في التاسع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، توفي في صنعاء عبدالله شمسان الأكحلي، العامل في قسم تقنية المعلومات لدى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR). توفي هذا الشاب اليمني بشكل مفاجئ إثر ذبحة صدرية، وقبل وفاته بأيام كان عبدالله يشكو لأقاربه خشيته من أن تعتقله جماعة أنصار الله (الحوثيين) في أي وقت بسبب عمله في منظمة تابعة للأمم المتحدة. ذلك الترقب خلق توترًا وخوفًا لدى عبدالله، الذي كان يرى بين الحين والآخر كيف يُساق زملاؤه إلى السجون من قبل الجماعة دون أن يعرفوا ما هي تُهمهم.
يقول “م. ح”، أحد أصدقاء عبدالله، لـ”نون بوست”: “اعتقدت أن صديقي قد أصيب بحالة نفسية بسبب خوفه من الاعتقال، لكني لم أتوقع أنه سيموت بسبب الخوف”.
كيف تحوّلت المدارس في اليمن من ساحات للتعليم إلى جبهات للقمع؟
لقراءة المزيد من التفاصيل في المقال 👇👇https://t.co/TfIkdkOgW4 pic.twitter.com/hofw5Ji57M
— نون بوست (@NoonPost) September 20, 2025
شهدت صنعاء ومناطق أخرى مؤخرًا تصاعدًا في وتيرة الاعتقالات والانتهاكات التي طالت موظفين محليين في الوكالات الأممية، إذ وصل عدد المحتجزين حاليًا لدى جماعة الحوثي إلى 53 شخصًا، بعضهم محتجز منذ عام 2021، وفقًا لما أعلنه المتحدث باسم الأمم المتحدة ستيفان دوجاريك.
تثير هذه الاعتقالات المتكررة سلسلة من التساؤلات حول دوافع جماعة الحوثي وأهدافها من وراء استهداف الموظفين الأمميين:
لماذا تنفذ الجماعة هذه الاعتقالات؟ وما أثرها على مهام وأنشطة المنظمات الإغاثية العاملة في مناطق سيطرتها؟ وهل ترتبط هذه الحملة بالنزاع الداخلي الدائر في اليمن أم تتجاوز ذلك لتشمل أبعادًا سياسية وأمنية أوسع؟ كما يبرز سؤال آخر حول مدى ارتباط هذه الاعتقالات بالضربات الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت مواقع للجماعة.
موظفون أم جواسيس؟
في يونيو/حزيران 2024، بررت جماعة الحوثي احتجازها لعدد من الموظفين الأمميين في صنعاء بأنه جاء نتيجة “عدم التزام الأمم المتحدة بمواثيق عملها في اليمن”، على حد وصفها. حينها، قال محمد علي الحوثي، عضو المجلس السياسي الأعلى للجماعة: “ندين أمريكا في توظيف جواسيسها تحت ستار العمل الإنساني والدبلوماسي”، مؤكداً في تصريحات صحفية أن لدى جماعته “أدلة ووثائق” تثبت تورط عدد من موظفي الأمم المتحدة في أعمال تجسسية داخل صنعاء، مشيرًا إلى أن جماعته “لن تسلم تلك الأدلة إلا لطرف ثالث يرفض انتهاك سيادة البلدان”. كما طالب الأمم المتحدة ومنظماتها “بتقديم تفسير لهذه التصرفات غير المبررة”، وفق تعبيره.
وفي أواخر أغسطس/آب الماضي، اعتقلت جماعة الحوثي العشرات من الموظفين الأمميين بتهمة الاشتباه بتورطهم في عملية اغتيال رئيس وزراء صنعاء أحمد الرهوي وعدد من أعضاء حكومته، التي نفذها جيش الاحتلال الإسرائيلي. وردًا على تلك الخطوة، واحتجاجًا على استمرار الاعتقالات بحق موظفيها في صنعاء، أعلنت الأمم المتحدة في 26 سبتمبر/أيلول الماضي تقييد تعاملها مع المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين إلى أدنى مستوياتها، باستثناء المساعدات المنقذة للحياة.
يعاني أكثر من 17 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي، بينهم 2.2 مليون طفل مصاب بسوء تغذية حاد.. اليمنيون في مواجهة الموت البطيء
📌التفاصيل كاملة في تقريرنا التالي 👇https://t.co/N79CgEFAI6#اليمن pic.twitter.com/dtqSFDy4jU
— نون بوست (@NoonPost) August 18, 2025
اتهم عبدالملك الحوثي في حديثه الموظفين المعتقلين في سجون الأجهزة الأمنية التابعة لجماعته بأنهم استخدموا أجهزة تقنية متطورة للرصد واختراق الاتصالات، تُستعمل عادة لدى أجهزة الاستخبارات العالمية، مشيرًا إلى أنه “لا يوجد من سيحمي منتسبي المنظمات الإنسانية من المحاسبة والمساءلة”.
