في كل عامٍ تُعلن فيه الأكاديمية السويدية عن أسماء الفائزين بجائزة نوبل في الأدب، يخرج بعض العرب من عزلتهم الرمزية، يحدّقون في الشاشة بترقّب، كأنهم ينتظرون اعترافًا مؤجَّلًا بمجدٍ لم يتحقق بعد. وفي كل عام، يُذكر اسم أدونيس، ويُعاد تداوله كمرشّح دوريّ للجائزة، ثم يُطوى الخبر بعد دقائق، كأن شيئًا لم يكن.
قد لا يُنكر دوره في تحريك مياه الشعر العربي، ولا يُشكّك في موهبته الصافية أو في مشروعه الفكري الذي حاول أن يصالح بين التراث والحداثة. لكن السؤال الذي يطرح بإلحاح بعد أكثر من نصف قرن من الكتابة والاحتفاء، هو: هل كان أدونيس حداثيًا فعلاً؟ هل جاء بجديد؟ أم أنه جعل من الحداثة مجازًا مغلقًا، يُحاك داخله الشعر مثل طقسٍ لا يسمعه أحد؟
والحقّ، أن أدونيس لم يأتِ بالجديد الذي وعد به، بل أعاد ترتيب المفردات القديمة في قوالب لغوية باردة، تتوه فيها الفكرة ويُغتال فيها الشعور.
حين نقرأ شعره، نشعر أن اللغة تتكلم عن نفسها لا عن العالم، وأن القصيدة لم تعد حقلًا للدهشة، بل مختبرًا للمفاهيم، فلطالما كانت قصيدة العرب كائنًا من لحم ونَفَس وصوت، تستمد حضورها من فطرة اللغة ومن مجازها الشعبي، من نبرتها التي تشبه الشارع والبستان والموت والموال، لكن أدونيس وهو يحاول تحديثها نزع منها هذا الجسد، وأحالها إلى فكرٍ نقيّ، منزوٍ عن الواقع، منزوع النغمة، خالٍ من الدهشة، قصيدة تُقال لتُعجِب، لا لتُؤثّر.
لقد خندق الرجل القصيدة في مقاييس وضعها لنفسه: حداثة تقوم على التهويم لا على الاكتشاف، على التكلّف لا على الحسّ، وعلى الصورة لا على النبرة، أراد أن يحرر الشعر من بلاغته القديمة، فإذا به يستبدل بلاغة الماء ببلاغة الزجاج، صار النص عنده مرآة تبهرك ولا تشرب منها، لا تروي عطشًا، ولا تترك أثرًا في القلب. بهذا المعنى، لا تمثل تجربة أدونيس مشروعًا تحرريًا كما يدّعي، بل انفصالًا تامًا عن الروح التي أنجبت الشعر العربي في أصله الأول.
العالم لا يلتفت إلى هذا النوع من الشعر، لا لأنه عربي فحسب، بل لأنه لا يحمل ما يمكن أن يُترجم وجدانياً إلى لغة أخرى، فالشعر الذي يقطع جذره من لغته، يفقد القدرة على أن يكون مفهومًا حتى داخل بيئته، الغرب لم يتجاهل أدونيس لأنه عربي، بل لأنه يكتب بلغةٍ متحفية، لا تملك حرارة الإنسان ولا عفوية المعنى. كل جائزة كبرى، مهما كانت سياسية أو منحازة، تبحث في النهاية عن صوتٍ يوقظ الوجدان، لا عن منظّر لغوي يكتب كأنه يشرح قصيدة لا يجرؤ على غنائها.
أدونيس هو نتاج مرحلة عربية صدّقت أن الطريق إلى العالمية يمر عبر كسر اللغة، بينما كانت العالمية الحقيقية كامنة في عمقها، في موسيقاها الداخلية، في مفرداتها التي تشبه البشر. لذلك، حين يُذكر اسمه كل عام، يبتسم العالم ثم يمضي. فالحداثة التي أرادها لم تخرج من الورق، بل ظلت فكرة متحجرة داخل نصٍ معقدٍ لا يفيض إلا على صاحبه.
إنه شاعر بلا زمن، بلا لغة يمكن أن تُلمَس، بلا صورة يمكن أن تُترجَم. كتب كثيرًا عن البحر لكنه لم يبتلّ، عن النار لكنه لم يحترق، عن اللغة لكنه لم ينطقها. لذا، سيظل أدونيس، مهما أُعيد ترشيحه، رمزًا لشعرٍ انغلق على نفسه حتى اختنق.
