نشرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية في السادس عشر من أكتوبر/تشرين الأول الجاري تقريرًا بعنوان: “طائرات مسيّرة تهرّب أسلحة ثقيلة إلى داخل إسرائيل من مصر بلا رادع.. ومسؤولون يدقّون ناقوس الخطر”، سلطت فيه الضوء على تفاصيل الجلسة التي عقدتها لجنة الشؤون الخارجية والدفاع في الكنيست الإسرائيلي قبل يوم واحد من نشر التقرير.
كشفت الجلسة عن تصاعد غير مسبوق في عمليات تهريب الأسلحة عبر الحدود المصرية باستخدام الطائرات المسيّرة، وُصف بأنه تطور “كارثي” يشكّل تهديدًا وجوديًا لإسرائيل، وأظهرت البيانات المعروضة أمام اللجنة تسجيل 900 محاولة تهريب خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة فقط، مقارنة بـ 464 محاولة في الفترة نفسها من عام 2024، كما سجّل المجلس الإقليمي لرامات النقب نحو 627 اختراقًا في الربع الأول من عام 2025، مقابل 104 فقط في النصف الأول من العام السابق.
ورغم إدخال جيش الاحتلال الإسرائيلي أنظمة مضادة للطائرات المسيّرة، وإحكام السيطرة بشكل شبه كامل على الشريط الحدودي الفاصل بين مصر وقطاع غزة، فإن وتيرة التهريب استمرت بالتصاعد، ما أثار انتقادات واسعة داخل الأوساط الأمنية والسياسية.
الحديث عن تهريب للأسلحة من داخل الأراضي المصرية للأراضي المحتلة بات وجبة دائمة على موائد الإعلام العبري، في وقت يمارس فيه المحتل واحدة من أبشع جرائم الإبادة في التاريخ الحديث، دون أن يُحرك ساكنًا إزاء الانتقادات التي يتعرض لها، ضاربًا بكل المقاربات واعتبارات الحلفاء عرض الحائط، مدعومًا بدعم أمريكي وضوء أخصر لا احمرار فيه على مدار عامين، ليبقى التساؤل عن جدوى تلك الاتهامات مسألة جدلية تُخفي أكثر مما تُبدي.
الإعلام الإسرائيلي يدق ناقوس الخطر
شهدت جلسة لجنة الشؤون الخارجية والدفاع في الكنيست سجالاً حاداً وغير مسبوق، حيث اعتبر الأعضاء أن مزاعم تهريب الأسلحة الثقيلة عبر الطائرات المسيّرة من الحدود المصرية تمثل “تهديداً وجودياً” يتطلب دق ناقوس الخطر على أعلى المستويات السياسية والأمنية، وقد استدعى المشاركون في الجلسة تجربة عملية السابع من أكتوبر كـ “تجربة حية” لما قد يحدث لاحقاً إذا لم يتم إيقاف موجات التهريب، محذرين من أن تل أبيب قد تكون الهدف التالي لهذه الأسلحة المهربة.
وبالغ عضو الكنيست تسفي سوكوت في وصف ما يحدث بأنه “فيضان متواصل من الحدود المصرية”، محذراً من أن الطائرات المسيّرة قد تحمل أسلحة ثقيلة تهدد السيادة الإسرائيلية، من جانبه، أكد منسق الأمن في منطقة كادش بارنيع، عنان سيئون، أن هذه الظاهرة تحولت من تهريب جنائي إلى “مشروع إجرامي ضخم تموّله شبكات تمتلك تجهيزات متطورة”، واصفاً إياها بـ “عمل إرهابي منظم”.
كما حذر رئيس المجلس الإقليمي لرامات النقب، إيران دورون، من أن الخطر تجاوز الحدود، مشيراً إلى أن الطائرات تنقل قذائف ورشاشات ثقيلة إلى تجمعات بدوية قرب بئر السبع، حيث تُختبر الأسلحة في العراء، ليكون الخطر الحقيقي “في عمق إسرائيل نفسها”.
وفي خضم هذه التحذيرات الأمنية المتصاعدة، وجه المشاركون انتقادات لاذعة لـ غياب خطة وطنية موحدة لمواجهة الظاهرة، في ظل تداخل الصلاحيات بين الجيش، الشرطة، وجهاز الشاباك، وقد تباينت المقترحات لمعالجة الأزمة؛ إذ دعا البعض إلى إعادة تصنيف التهريب المسلح كـ “عمل إرهابي” للتعامل معه بقوة أكبر، بينما رأى آخرون أن تعزيز الاستيطان والزراعة في المناطق الحدودية قد يشكل حاجزاً بشرياً وأمنياً أكثر فعالية من الاعتماد على الإجراءات التقنية وحدها.
