على امتداد عقود، كان الفن في المغرب أداةً للتعبير الاجتماعي والسياسي والإنساني، تتيح للفنان نقل قيم المجتمع والدفاع عنها، وتحفيز وعي أفراده، فالفنان، الذي يسعى بطبيعته إلى بيئةٍ ثقافية تقدّر إبداعه، يجد في التزامه بالقضايا الإنسانية قدرةً على خلق علاقةٍ متبادلة مع المجتمع، تمنح أعماله الفنية مصداقيةً وتجاوبًا فعليًا.
في هذا السياق، تبرز الأغاني، على وجه الخصوص، كوسيلةٍ قوية للتعبير عن هموم الشعوب ومواقفها تجاه الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فهي تتجاوز دورها الترفيهي لتصبح لغةً يُعبّر من خلالها الناس عن أفكارهم ومشاعرهم تجاه الواقع الذي يعيشونه.
وقد شكّلت الأغنية المغربية، منذ سبعينيات القرن الماضي، وصولًا إلى موجات الاحتجاج الحديثة، ذاكرةً سمعيةً حيّةً للاحتجاجات الاجتماعية والسياسية في البلاد؛ إذ امتزج فيها الصوت الشعبي بالهمّ الوطني، وتحوّلت إلى وسيلةٍ لتوثيق الأحداث والانتفاضات.
منذ ظهور ناس الغيوان وجيل جيلالة إلى الراب، ظلّت الموسيقى وسيلةً للتعبير عن المقهورين، ومرآةً للواقع اليومي الذي يعجز الخطاب الرسمي عن التقاطه، فصارت الأغنية بمثابة أرشيفٍ شعبيٍّ يترجم نبض الشارع بلغة الفن والإبداع.
ظهور المجموعات الغنائية
مثّل ظهور المجموعات الغنائية في المغرب خلال سبعينيات القرن الماضي علامةً فارقةً في تاريخ الأغنية المغربية، بدايةً من مجموعة “ناس الغيوان” التي تأسست في أحد أفقر أحياء الدار البيضاء، ثم تبعتها مجموعاتٌ أخرى مثل “جيل جيلالة” و”لمشاهب” و”لرصاد” و”إزنزارن” وغيرها.
وقد ارتبطت هذه المجموعات بالتعبير عن قضايا وهموم المجتمع، واستخدمت مزيجًا من الآلات التقليدية والحديثة، مما ساهم في تثمين الموسيقى التراثية المغربية والوصول بها إلى العالمية، بحيث استطاعت أن تنقل هموم المواطنين وانشغالاتهم إلى أعمالٍ فنية.
وعلى الرغم من أن أغلب هذه المجموعات تأسست خلال السبعينيات، إلا أن جذورها تعود إلى أحداثِ الاحتجاجات الشعبية الأولى بعد الاستقلال، وأبرزها انتفاضة 23 مارس 1965 في الدار البيضاء. فقد شهدت المدينة قمعًا دمويًا استهدف الطلاب والتلاميذ وعائلاتهم، مع الاعتقالات والتعذيب، ما أحدث فجوةً عميقةً بين الدولة الجديدة والفئات الشعبية التي عانت من العنف المباشر وحرمانها من أيّ مساحةٍ للتعبير.
وقد تركت تلك الأحداث أثرًا بالغًا على جيل الشباب، بمن فيهم مؤسّسو فرقة “ناس الغيوان”، الذين عايشوا القمع والسجن، واختبروا قسوة أجهزة الدولة التي كانت تمنع أيّ احتجاجٍ سياسي.
وتتجسّد شهادة العربي باطما، وهو أحد مؤسّسي المجموعة، في سيرته الذاتية “الرحيل”، فيما عاناه هؤلاء الشباب من قهر، حيث قال: “كنا طلبة كثيرين في زنازين صغيرة مظلمة، مع سجناء آخرين، الزحام والنتانة والقمل والعراك… ونظرًا لكثرتنا، فلم نُسجَّل بدفاتر السجن، كانوا يحملوننا كالأغنام ثم يرموننا في السجن…”.
الفن حاملًا للهم المغربي
قدّمت هذه المجموعات أعمالًا فنيةً تنغمس في تفاصيل الحياة اليومية للمغاربة، وتنقل نبض الشارع واحتجاجاته بصوتٍ إنسانيٍّ عميق، فأغاني ناس الغيوان تحوّلت إلى وثائق فنية تُوثّق لمرحلةٍ من التوتر الاجتماعي والانسداد السياسي في المغرب خلال تلك المرحلة، حيث تزايد القهر واشتدّ التضييق على حرية التعبير.