جائزة نوبل لا تُمنح للغز المغلق، بل لمن استطاع أن يُعبّر عن الإنسان في لغته، مهما كانت حداثته أو تقليديته. وأدونيس، الذي حلم أن يكون جسراً بين الشرق والغرب، هدم الجسر وهو يشيّده، فظل على ضفةٍ يتأمل الضفة الأخرى دون أن يصل إليها.
الحداثة الناقصة
منذ منتصف القرن العشرين، أعلن أدونيس مشروعه الشعري بوصفه “ثورة على الموروث”، لكن هذه الثورة بدت، مع مرور الوقت، أقل شجاعة مما توهّم أصحابها، وأقرب إلى تمرين جمالي في “تطهير اللغة من نفسها”، حتى فقد الشعر العربي عنده صلته بالإنسان والواقع والزمان. كانت الحداثة، كما قدّمها، بناءً لغويًا مغلقًا، ينهض على “التفكيك” أكثر مما ينهض على “الخلق”، وعلى “الغرابة” أكثر من “المعنى”، وعلى “الاغتراب” أكثر من “التجربة”.
لهذا، لا يبدو غريبًا أن يقف العالم في كل دورة من دورات جائزة نوبل، مترددًا أمام اسم أدونيس. ليس لأن الرجل لا يستحق التقدير، بل لأن مشروعه لم يعد يمثل العالم الذي يريد أن يفهم الشرق، بل يمثل شاعرًا أراد أن يخلق شرقًا آخر على مقاسه اللغوي الخاص. لقد كتب أدونيس نصوصًا تشبه المدن الفاضلة: جميلة، مرتبة، ومعقّمة من الصراخ. لكنّ الشعر، كما يعرفه العالم، ليس تجميلًا للدم، بل إنشادًا من قلب الجرح نفسه.
في الغرب مثلًا، حيث تنشأ لجنة نوبل، يُقاس الشعر بقدرته على خلق أثر إنساني، لا لغوي فقط؛ بقدرته على النفاذ إلى قلب القارئ في لغته الأصلية أو في ترجمتها، لا على تشييد متاهة من المجاز. وأدونيس، برغم مكانته الكبرى في الوعي العربي، فشل في ترجمة هذا الأثر عالميًا، لأن قصيدته انغلقت على جهازها المفاهيمي الخاص، فلم يعد ممكنا نقلها إلى لغة أخرى دون أن تفقد روحها تمامًا.
لقد كان طموحه، منذ البداية، أن يكون “الشاعر الكوني”، لكنّ كونيّته ظلت شكلية: متعالية على الناس لا مشتبكة معهم، مشغولة بتأصيل الرمز أكثر من اشتباك المعنى. وفي الوقت الذي كانت فيه قصائد محمود درويش، مثلًا، تُترجم وتُغنّى وتُقرأ في الشوارع، ظلّ أدونيس محصورًا في الصفحات البيضاء للنقاد، يكتب لجمهور من المختصين في الحداثة، لا لجمهورٍ يعيش الحداثة ويتنفسها.
الحداثة التي بشّر بها أدونيس كانت حداثة منقوصة؛ حداثة تصنع صنمًا لغويًا جديدًا لكنها تترك الإنسان جائعًا وحيدًا أمام المعجم. والجوائز الكبرى، في نهاية المطاف، لا تُمنح لمن يخلق مجازًا باردًا، بل لمن يعيد الدفء إلى اللغة. ولعل هذا هو ما يجعل أدونيس، رغم عظمته، شاعرًا سيظل خارج قائمة نوبل إلى الأبد.
خيانة القصيدة
لم يكن أدونيس شاعرًا قليل الموهبة، ولا مجرد مجرب لغوي عابر، إذ أدرك مبكرًا أن الشعر هو السلطة الممكنة الوحيدة في عالمٍ بلا سلطة، لذلك صاغ مشروعه على هيئة “ثورة لغوية” هدفها كسر السائد وخلخلة الموروث، لكنه – من حيث لا يدري – أعاد إنتاج ما ثار عليه، فحوّل اللغة إلى سلطة جديدة، والقصيدة إلى معبد لا يدخله إلا المؤمنون بلغته.
لقد افترض أدونيس أن تحديث القصيدة لا يكون إلا بقتل إيقاعها، ونفي وجدانها الجمعي، وتخليصها من كل أثر ديني أو أسطوري أو وجداني. فبدل أن يفتح الطريق أمام الشعر العربي ليتنفس هواء القرن الجديد، أغلقه داخل غرفته الخاصة، حيث يدور الشعر حول نفسه في دوائر من الرمز والتمويه. لم تعد القصيدة عنده حدثًا إنسانيًا، بل تجربة ذهنية، معادلة فكرية باردة تطلب من القارئ أن يفك شفرتها لا أن يعيشها.