ليس الاتهام الأول
لم تكن الاتهامات الإسرائيلية لمصر بتهريب أسلحة إلى الداخل الفلسطيني والإسرائيلي حدثًا طارئًا، بل تأتي ضمن سلسلة من المزاعم المتكررة التي تعكس تصاعد التوتر الأمني بين الجانبين في السنوات الأخيرة، ففي 29 يناير/كانون الثاني 2025، نشر موقع (TBN Israel) تقريرًا بعنوان «الجيش الإسرائيلي يُحبط محاولة تهريب من مصر ويُسقط طائرة مسيّرة تحمل أسلحة»، زاعمًا أن وحدات المراقبة الجوية التابعة لجيش الاحتلال رصدت طائرة مسيّرة عبرت الحدود من الجانب المصري قبل أن يتم إسقاطها.
ووفق البيان العسكري الإسرائيلي، كانت الطائرة تحمل 13 قطعة سلاح وذخيرة متنوعة، تمت مصادرتها وتحويلها إلى الجهات الأمنية للتحقيق، وقد اعتبر التقرير الحادثة امتدادًا لسلسلة عمليات تهريب متكررة، لا سيما عبر الطائرات المسيّرة التي باتت – بحسب الرواية الإسرائيلية – وسيلة مفضلة لنقل الأسلحة عبر الحدود.
ويشير السجل الزمني للحوادث، بحسب ما ذكرت وكالة “رويترز” إلى أن جيش الاحتلال أسقط في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 طائرة مسيّرة مشابهة، كما اعترض في 31 أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه طائرتين منفصلتين في ظروف مماثلة، ما يعكس – من وجهة النظر الإسرائيلية – اتجاهاً متصاعداً لتهريب الأسلحة من الجنوب.
ويربط مسؤولون إسرائيليون هذه العمليات بـ نشاط حركة حماس، متهمين إياها باستخدام أنفاق تمتد من غزة إلى داخل سيناء المصرية كقنوات لتهريب الأسلحة والمعدات العسكرية، وهو ما تعتبره تل أبيب أحد أبرز مصادر تهديدها الأمني المستمر.
نفي مصري قاطع
جاء الرد المصري على تلك الاتهامات حادًّا وواضحًا، إذ وصف ضياء رشوان، رئيس الهيئة العامة للاستعلامات المصرية (الجهة الرسمية المخولة بالتعامل مع الإعلام الخارجي)، تلك المزاعم بأنها “كاذبة ولا أساس لها من الصحة”، مؤكدًا أنها تمثل محاولة خطيرة لتقويض معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل.
ودعا رشوان الجانب الإسرائيلي إلى ضبط الخطاب الرسمي والإعلامي واحترام الالتزامات المنصوص عليها في اتفاقية كامب ديفيد، محذرًا من أن الانزلاق إلى تبادل الاتهامات في لحظة إقليمية حرجة من شأنه إشعال توترات جديدة في منطقة تعاني أصلًا من هشاشة أمنية متفاقمة.
وشدد رئيس الهيئة العامة للاستعلامات على أن مصر تمارس سيادتها الكاملة على حدودها الشمالية الشرقية، بما في ذلك الحدود مع قطاع غزة وإسرائيل، مستبعدًا تمامًا إمكانية حدوث عمليات تهريب واسعة النطاق كما تدّعي تل أبيب، لافتًا أن بلاده نفذت خلال العقد الماضي واحدة من أضخم عمليات تأمين الحدود في تاريخها الحديث، تضمنت تدمير أكثر من 1500 نفق، وإنشاء منطقة عازلة بعمق خمسة كيلومترات، إلى جانب تعزيز الجدار الحدودي وتزويده بأنظمة مراقبة متطورة.
كما سخر رشوان من الادعاءات الإسرائيلية حول تهريب أسلحة عبر شاحنات المساعدات، واصفًا إياها بأنها “سخيفة وغير منطقية”، إذ إن جميع الشحنات تمر بتفتيش شامل من قبل السلطات الإسرائيلية نفسها في معبر كرم أبو سالم قبل دخولها قطاع غزة.
تحركات الجيش المصري في سيناء.. منصة اتهام أخرى
لم يكن تهريب الأسلحة للداخل المحتل هو الاتهام الإسرائيلي الوحيد ضد القاهرة، حيث أثارت التحركات العسكرية المصرية المتزايدة على الحدود مع الأراضي الفلسطينية خلال الأونة الأخيرة، موجة قلق واسعة في الأوساط السياسية والعسكرية الإسرائيلية، حيث أفردت وسائل الإعلام العبرية مساحة كبيرة لتحليل أبعادها المحتملة وتداعياتها على أمن إسرائيل.
