعي الشعب الذي يدرك أن عليه مقاطعة الانتخابات التي تفرز أحزابًا فاسدة. وبسبب هذا، غالبًا ما تكون نسبة التصويت قليلة جدًا عند أهل الحواضر في بغداد والموصل والبصرة والنجف وسامراء، وعند الفئات المتعلّمة تعليمًا عاليًا، بينما تزداد نسبة التصويت في المناطق التي تحكمها العشائر، والقرى، والمناطق المختلطة، وبين الفئات المتوسطة من أصحاب الوظائف الحكومية.
مع ذلك، فإن الاكتفاء بالمقاطعة فقط، دون العمل على شيء يمكن من خلاله تمكين الشعب العراقي من انتزاع السلطة من تلك الأحزاب والميليشيات الفاسدة، هو فعل غير حكيم ولا يؤدي إلى شيء. والحل الأمثل هو توحيد جهود المجتمع العراقي والعمل بشكل سلمي لتصحيح مسار العملية السياسية، سواء من خلال تظاهرات أو فعاليات ثقافية وشعبية للوصول إلى الأهداف المنشودة.
ولنا في تجارب دول العالم أسوة حسنة، فقد قامت بعض الشعوب بانتفاضات وتظاهرات ونجحت في إصلاح بلدانها وتغييرها إلى الأفضل. مثال ذلك ما حصل في نيبال، حينما ثار الشباب ضد حكومة بلدهم، وما حصل في المغرب التي ما يزال فيها الحراك مستمرًا حتى الآن، ومؤخرًا ما حصل في مدغشقر وتسبب في هروب الرئيس إلى فرنسا، وغيرها الكثير من البلدان.
إن المقاطعة لن تستطيع تحقيق أهدافها المنشودة دون أن تكون مرتبطة بحراك شعبي وسياسي منظم، لأنها ستكون حينها تسويفًا للوقت وضربًا من الخيال.
وفي هذا الشأن، يرى الباحث في جامعة أريزونا، سليم سوزة، أن “المقاطعة الواعية ذات التنظيم العالي، التي لا تروّج لعدم المشاركة في الانتخابات من أجل العناد فحسب، لا تبدو متوافرة حتى الآن”، مبينًا أن الحملات في العراق “لم ترتقِ إلى برامج وخطط وثقافة سياسية تبدأ من الشارع، وتمارس السياسة من ميدانها الاجتماعي، وإنما هي مجرد ردّ فعل على السلطة”.
مقاطعة الانتخابات النيابية لوحدها هو ضرب من الجنون.
المقاطعة دون أن تكون مرتبطة بحراك شعبي وسياسي منظم، لن تستطيع تحقيق أهدافها المنشودةالمقاطعة لوحدها ستكون تسويفًا للوقت وفرصة لتقوية الفساد.
عليكم بالمقاطعة مع بدء حراكًا شعبيًا
بدون الحراك الشعبي، المقاطعة لا قيمة لها— نظير الكندوري (@nadheer2) October 15, 2025
فالمقاطعة لأجل المقاطعة فقط، لن تؤدي إلَّا إلى الفوضى، أما المقاطعة الواعية المرتكزة على برنامج سياسي تستهدف تطبيقه بعد إحداث التغيير، وترتكز على تنظيم الجماهير حتى تكون مقاطعة واعية وليست فوضوية، فهي الأسلوب الأمثل لتحقيق النقلة النوعية في تغيير البلد نحو الأفضل. أما ما يحدث اليوم في العراق، فإنه يشير بكل دقة إلى أن العراق ما زال لم يرتقِ في مستوى نضوج نُخَبه ومثقفيه، إلى المستوى الذي يجعلهم يبذلون الجهد في تنظيم صفوف الجماهير، لتوحيد طاقاتها وقيادة العمل التغييري في العراق.