لم يكن الدمار في غزة يقتصر على الأبنية الحديثة أو منازل الناس فحسب، بل امتدّ ليطال الحجارة التي تحفظ ذاكرة المكان، ففي كل ركنٍ من أركان المدينة القديمة، كان التاريخ يتهاوى تحت القصف، فتتساقط معه قرونٌ من الحكايات التي صمدت في وجه الغزاة والحروب.
لم يعد حمّام السمرة، أقدم الحمّامات في غزة، ينبض بالحياة كما كان، وقد كان يومًا ملتقى الناس وذاكرة المدينة الحيّة. ولا بقي الجامع العمري الكبير — أقدم مساجد غزة وأحد شواهدها على تعاقب العصور — بمنأى عن الدمار، إذ صار رمادًا يختلط بالغبار المتصاعد من السوق القديم.
في هذه الأمكنة التي كانت تحفظ روح المدينة، تبدو غزة اليوم مهدّدة بفقدان ذاكرتها المكانية، فالناس الذين اعتادوا المرور بين جدرانها القديمة فقدوا وجهتهم، وكأنّ الحرب لم تكتفِ بتهجيرهم من بيوتهم، بل هجّرتهم من تاريخهم أيضًا.
بين الركام.. صدى الذاكرة في صوت إشراق
في قلب السوق القديم، كانت إشراق عيّاد تجد في الجامع العمري ملاذًا روحيًا كلَّ رمضان. تروي لـ”نون بوست”: “الجامع العمري معلم أثري قديم وجميل المظهر. كنت أذهب إليه في رمضان لأصلّي التراويح، وكان المكان يبعث راحةً وطمأنينة، ويجعلني أشعر بالتجذّر في الأرض والمكان:.
لكنّ المشهد تغيّر تمامًا بعد الحرب. تقول بصوتٍ يملؤه الأسى: “شعورٌ سيئ، مثل شعور دمار باقي الأماكن والبيوت. أشعر بالحزن، ليس فقط على هذا المكان، بل لأنّ المدينة كلها دُمّرت. أعتقد أنّ الهدف هو نزع هويّتنا وتدمير نفسيّتنا”.
إشراق ليست وحدها في حزنها، فكل من مرّ بهذه المدينة القديمة يحمل في ذاكرته مكانًا بات اليوم صورةً باهتة على هاتفٍ أو في الحلم. لم تكن الخسارة حجارةً فحسب، بل اقتلاعًا لذاكرةٍ كانت تمنح الغزيين معنى البقاء والارتباط بالجذور.

المكان الذي كان قلب المدينة
في حديثٍ خاص لـ”نون بوست”، يتحدث إمام المسجد العمري الكبير إبراهيم الكولك عن المكان الذي عاش فيه أجمل لحظاته وأصعبها: “قبل الحرب، كان المسجد العمري كأنه قلب المدينة النابض. كل من يدخل السوق القديم لا بد أن يمرّ به، يسمع صوت المؤذّن يتردد بين الأزقّة، ويدخل ليجد مئات الوجوه المألوفة من كل الأعمار. كانت المآذن تملأ السماء نورًا، وأروقة المسجد تعجّ بالقرّاء وحلقات الذكر”.
يتوقّف قليلًا، ثم يتابع بصوتٍ تختلط فيه الذكرى بالألم: “في رمضان، كان المسجد يتحوّل إلى لوحة من نور. المصلّون يملؤون الساحة، وصوت التهليل يختلط بضحكات الناس. كنا نشعر أن رمضان لا يبدأ في غزة إلا حين يُضاء العمري”.
ويضيف الكولك: “كنت أشعر كل يوم أنني أقف على أرضٍ صلّى فيها أجيالٌ من الغزيين عبر مئات السنين. جدرانه كانت تهمس بالتاريخ — من المماليك إلى العثمانيين، من زمن النكبة إلى اليوم. الصلاة فيه كانت مختلفة، لأنك تشعر أنك في بيت الله وفي قلب التاريخ في الوقت نفسه”. ويختم بصوتٍ متهدّج: “اليوم حين أمرّ من أمام الركام، أشعر أن صوت الأذان ما زال يخرج من بين الحجارة. كأنّ المكان يرفض أن يموت”.
صباح بملامح غريبة
على أطراف حيّ الزيتون في غزة، كانت الحاجة نداء تبدأ صباحها بمشهدٍ تحبه منذ الطفولة؛ بوابة حمّام السمرة القديمة، وأصوات الزوّار تتداخل مع صدى المياه المتدفّقة في قلب المكان.
تقول نداء، التي تسكن بجواره منذ أكثر من ثلاثين عامًا، لـ”نون بوست”: “كنت أشوفه كل يوم من شباكي، منظره كان يفرّح القلب. كان يذكّرني بأيام زمان، لما الناس كانت تروح الحمّام في الأعياد والمناسبات، وتطلع منه برائحة الصابون البلدي والريحان. كان المكان روح الحارة”.