حينذاك، كانت أحياء الدار البيضاء فضاءً لا ينفصل فيه الفن عن السياسة، حيث اندلعت الاحتجاجات وسقط الضحايا في انتفاضة 20 يونيو 1981، فصار الغناء مرثيةً للوطن وصرخةً ضد القمع والعنف.
في هذا المناخ المضطرب، جاءت أغنية “المعنى” لتُعبّر عن انسداد الأفق الذي يعيشه المواطن البسيط، حيث استحضرت كلماتها صورة إنسانٍ مطعونٍ في كرامته، يعيش الخوف والحرمان، ويواجه واقعًا مُرًّا:
“شكون ف الدنيا عل الحق يدافع
ياك لكثير ما فيهم نفع
مطعونين ف الظهر وما ضحّينا بلعمر
ياك أخرها هو لقبر…”.
هذه الصرخة من قلب الإحباط الشعبي، وصرخاتٌ أخرى على غرار أغنية “مهمومة”، وأغنية “لبطانة” التي حملت هي الأخرى نقدًا سياسيًا أكثر حدّة، إذ تُصوّر عالمًا مختنقًا تحكمه المصالح والفساد؛ تحمل نظرةً سوداء إلى زمنٍ ضاق فيه الأفق وساد فيه الخوف.
وبالإضافة إلى ناس الغيوان، اختارت مجموعة “جيل جيلالة” لنفسها مسارًا فنيًا انغمست فيه هي الأخرى في تفاصيل الحياة اليومية للمغاربة، حيث حاولت أن تغنّي على قضاياه وهمومه، لتنتج أغانٍ ظلّت خالدةً إلى اليوم، وذلك بالنظر إلى انتماء أعضائها ومؤسّسيها لشرائح اجتماعية فقيرة وأحياءٍ شعبيةٍ مهمّشة.
وفي السياق ذاته، جاءت مجموعة “لمشاهب” لتُكمل هذا المشروع الفني الاحتجاجي، إذ نشأت في الدار البيضاء في مناخٍ مشبعٍ بالنقاش السياسي والعمّالي، وكانت صوتًا فنيًا جديدًا يُعبّر عن الواقع المغربي بجرأةٍ وصدق، مستلهمةً روح المقاومة الشعبية ومتأثّرةً بالتجارب الفنية لناس الغيوان وجيل جيلالة، لكنها سعت منذ البداية إلى إبداعِ أسلوبها الخاص الذي يمزج بين التراث الشعبي والنفَس العصري في الكلمة واللحن.
تكوّنت “لمشاهب” من مجموعةٍ من الفنانين المنحدرين من الأحياء الشعبية، والذين حملوا في أصواتهم تجربةَ المعاناة، فكانوا صدى لما يعتمل في وجدان الناس. وقد اعتمدت الفرقة على الزجل واللغة العامية القريبة من الجمهور، لتُحوّل الأغنية إلى أداةٍ للتعبير عن القضايا اليومية، من الفقر والتهميش إلى الكرامة والحرية.
وقد كانت أعمالهم نافذةً فنيةً على الواقع الاجتماعي والسياسي، وعكست أحلام الطبقات الفقيرة، وانتقدت مظاهر الظلم والفساد، بأسلوبٍ فنيٍّ يجمع بين البساطة في الكلمة والعمق في المعنى.
ورغم التضييق الذي واجهته الفرقة أحيانًا، بسبب جرأة كلماتها ونقدها غير المباشر للسلطة، فإنها نجحت في ترسيخ مكانتها ضمن مسار الأغنية الملتزمة بالمغرب والعالم العربي. ولاقت أعمالها صدىً واسعًا داخل البلاد وخارجها، وأسهمت في ترسيخ فكرة أن الفن يمكن أن يكون رسالةً وموقفًا في آنٍ واحد.
وقد شكّلت “لمشاهب”، إلى جانب “ناس الغيوان” و”جيل جيلالة”، ملامح مرحلةٍ ذهبيةٍ في تاريخ الأغنية المغربية، مرحلةٍ جعلت من الغناء فعلًا مقاومًا يُوثّق الذاكرة الشعبية، ويمنح صوتًا للفئات التي ظلّت طويلًا تعيش تحت صدمةِ العنف والقمع الذي طال الانتفاضات التي خاضها المغاربة.