وجاءت أبرز ردود الفعل في تصريحات السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة، داني دانون، في الأول من فبراير/شباط الماضي، حين عبّر عن قلقه من “التحديث المتسارع في القدرات العسكرية المصرية”، متسائلًا:
“لماذا يحتاج المصريون إلى كل هذه الغواصات والدبابات، وهم لا يواجهون تهديدات على حدودهم؟ بعد 7 أكتوبر يجب أن نراقب مصر عن كثب ونستعد لأي سيناريو”
وفي الاتجاه ذاته، عبّر الباحث الإسرائيلي ياكوف بيلان من مركز بيغن–السادات للدراسات الاستراتيجية عن مخاوف مماثلة، مشيرًا إلى أن “القوات المصرية المنتشرة في سيناء تجاوزت بكثير ما نصّت عليه اتفاقية كامب ديفيد”، لافتًا إلى أن القاهرة “أنشأت مطارات عسكرية جديدة ومخازن استراتيجية للوقود والعتاد، وأنفاقًا ومعابر تسمح بتحريك وحدات كبيرة نحو سيناء خلال ساعات”.
هذا القلق المتصاعد، وفقًا لصحيفة إسرائيل هيوم، دفع بعض المسؤولين الإسرائيليين إلى نقل مخاوفهم إلى المنظمات اليهودية في الخارج، إذ وصف السفير الإسرائيلي في واشنطن يحيئيل لايتر التحركات المصرية بأنها “انتهاك خطير لاتفاقية السلام”، مؤكدًا أن “إسرائيل ستطرح هذه القضية قريبًا على الطاولة بكل حزم”
ووفق الصحيفة العبرية، فإن الكونغرس الأمريكي بات على علم بما تعتبره إسرائيل “انتهاكات مصرية لاتفاقيات كامب ديفيد”، مع تلميحات ببحث وضع هذه المسألة على جدول أعماله ومراجعة حجم المساعدات الاقتصادية المقدمة للقاهرة، باعتبار ما يجري في سيناء “تهديدًا استراتيجيًا محتملاً للحدود الجنوبية لإسرائيل”.
تهويل مبالغ فيه
يبدو من الوهلة الأولى أن التعاطي الإعلامي الإسرائيلي، سواء مع مسألة تهريب الأسلحة من مصر أو الانتشار العسكري المصري في سيناء، تعاطيًا يغلب عليه التهويل والمبالغة المفرطة، البعيدة تمامًا عن الواقع، وهو ما كشفه تحقيق أجراه مشروع “المراسل المزيف” – وهو فريق بحثي إسرائيلي مختص برصد المحتوى المضلل على الإنترنت – حين توصل إلى أن معظم النقاشات التي تناولت التحركات العسكرية المصرية على الحدود مع إسرائيل والمخاوف من اندلاع مواجهة بين البلدين، مضللة ومبالغ فيها، وتهدف إلى إثارة الهلع وتحقيق أهداف سياسية وإعلامية لا تمت للواقع بصلة.
وبحسب التحقيق الذي نشرته صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية، فإن هذا الخطاب التصعيدي بدأ مطلع العام الجاري بالتزامن مع التوترات الأمنية على الحدود، ثم تسارع انتشاره عقب تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ، والتي ساهمت – وفق التقرير – في تضخيم المخاوف من صدام مصري–إسرائيلي وشيك.
ورصد التحقيق أن الحملات الإلكترونية ركزت على أربع رسائل محورية، أبرزها، الادعاء بوجود تعزيزات عسكرية مصرية موجهة ضد إسرائيل، التشكيك في اتفاقية كامب ديفيد باعتبارها “وهمًا خطيرًا”، الحديث عن “السياسة المصرية العدائية تجاه إسرائيل”،، والتشكيك في دور مصر في السيطرة على الحدود وآثارها الأمنية.
وأكد الفريق البحثي أن مصدر معظم هذه المنشورات ليس مصريًا، بل من حسابات وهمية أو جهات خارجية تستغل التوتر الإقليمي لبث الشكوك بين القاهرة وتل أبيب.
ما الاحتمالات؟
في ظل التصعيد الإعلامي الإسرائيلي الممنهج حول تزايد تهريب الأسلحة، خاصة عبر الطائرات المسيّرة، من الأراضي المصرية، يطرح التحليل الموضوعي لقراءة هذه المبالغة احتمالين رئيسيين لفك طلاسم الموقف الإسرائيلي، الذي يوحي بخطر أمني غير مسبوق.