لكن بعد الحرب، لم يبقَ من المشهد سوى حُطام وأحجار متساقطة. تصمت نداء لحظة، ثم تضيف بصوتٍ متعب: “لما شفت الركام أول مرة، حسّيت إن الصبح انكسر. ما عاد في منظر يفرّحني وأنا بفتح شباكي. حتى ريحة المكان راحت، وصار الدمار والركام محلّها”.
بالنسبة لنداء، دمار حمّام السمرة لم يكن مجرّد خسارة موقع أثري، بل فقدانًا لجزءٍ من الحياة اليومية التي كانت تمنحها طمأنينةً وسط الفوضى: “هدّوا حجر كان فيه عمرنا كلّه، ومشهد من حياتنا ما بقدر الزمن يرجّعه”.
في شهر فبراير/ شباط 2025، أعلنت وزارة السياحة والآثار بالتعاون مع مركز حفظ التراث الثقافي أن 226 موقعًا أثريًا في قطاع غزة تضرر جراء الاستهداف الإسرائيلي المباشر الذي طال جميع المواقع.
وأوضح التقرير الصادر عن الوزارة بعنوان “حصر الأضرار والمخاطر لمواقع التراث الثقافي في غزة” أن الدراسة شملت 316 موقعًا للتراث الثقافي، بينها مواقع أثرية، مبانٍ تراثية، متاحف، مبانٍ دينية، مقابر تاريخية، مشاهد ثقافية، مواقع طبيعية، ومعالم بارزة.
وتم خلال الدراسة إجراء مسحٍ ميداني شامل لكلّ المواقع، وتحليل صور الأقمار الصناعية، وجمع البيانات، ثم إعداد نموذج تفصيلي لكل موقع، وإدخال المعلومات وتحليلها لتقييم حجم الضرر الذي أصاب كلّ موقع.
حين تُستهدف الذاكرة
يصف محمد جرادات، نائب مدير عام السجل الوطني في وزارة السياحة والآثار، حجم الخسارة الثقافية التي لحقت بقطاع غزة، قائلًا: “لا يكاد يخلو موقعٌ أثري أو معلمٌ تاريخي في غزة من الضرر، سواء المباشر بفعل القصف أو غير المباشر نتيجة النزوح والضغط الهائل على الأماكن التاريخية. البلدة القديمة في مدينة غزة، بما تحمله من نسيجٍ معماري يعود للفترات الأيوبية والمملوكية والعثمانية، كانت الأكثر تضررًا، وكذلك مناطق شمال القطاع ورفح”.
ويضيف لـ”نون بوست” أن الوزارة، بالتعاون مع متطوّعين وبدعم من منظمة اليونسكو، شرعت في عملية توثيقٍ عاجلة للأضرار، على أن تستمر بعد الحرب ضمن خطة إعادة إعمار غزة. ويقول: “نستذكر خسائر كبيرة مثل مسجد هاشم في غزة، وقصر الباشا، وعدد من المباني التاريخية داخل البلدات القديمة التي دُمّرت كليًا. ومع ذلك، هناك توجه لإحياء هذه المواقع وإعادة ترميمها. فقد بدأنا بإعداد كوادر مختصة بالتوثيق والترميم عبر دوراتٍ نُظّمت في مصر مطلع العام، حتى نكون جاهزين لإعادة إحياء ذاكرة المكان”.
ويُحذّر جرادات من أن استهداف هذه المواقع “هو استهدافٌ مباشر للذاكرة المكانية للشعب الفلسطيني”، ويضيف: “حين تُمحى آثارُنا، تُمحى رؤيتُنا البصرية للماضي، ويُقطع الحبل الذي يربط الأجيال بجذورها. الاحتلال لم يُراعِ هذه الناحية رغم تزويد الأمم المتحدة واليونسكو بإحداثيات المواقع الأثرية لتجنّب قصفها، لكنه استهدفها عمدًا، من المساجد والكنائس إلى المقامات والزوايا”.
ويرى جرادات أن الحرب على الحجر لا تقلّ خطورة عن الحرب على البشر، إذ تمثّل “شكلًا من أشكال الحرب على الهوية والثقافة وارتباط الإنسان بأرضه”.
في غزة، لا تنتهي الحرب بانتهاء القصف، فكلُّ ركامٍ يحمل تاريخًا مفقودًا وذاكرةً تنتظر من يعيد ترميمها. وما بين حجارة المسجد العمري وقصر الباشا، تظل الروح الفلسطينية تقاوم النسيان وتُصرّ على أن تبقى الحكاية حيّة.