في هذا التحول، خسرت قصيدة أدونيس شيئًا من روح الشعر العربي التي ظلّت قرونًا تربطها بالحياة اليومية، بالناس، بالحب والموت والحنين والمقاومة. لقد جعل أدونيس من القصيدة كائنًا مختبريًا، يختبر اللغة كما لو كانت مادة كيميائية، بينما كانت القصيدة، منذ المعلقات وحتى السياب ودرويش، كائنًا حيًا يختبر الوجود نفسه.
والمفارقة أن أدونيس، في سعيه إلى التحرر من التقاليد، وقع في عبودية أخرى: عبودية المفهوم. فكل نص عنده يطل من نافذة النظرية لا من قلب التجربة. هو لا يكتب ما عاشه، بل يكتب ما فكّر فيه. لا يصوغ العالم كما يراه، بل كما يتصوره العقل في أعلى درجات التجريد. ولذلك، حين يقرأه القارئ العربي البسيط، لا يجد أثر قلبه في النص، بل أثر معجم ثقافي شديد التعقيد، غارق في النخبويّة.
إن الحداثة التي أرادها أدونيس لم تكن تحديثًا للقصيدة بقدر ما كانت إعادة هندسة لها، كأنها بناء هندسي يجب أن يخضع للمعايير الجمالية الصارمة التي وضعها هو نفسه. وهنا وقع في فخ “التحنيط الجمالي”، إذ تحوّلت قصيدته إلى أثر لغوي فاخر، لكن بلا حياة. لقد صنع من الشعر متحفًا كبيرًا للغة، بينما كان الشعر في جوهره نقيض المتحف، لأنه ينمو ويتحوّل ويخطئ ويصيب، شأنه شأن أي إنسان فان.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن أدونيس فتح الباب أمام سؤال كان يجب أن يُطرح: ماذا يعني أن نكتب شعرًا بعد خراب العالم؟ لكنه حين طرح السؤال، لم ينتظر الإجابة من العالم نفسه، بل من اللغة وحدها، ومن هنا بدأ الانفصال بين الشعر والحياة. لقد أراد أن يُحرر القصيدة من التاريخ، فألغى حضور الإنسان فيها، حتى صار الشعر عنده طيفًا بلا جسد، وفكرة بلا عاطفة.
من ملف #أدب_المهجر
تستطيعون قراءة الملف كاملاً من خلال موقعنا الإلكتروني على الرابط:https://t.co/46fMHk0aTn pic.twitter.com/rKy1vDPxVq
— نون بوست (@NoonPost) August 13, 2023
نادى أدونيس بالثورة على الثابت والمقدس، لكنه لم ينتبه أن الشعر حين يفقد حسّه بالقداسة يفقد أيضًا سببه في الوجود. فالمقدس في الشعر ليس دينًا، بل دهشة الوجود الأولى، تلك التي تجعل القصيدة صلاة من نوع آخر. وحين استبدل أدونيس هذه الدهشة بالتجريد، صارت القصيدة عنده نوعًا من “العبادة الذهنية”، لا تهز القلب بل تدهش العقل فقط، وهذه ليست وظيفة الشعر.
ثم جاء جيلٌ من الشعراء مفتونٌ بأدونيس، يقلد لغته، ويردد عباراته، ويقدّس التمرد بوصفه غاية لا وسيلة. فانتشرت القصائد التي لا تُقال لتُفهم، بل لتُبهر. قصائد مصقولة كالمرايا، لكنها لا تعكس شيئًا. وهكذا تحوّل ما كان يُفترض أنه مشروع تحرر شعري إلى سلطة جديدة، تحتكر تعريف “الحداثة” وتقصي كل من يكتب خارجها.
إن مشكلة أدونيس الحقيقية أنه لم يفهم أن التجديد لا يكون في شكل القصيدة وحده، بل في روحها. فقصيدة درويش مثلًا، كانت أكثر حداثة منه لأنها حملت الوجدان الجمعي دون أن تتخلى عن لغتها الحديثة. ومحمود درويش لم يحتج إلى هدم كل الماضي ليكتب المستقبل، بل أعاد أنسنة القصيدة حين أعادها إلى الناس. بينما جعلها أدونيس ملكًا للنخبة، نصًا يقرأه الشعراء للشعراء، في دوائر مغلقة لا يدخلها الضوء.