الاحتمال الأول: التهويل ذو الأبعاد السياسية والاستراتيجية
يفترض هذا الاحتمال أن حجم التهريب لا يرقى إلى الصورة الكارثية التي يصدرها الإعلام والمسؤولون في تل أبيب. وفي هذه الحالة، يحمل الخطاب الإسرائيلي أبعاداً سياسية واستراتيجية أعمق بكثير من مجرد الشكوى الأمنية:
–تبرير السيطرة على الحدود.. توظَّف مزاعم التهريب لتبرير المطالب الإسرائيلية بتشديد الرقابة على الحدود المصرية-الغزية، أو للضغط على القاهرة لتقييد دورها في إدارة الملف الفلسطيني.
–شرعنة احتلال فيلادلفيا.. تُستخدم هذه الاتهامات كـ “مطية” لتبرير احتلال الجيش الإسرائيلي لممر فيلادلفيا (محور صلاح الدين)، والبقاء عسكرياً على الشريط الحدودي، وتتركز الحجة الإسرائيلية في أن القاهرة “فشلت” في حماية الحدود، وأن إسرائيل هي “الأقدر” على منع التهريب، في سعي لتدشين خارطة تموضع جديدة ومغايرة لما قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
الاحتمال الثاني: وجود تهريب بالفعل
يفترض هذا الاحتمال وجود تهريب فعلي للأسلحة، حتى لو لم يكن بحجم التهويل الإسرائيلي. وهنا يبرز تساؤل حاسم: من يقف وراء هذا التهريب؟، وهناك مساران محتملان لتفسير الجهة المسؤولة:
–المؤسسة الرسمية المصرية، وهو الاحتمال الأضعف، ضعيف الجج، كونه يتعارض مع الاستراتيجية المعلنة للنظام المصري، الذي تفاخر مراراً بتدمير كافة الأنفاق والتعاون في تجفيف منابع تسليح المقاومة لسنوات.
ومع ذلك يبقى هذا الاحتمال وارداً فقط في حال استشعرت القاهرة تهديداً مباشراً لأمنها القومي بعد سيطرة الاحتلال على فيلادلفيا وتهديده لاتفاقية السلام، قد يدفع هذا مصر إلى إعادة تقييم المشهد الأمني عبر تسليح المقاومة سراً، في محاولة للحفاظ على “معادلة التوازن” داخل غزة ومنع انتقال الفوضى إلى الداخل المصري.
–القبائل والعشائر السيناوية، وهو الاحتمال الأقرب نسبياً، بالنظر إلى الروابط الاجتماعية القوية وعلاقات المصاهرة بين القبائل السيناوية وسكان غزة، بالإضافة إلى الالتزام الأخلاقي والقومي بعد “خذلان” أهل غزة والصمت الإقليمي والدولي إزاء الحرب.
ويرجح هذا الاحتمال سهولة التهريب عبر المسيرات في الأجواء المفتوحة، كذلك عدم إمكانية الإقرار بنجاح الجانبين (المصري والإسرائيلي) في القضاء تماما ونهائيا على كل الأنفاق، مما يعني بقاء بعض الأنفاق القليلة التي يمكن أن تُستخدم كحلول وقت الأزمات.
في المحصلة..
تشير القراءة التحليلية للمبالغة الإسرائيلية في تهويل خطر تهريب الأسلحة عبر الحدود المصرية، سواء عبر الطائرات المسيرة أو عبر التشكيك في الانتشار العسكري المصري في سيناء، إلى أن الموقف يتجاوز كونه مجرد قلق أمني إلى توظيف استراتيجي له أبعاد سياسية عميقة، حتى وإن ظل احتمال وجود تهريب فعلي قائماً، فهو لا يرقى إلى حجم التهديد الذي تصوره تل أبيب.
فالصراع الإسرائيلي الراهن حول الحدود المصرية، الذي يتزامن مع ارتكاب الاحتلال لأبشع جرائم الإبادة، يهدف في المقام الأول إلى توفير غطاء أمني لشرعنة احتلال محور فيلادلفيا بالكامل، وتأكيد حجة أن إسرائيل هي الأقدر على تأمين الحدود بعد “فشل” مزعوم للقاهرة، التي تجد نفسها هنا في قفص الاتهام، مضطرة للدفاع عن نفسها إما بمزيد من الضغط على الفلسطينيين أو بتشديد رقابتها الأمنية الحدودية للقضاء على أي احتمالات ولو صفرية للتهريب.
كما أن التضخيم المتزايد، الذي كشفته تقارير إسرائيلية عن كونه حملات تضليل إلكتروني مبالغ فيها، يخدم هدفاً تكتيكياً يتمثل في تحويل الأنظار عن الفشل الإسرائيلي الداخلي وتبرير استمرار الحصار والعقاب الجماعي على قطاع غزة.