يرى المحلل السياسي عبد المجيد الصلاحي أن الاعتقالات التي تنفذها جماعة الحوثي ضد موظفي الأمم المتحدة والمنظمات الدولية لا يمكن اعتبارها حوادث معزولة أو ذات طابع أمني بحت، بل هي جزء من مشروع أوسع للسيطرة والتحكم بكل ما يجري داخل مناطق الجماعة، بما في ذلك النشاط الإنساني والدبلوماسي. ويقول الصلاحي في حديثه لـ”نون بوست”: “تهدف جماعة الحوثي إلى إرسال رسالة مفادها أنها السلطة الفعلية التي لا يمكن تجاوزها، كما تسعى إلى إسكات الشهود الدوليين على انتهاكاتها”.
من جانبه، أشار ستيفان دوجاريك، المتحدث باسم الأمم المتحدة، عبر الموقع الإلكتروني التابع للمنظمة، إلى أن مناطق سيطرة الحوثيين شهدت تسجيل 28 حالة شلل أطفال، ما يجعل مهمة حماية كل طفل أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، في إشارة إلى دعوة ضمنية لعودة أنشطة الأمم المتحدة في تلك المناطق.
أما الدكتور فارس البيل، رئيس مركز المستقبل اليمني للدراسات الاستراتيجية، فيرى في حديثه لـ”نون بوست” أن جماعة الحوثي لا تُعير اهتمامًا حقيقيًا لاحتياجات اليمنيين أو لاستمرار المساعدات الإنسانية المقدَّمة من الأمم المتحدة والمنظمات الإغاثية والصحية، رغم أثرها الكبير في حياة الناس هناك. ويؤكد البيل أن الجماعة تسعى للسيطرة على مسار المساعدات الإنسانية وتوظيفها لخدمة مصالحها الحربية والاقتصادية، وحينما شعرت بأنها لم تعد تستفيد من تلك المساعدات، لجأت إلى سياسة الاعتقالات. وبحسب رؤيته، فإن الحوثيين يستخدمون اعتقال الموظفين الأمميين كأداة ابتزاز للأمم المتحدة والمجتمع الدولي، للضغط من أجل تمرير مخططاتهم، خاصة مع تصاعد المواقف الدولية الرافضة لانتهاكاتهم.
ورقة تفاوضية
في الشهر الفائت، أعلن الأمين العام للأمم المتحدة، خلال لقائه برئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني رشاد العليمي، عن اتخاذ إجراءات جديدة لحماية موظفي العمل الإنساني في اليمن، من بينها نقل مكاتب المنظمات الأممية إلى مدينة عدن.
ويرى مسؤولون في الحكومة اليمنية أن ردود أفعال الأمم المتحدة تجاه انتهاكات جماعة الحوثي غالبًا ما تكون مؤقتة وانفعالية، وسرعان ما يتراجع مسؤولوها عن قراراتهم. ويستدل هؤلاء على ذلك بتراجع المنظمة في مارس/آذار الماضي، حين استأنفت أعمالها في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين بعد تعليقٍ استمر أسبوعًا واحدًا فقط.
وفي هذا السياق، يشير نبيل عبد الحفيظ، وكيل وزارة حقوق الإنسان في الحكومة اليمنية، في حديثه لـ”نون بوست”، إلى أن حكومته طالبت الأمم المتحدة منذ ثمانية أعوام بنقل مقراتها إلى مدينة عدن، غير أن المنظمة لم تستجب، متذرعة بأن مقرها الرئيس في صنعاء قائم منذ ما قبل اندلاع الحرب التي ما تزال مشتعلة حتى اليوم.
ويؤيد الباحث في الشأن اليمني فارس البيل هذا الطرح، مؤكدًا أن ضعف مواقف الأمم المتحدة تجاه انتهاكات الحوثيين يعود إلى خضوع المنظمة لتوجهات القوى الكبرى، التي تتعامل مع الجماعة، بحسب تعبيره، بـ”الدلال”، ما شجعها على التمرد على القرارات والاتفاقيات الدولية.
تتبنّى الأمم المتحدة، بحسب مراقبين، سياسة الحذر والموازنة في تعاملها مع جماعة الحوثي، خشية أن يؤدي أي تصعيد إلى طرد موظفيها أو وقف برامجها في شمال اليمن، الأمر الذي قد يؤثر على ملايين المحتاجين هناك. كما تعاني المنظمة من بيروقراطية دولية تجعل قراراتها بطيئة ومترددة، وفق رأي المحلل السياسي عبدالمجيد الصلاحي، الذي يضيف سببًا آخر يتحرج كثيرون من ذكره، وهو أن أغلب المعتقلين لدى جماعة الحوثي يمنيون، وبالتالي لا يحظون بالأولوية نفسها التي كانت ستُمنح لو كانوا موظفين أجانب.
ويرجّح الصلاحي، في ختام حديثه لـ”نون بوست”، أن جماعة الحوثي ستستخدم ملف اعتقال الموظفين الأمميين كورقة تفاوضية خلال المرحلة المقبلة، سواء مع المبعوث الأممي أو مع القوى الإقليمية. ومن المتوقع، بحسب تقديره، أن يجري الإفراج عن بعض المعتقلين بشكل تدريجي أو مشروط مقابل تنازلات إنسانية أو سياسية، إلا أنه لا يتوقع حلولًا جذرية على المدى القصير، إذ تدرك الجماعة أن احتجاز هؤلاء الموظفين يمنحها ورقة ضغط إضافية على طاولة أي حوار قادم.