لقد أراد أن يصنع “القصيدة الكبرى” التي تختصر العالم، فاختصر العالم في ذاته، وترك الشعراء الصغار يبحثون عن مكانٍ لهم بين فتات لغته. ومع مرور الوقت، صار أدونيس رمزًا لا لثورة الشعر، بل لانفصاله عن الناس، شاعر يشبه الكهنة الذين يعبدون اللغة، بينما الناس في الخارج يتكلمون بلسان الألم اليومي، لا بلسان المجاز العالي.
وهكذا، خان أدونيس القصيدة
خان أدونيس القصيدة لا بأنه تخلّى عن الوزن أو القافية، بل لأنه تخلّى عن معناها الأول: أن تكون جسدًا يتنفس فيه الإنسان. جعلها طقسًا لغويًا مغلقًا، وتركها تتعالى على تراب الأرض. خانها حين جعل من الشاعر نبيًّا بلا رسالة ولا أتباع، وكاهنًا بلا طائفة، يكتب لفراغٍ متعالٍ لا يسمع سوى صداه.
لقد خان القصيدة حين صدّق أن الشعر يمكن أن يعيش في المختبر، وأن اللغة قادرة وحدها على حمل الوجود. لكنه نسي أن الشعر، قبل أن يكون بناءً لغويًا، هو جرحٌ مفتوح في الجسد الجمعي. نسي أن الكلمة حين تُقال من علٍ تفقد دفئها، وأن اللغة بلا عرقٍ ودمٍ وأمٍّ باكية ليست شعرًا بل صنعة.
في ملف #أدب_المهجر نقدم صورة عن الأدباء الذين كتبوا عن مجتمعاتهم، وهم بعيدون عنها، , ونسلط الضوء على رؤية جامعة للظروف السياسية والثقافية، والهمّ الاجتماعي في الكتابة المُلتزمة للوطن المفقود ولو من بلدٍ بعيد.🧵
✍️إسلام السيد
📍 https://t.co/BW4HCYiCWs pic.twitter.com/cdPwvWo3hE
— نون بوست (@NoonPost) August 25, 2024
كان يمكن لأدونيس أن يكون ثائرًا، لو أنه ثار من داخل الناس لا من فوقهم. لكنه حين صعد إلى سماء اللغة، ترك القصيدة على الأرض تموت عطشًا. لذلك لم يعد شعره بعد زمنٍ طويل يُشبه الإنسان، بل يُشبه الفكرة وهي تتأمل ذاتها في المرآة.
إن خيانة أدونيس للقصيدة ليست خيانة فرد، بل خيانة جيلٍ ظن أن الخلاص في التجريد، وأن الحداثة أن تنسى أصل الصوت. لكنها قصيدة لا تُروى من نبعٍ حيّ، بل من ماءٍ اصطناعي. لقد أنقذ اللغة من تكرارها، لكنه قتل الشعر في طريقه إلى ذلك الخلاص.
ربما تُخلّد تجربة أدونيس الشعرية، لكنها ستبقى دليلًا على أن البراعة قد تضلّ الطريق حين تنسى قلبها، فالشعر لا يُكتب ليُدهش، بل ليُنقذ، لا ليُبهر العقول، بل ليُعيد للإنسان صوته في عالمٍ يصادر كل صوت.
ما بين الثابت والمتحوّل
في النهاية، لم يكن أدونيس سوى الابن الأكثر طاعةً للكتاب الذي كتبه — الثابت والمتحوّل. فقد ظلّ طوال حياته يحارب الثابت في اللغة والفكر، حتى صار هو نفسه “ثابتًا” جديدًا. تحوّل إلى ما كان يخشاه: رمزًا للجمود باسم الحركة، وكاهنًا للتجريب الأبدي الذي لا يلد شيئًا.
كان يرى في القصيدة ميدان صراعٍ بين القديم والجديد، لكنه نسي أن جوهر الشعر لا يقيم في أحدهما، بل في المسافة بينهما؛ في تلك المنطقة التي يتنفس فيها الإنسان وهو يعبر من الحنين إلى الحلم. هناك وحدها يعيش الشعر، لا في الماضي الميت، ولا في المستقبل المصنوع، بل في اللحظة التي يتجاور فيها الألم مع الأمل، والذاكرة مع اللغة.
أدونيس، وهو يفتش عن المتحوّل، قتل ما كان يمكن أن يبقى حيًا في الثابت — روح الشعر الأولى، تلك التي لا تُقاس بالبيان ولا بالتنظير، بل بارتجافه القلب حين يواجه الوجود بالكلمة. وهكذا انتهى مشروعه إلى مفارقة مأساوية: أن الحداثة التي بشّر بها تحوّلت إلى أثرٍ جامد، وأن قصيدته التي أرادها ثورة صارت درسًا في المتحف.