ترجمة وتحرير: نون بوست
صورة لمنزل فاخر في دمشق نُشرت على فيسبوك، واسم قرية صغيرة على الساحل السوري ورد في وثيقة عقوبات، ورقم هاتف يبدأ برمز دولة روسيا تم تمريره بشكل سري للصحفيين.
على مدار عشرة أشهر، جمعت صحيفة نيويورك تايمز هذه الأدلة وغيرها لتكشف مصير بعض كبار المسؤولين السوريين الذين ساعدوا نظام بشار الأسد على مدى سنوات في ارتكاب فظائعه.
بعد سقوط الحكومة في ديسمبر/ كانون الأول، ومع اقتراب ساعة المحاسبة، فرّ معظم هؤلاء المسؤولين أو تواروا عن الأنظار. تلاحقت خلفهم الشائعات، وانتهى كثير منها إلى طرق مسدودة. لكن في بعض الحالات، قادتنا تلك الخيوط مباشرة إلى عدد من المسؤولين السابقين في نظام الأسد.
جمعت الصحيفة هذه الأدلة، إلى جانب جهود صحفية إضافية: مراجعة الوثائق، وتتبع الخيوط، وطرق الأبواب، وإجراء مقابلات مع عشرات المصادر، بما في ذلك مسؤولون سابقون في النظام، وأفراد من عائلاتهم، وموظفون، ومسؤولون غربيون، وخبراء قانونيون.
بدأت الحقائق تنجلي بشأن بعض معاوني الأسد، إلا أن البعض مازالت تحيط به الألغاز، والتحقيق بشأنهم مستمر.
حين شرعنا في هذا التحقيق، واجهتنا منذ البداية معضلة جوهرية: على مَن نُسلّط الضوء، حيث أن عددًا هائلًا من الأشخاص لعبوا أدوارًا في الحرب الأهلية الوحشية التي قادها نظام الأسد على مدى ثلاثة عشر عامًا، وراح ضحيتها نصف مليون إنسان.
بدأنا بلائحة تضم مئات الأفراد الذين فُرضت عليهم عقوبات من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانيا، بسبب صلتهم بجرائم ارتُكبت تحت مظلة نظام الأسد.
جمعت صحيفة نيويورك تايمز معلومات أساسية عن عدد من كبار المسؤولين السوريين الذين ارتبطوا بانتهاكات نظام بشار الأسد بالاعتماد على تقارير من وسائل إعلام ومنظمات غير حكومية مثل “صحافة سوريا الحرة”، و”زمان الوصل”، و”رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا”، ومنظمة “مع العدالة”.
وقد شارك المركز السوري للعدالة والمساءلة والأرشيف السوري أبحاثًا داخلية مع صحيفة نيويورك تايمز، تتبعت الأدوار التي شغلها عدد من المسؤولين خلال سنوات الحرب. هذه البيانات ساعدتنا على تضييق نطاق التركيز ليشمل أولئك الذين يتحملون أعلى المناصب.
أعطى التحقيق الأولوية للأفراد المرتبطين بالمؤسسة العسكرية وأجهزة الاستخبارات وبرنامج الأسلحة الكيميائية السوري، واستبعد من شملتهم العقوبات لأسباب مالية أو إدارية. ومع ذلك، بقيت في القائمة مئات الأسماء.
بعد ذلك، اختارت التايمز تسعة من أخطر أو أكثر نقاط الاشتباك كشفًا خلال الحرب، من قتل المتظاهرين السلميين إلى الهجمات الكيميائية، وقد ساعد تحديد كبار المسؤولين المرتبطين بهذه الأحداث في تقليص القائمة إلى 55 اسمًا.
قدّمت منظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية السورية، التي عملت لسنوات على تمهيد الطريق للمحاسبة، أبحاثاً معمّقة عن هؤلاء الأفراد، مما ساعد في فهم أدوارهم خلال فترة حكم الأسد بشكل أوضح.
استفدنا في التحقيق من خبرات “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير”، والمحامي الحقوقي أنور البني، وهما يقفان خلف بعض أبرز الدعاوى القضائية ضد مسؤولين سوريين في أوروبا، بمن فيهم بعض من وردت أسماؤهم في التقرير.
كما قدّم نضال شيخاني، مدير منظمة “نفَس العدالة” ومركز توثيق الانتهاكات الكيميائية في سوريا، معلومات جمعها فريقه عن كبار المسؤولين في برنامج الأسلحة الكيميائية، وربط الصحيفة بمصادر مطلعة على عمل “مركز الدراسات والبحوث العلمية السورية”، وهي الهيئة الحكومية المسؤولة عن تطوير الأسلحة الكيميائية في نظام الأسد.
اعتمد فريق “التحقيقات البصرية” بشكل كبير على المعلومات مفتوحة المصدر، أي تلك المتاحة على الإنترنت، وإن لم يكن الوصول إليها أو الربط بينها بالأمر السهل دائمًا. وبينما تواصلنا مع مصادر وخبراء في هذا المجال، كنا أيضًا نغوص في حسابات وسائل التواصل الاجتماعي، وإعلام النظام السوري السابق، ومصادر إلكترونية أخرى بحثًا عن معلومات تتعلق بالأشخاص الذين نركّز عليهم.
رغم خضوع هؤلاء المسؤولين السابقين لعقوبات من عدة حكومات غربية، إلا أن ظهورهم العلني – إن وُجد – أمر نادر، مما يسهّل عليهم التحرك دون لفت الأنظار.