الراب يُكمل المسيرة
رغم أفولها، ظلّ أثر هذه التجارب ممتدًا في الذاكرة المغربية، إذ شكّلت مدرسةً فنيةً ووطنيةً جعلت من الأغنية وثيقةً شعبيةً تحفظ التاريخ وتُعبّر عن الناس بلغتهم. ومع نهاية التسعينيات، دخل المغرب مرحلةً جديدة، وظهر جيلٌ من الشباب يبحث عن وسائطَ جديدةٍ للتعبير. هنا بزغ نجم فن الراب، الذي أعاد للأغنية الاحتجاجية بريقها، لكن بلغةٍ جديدةٍ هي لغةُ الشارع والمباشَرة في الخطاب، وذلك كاستجابةٍ فنيةٍ مباشرةٍ للتحوّلات الاجتماعية والثقافية التي حملها عصر العولمة الرقمية والانفتاح على الموسيقى العالمية. غير أنّ ما بدأ كتقليدٍ لأساليب موسيقيةٍ وافدةٍ من أمريكا وأوروبا، سرعان ما تحوّل إلى صوتٍ احتجاجيٍّ محلّي، يُعبّر عن هموم الشارع المغربي بلغةٍ دارجةٍ صريحةٍ تمزج بين الغضب والسخرية.
ولقد وجد شباب الأحياء المهمّشة في هذا الفن متنفسًا للتعبير عن واقعٍ يضيق بفرصهم، فصار الراب بمثابة منبرٍ للذين لا صوت لهم، يبوحون من خلاله بما لا يمكن قوله في الإعلام الرسمي أو الخطب السياسية، وهذا التحوّل شكّل ولادة ثقافةٍ بديلةٍ بأبعادها الفنية والاجتماعية. فمهرجان البولفار، الذي احتضن هذه الموجة منذ أواخر التسعينيات، أثبت أن الراب المغربي هو نتاج أبناء الأحياء الشعبية التي تبحث عن الاعتراف.
ومن خلال اللباس والإيقاع ولغة الشارع، نشأت هويةٌ فنيةٌ جديدة تمزج بين روح التمرّد والإبداع، وبين النقد السياسي والاجتماعي، فتغيّرت بذلك طبيعةُ الخطاب الفني السائد، حيث تمّ استبدال القصائد العاطفية بمضامين تنبض بالرفض والاحتجاج، إذ تناول الراب قضايا الفقر والبطالة والفساد في مؤسسات الدولة، دون مواربةٍ أو تزيين، ونقل فنانو الراب في أغانيهم الواقع كما هو، وبأسلوبٍ مباشرٍ وصادم.
ومن بين الأسماء التي برزت في هذا السياق، يظل معاذ بلغوات، المعروف بـ”الحاقد”، من أبرز أسماء الراب الاحتجاجي في المغرب وأكثرها جرأةً خلال احتجاجات حركة 20 فبراير 2011، فقد شكّلت أغانيه مرآةً لمرحلةٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ مشحونة، نادت فيها الحركة بالإصلاح والحرية والكرامة.
وقد عبّر الحاقد في أعماله عن همّ الإنسان المهمَّش، وعن رفضه للقيود المفروضة على حرية التعبير، مكرّسًا صورته كصوتٍ فنيٍّ معارض لا يخشى الاصطدام بالسلطة، فتجاوزت أغانيه حدود الفن لتصبح بياناتٍ احتجاجيةً، وهو ما جعله عرضةً للملاحقات القضائية والسجن، لكنه في المقابل حوّله إلى صوتٍ يُمثّل جيلًا يرى في الراب وسيلةً للتمرّد.
لقد أثبتت هذه التجارب أن الأغنية المغربية الملتزمة كانت أكثر من فنٍّ ترفيهي؛ حيث واكبت مختلف الأحداث التي شهدها المغرب، وكانت صوتًا ينقل ويُعبّر عن هموم المجتمع وآلامه، فكانت بذلك وثيقةً وطنيةً تكتب التاريخ بشكلٍ مغايرٍ للرواية الرسمية، بلغةٍ بسيطةٍ قريبةٍ من وجدان المغاربة.