ومن خلال تمشيط مئات الصور على المنصات الاجتماعية، وفي الإعلام الرسمي للنظام السابق، ومصادر تتمتع بالخبرة في الأوساط الأكاديمية والمجتمع المدني السوري، تمكّنا من تحديد صور لعدد من هذه الشخصيات الغامضة. كما تحققنا من أسمائهم عبر التواقيع، وبطاقات الهوية، ووثائق رسمية أخرى، مصحّحين أخطاء في التهجئة والترجمة الصوتية ظهرت حتى في قوائم العقوبات التي أعدّتها حكومات غربية.

للمساعدة في التحقق من أن الصور الواردة من مصادر مختلفة تعود للأشخاص أنفسهم، استعانت نيويورك تايمز بالبروفيسور حسن عُقيل، الأستاذ بجامعة برادفورد البريطانية والمتخصص في تقنيات التعرف على الوجوه، لتحليل تلك الصور.
على سبيل المثال، لطالما أخطأت وسائل الإعلام ومواقع التواصل في التعرف على بسام حسن، أحد أبرز أعوان بشار الأسد. لكن الصحيفة عثرت على عدة صور قديمة منشورة على فيسبوك يُعتقد أنها تُظهر حسن في فترة شبابه. وقد قارن الأستاذ عقيل هذه الصور بصورة حديثة حصلت عليها الصحيفة، وأكد أنها جميعًا تعود للشخص نفسه.
أما سهيل الحسن، المسؤول العسكري البارز، فقد مثّل تحديًا مختلفًا بسبب تغيّر ملامحه، ما دفع بعض السوريين إلى التكهن بأنه خضع لجراحة تجميلية. لكن فريق الصحيفة أجرى تحليله الخاص بمساعدة الأستاذ عقيل الذي رجّح بدرجة عالية أن الصور المختلفة تعود بالفعل لسهيل الحسن.
فتح هذا العمل آفاقًا جديدة، وسهّل تتبّع الوجود الرقمي لبعض المسؤولين السابقين، مما أتاح فهمًا أعمق لهوياتهم وأدوارهم خلال فترة وجودهم في السلطة.
نقّبنا في إعلانات الوفيات بحثًا عن أسماء أفراد محتملين من عائلاتهم، وجمعنا أرقام هواتف وعناوين بريد إلكتروني. اتصلنا بالأرقام التي عثرنا عليها عبر الإنترنت أو حصلنا عليها من مصادرنا، وقد أوصلتنا بعض تلك المكالمات مباشرة إلى مسؤولين سابقين في نظام الأسد كنا نحقق بشأنهم.
ساعدتنا صور الأقمار الصناعية وبيانات تتبّع السفن والطائرات في رسم مسارات الهروب التي يُشاع أن بعض المسؤولين سلكوها خلال الساعات والأيام التي أعقبت سيطرة المعارضة السورية على البلاد. وقد دعمنا هذه المعلومات بشهادات شهود عيان شاركوا مباشرة في عمليات الهروب.
استخدم الفريق أدوات الذكاء الاصطناعي لترجمة وتفريغ أكثر من 13000 وثيقة صوّرها صحفيو نيويورك تايمز والصحفية المستقلة لينزي بيلينغ. احتوت بعض الوثائق على أوامر تربط عددًا من المسؤولين الـ55 الذين نحقق بشأنهم بجرائم محتملة. من بين هذه الوثائق، أمرٌ بحجب أخبار وفاة معتقلين عن عائلاتهم، وقّعه محمد كنجو الحسن، الذي أصدر أحكام إعدام بحق مدنيين ومعارضين سياسيين.
سافر فريق الصحيفة إلى لبنان وفرنسا وبلجيكا، وحتى إلى سوريا في عدة مناسبات، للقاء خبراء ومصادر، وطرق الأبواب، وزيارة بلدات المسؤولين السابقين.
اختفى معظم هؤلاء المسؤولين السابقين، لكن منازلهم الفاخرة بقيت لتروي قصة مختلفة عن السقوط الفوضوي للنظام. منح مسؤولون حكوميون حاليون، وأفراد من عائلات المسؤولين السابقين، الإذن للصحيفة بالتجوّل في عشرات الفلل، بعضها مزوّد بمسابح ومحاط بأسوار عالية، وبعضها نُهب، وبعضها الآخر احتلّه ضباط جدد أو عائلات نازحة بسبب الحرب.
هناك منازل أخرى يحيط بها صمت مريب، ويعتني بها أقارب بعيدون بانتظار عودة قد لا تحدث أبدًا، أما بعضها فقد تحوّل إلى مواقع عسكرية.
داخل هذه المنازل المهجورة، كثيرًا ما وجدنا ما كنا نبحث عنه: أدلة تركها أصحابها على عجل، دون قصد. صوّرنا بطاقة ائتمان منتهية الصلاحية، وفاتورة خدمات تحمل اسمًا كاملًا، وصورًا عائلية، كل واحدة منها منحتنا لمحة، ولو ضئيلة، عن هوية هؤلاء الأشخاص، وأين يمكن أن يكونوا الآن.
من خلال هذه الجهود، تمكّنت الصحيفة من تحديد أماكن وجود عدد من كبار مسؤولي النظام السابق حول العالم، وحددت مواقع ما لا يقل عن 12 من أصل 55 شخصًا في القائمة التي شملها التحقيق.
لكن أيًا منهم لم يُعتقل حتى الآن. بعضهم يعيش بهدوء في العلن، بينما اختفى آخرون داخل شبكات من الحماية والسرية في دول مثل روسيا والإمارات. ما زال التحقيق جاريًا في الجرائم المنسوبة إليهم داخل سوريا، وفي أنشطتهم منذ سقوط النظام.
المصدر: نيويورك تايمز