مع اتساع رقعة التضامن الأكاديمي الغربي مع فلسطين، تبدو “إسرائيل” أمام أزمة غير تقليدية تضرب عمق قوتها الناعمة، إذ لم تعد المواجهة تُدار في ميادين القتال، بل في قاعات الجامعات ومختبرات البحث، حيث تتكشف ملامح تآكل تدريجي لرصيدٍ علميٍّ بنته تل أبيب على مدى عقود.
يتعامل الكيان الإسرائيلي مع هذه الموجة بوصفها تهديدًا استراتيجيًا للدولة، بعد أن شهدت الأشهر الأخيرة سلسلة من الإجراءات في الأوساط الأكاديمية الغربية، شملت إلغاء مؤتمرات وتجميد مشاريع بحثية، إضافةً إلى عرائض تدعو إلى مقاطعة “إسرائيل”، من بينها مطالبة نحو ألفِ عالمٍ في المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية (سيرن) بمراجعة الشراكة معها في مجال فيزياء الجسيمات.
انهيار الهالة العلمية
رغم تحفّظ بعض الحكومات الأوروبية على الدعوات إلى المقاطعة، أعلنت جامعاتٌ عدة في هولندا وبلجيكا وإيطاليا وإسبانيا، في أعقاب حرب غزة، تعليق أو إنهاء مشاريعها المشتركة مع المؤسسات الإسرائيلية. ويُعزى هذا التوجه في المقام الأول إلى تضخم الضغط الشعبي والأكاديمي على الحكومات والجامعات، التي يُنظر إليها غالبًا على أنها شريكة مع النظام الذي يمارس سياسات تطهيرٍ عرقيٍّ بحق الفلسطينيين.
تأتي هذه المقاطعة في لحظة حساسة بالنسبة لـ”إسرائيل”، التي بنت حضورها الدولي في العقود الأخيرة على مكانتها العلمية، حيث استفادت كبريات جامعاتها ومراكزها البحثية، وفي مقدمتها معهد فايسمان للعلوم وجامعة تل أبيب والجامعة العبرية في القدس، من تمويلٍ أوروبيٍّ منتظم يربطها بسلسلة من المشاريع والمراكز التكنولوجية المشتركة. فمنذ عام 2021، تجاوز إجمالي الدعم الذي تلقته هذه المؤسسات ضمن برنامج “هورايزون أوروبا” 875 مليون يورو، غير أن المفوضية الأوروبية اقترحت في يوليو/ تموز الماضي تعليق مشاركة “إسرائيل” جزئيًا في البرنامج.
سعت المفوضية الأوروبية إلى حرمان “إسرائيل” جزئيًا من الوصول إلى صندوق البحث الأوروبي “هورايزون أوروبا” الذي تبلغ ميزانيته الإجمالية نحو 95 مليار يورو للفترة المالية الحالية. وكان هذا الإجراء سيؤدي إلى فقدان “إسرائيل” حوالي 200 مليون يورو من المنح والاستثمارات المستقبلية ضمن مجلس الاستثمار الأوروبي المتخصص في التقنيات المبتكرة.
وكان الاقتراح يحتاج إلى أغلبية مؤهلة من الدول الأعضاء لتمريره، لكن دولتين من أكبر الدول، ألمانيا وإيطاليا، طلبتا مزيدًا من الوقت لدراسته. أما إيرلندا وإسبانيا وفرنسا ولوكسمبورغ وسلوفينيا والبرتغال ومالطا وهولندا، فقد دفعت باتجاه تجميدٍ أوسعَ للتمويل البحثي الإسرائيلي، في حين تمسكت النمسا والمجر وبلغاريا وجمهورية التشيك، بضرورة إبقاء قنوات التعاون العلمي مفتوحة لأسباب استراتيجية. وقد نتج عن هذا الانقسام أن تبنّى الاتحاد تعليقًا جزئيًا مؤقتًا، تجنب به أزمة سياسية داخلية بين أعضائه.
نتيجةً لذلك، انخفضت المشاركة الإسرائيلية في “هورايزون أوروبا” بنسبة 41%. وفي أحدث منح مجلس البحوث الأوروبي للباحثين الجدد لعام 2025، حصل باحثون من “إسرائيل” على 10 منح فقط من أصل 478، بانخفاضٍ حادٍّ مقارنةً بـ30 من أصل 494 في العام السابق. كما تبيّن انخفاضٌ في نسبة المنشورات المشتركة وبعض مؤشرات الاقتباس والتشارك البحثي، وفقًا لقاعدة بيانات “سكوبيس“؛ ففي إسبانيا مثلًا، تراجعت نسبة الأبحاث المشتركة من 9.2% إلى 5.9%، كما انخفض التعاون مع هولندا وكندا بمعدل الثلث، وحتى مع ألمانيا – التي عارضت رسميًا فكرة المقاطعة – تراجعت نسبة التعاون من 16% إلى 12.7%.
خطر نزيف العقول
لطالما كان التمويل الأوروبي للأبحاث رافدًا حيويًا للبحث العلمي في “إسرائيل”، ليس فقط من الناحية المالية، بل كجزءٍ من شبكة الانفتاح العلمي الدولي التي تعتمد عليها الدولة العبرية للحفاظ على مكانتها العالمية، بالتالي فإن فقدان الوصول إلى هذه الشبكات قد يؤدي إلى تهديد استدامة البحث العلمي عبر نزيف العقول نحو مراكز بحثية أكثر استقرارًا ولا تواجه تضاربًا أخلاقيًا أو سياسيًا بنفس القدر في “إسرائيل”.
تهدف المقاطعة إلى التأثير على دورة حياة البحث العلمي من الفكرة إلى التطبيق، حيث تعمل كقوةٍ مضاعفة التأثير تجمع بين البُعد الرمزي والقيمة الاقتصادية للمعرفة؛ فهي تقطع قنوات التمويل والتعاون البحثي، مما يُضعف تدريجيًا النظام البحثي الإسرائيلي في ربطه بسلاسل الابتكار الأوروبية. وعليه، فإن خسارة الوصول إلى منصات التمويل المتقدمة لا تُقاس فقط بالموارد المالية المفقودة، بل بفقدان شبكات التبادل المعرفي التي تُسرّع نقل التكنولوجيا وتطوير الكفاءات العلمية.
كما تراجعت بيئة الأمان داخل الجامعات الغربية، فقد أظهر استطلاعٌ شمل 548 مشاركًا من الطلاب وهيئة التدريس اليهود والإسرائيليين في 30 جامعة أسترالية، تراجعًا كبيرًا في شعور الأمان والثقة تجاه مؤسسات التعليم العالي؛ فقط 38% من الطلاب و36% من الموظفين شعروا بالأمان الجسدي داخل الحرم، وحوالي 30% شعروا بالأمان عبر الإنترنت. كذلك اعتبر 60% من الطلاب و54% من الطاقم أن إدارات الجامعات لا تتخذ إجراءات كافية لمواجهة الظاهرة، فيما وصفت غالبية العينة آليات الشكوى بأنها غير فعّالة أو محفوفة بمخاطر الانتقام، وهو ما يزيد مشاعر العزلة.
وهكذا، تحوّلت المقاطعة الأكاديمية لـ|إسرائيل” من مجرد ردود فعلٍ احتجاجيةٍ متفرقة إلى حركةٍ منظمةٍ ذات طابعٍ مؤسساتي، تمتد اليوم عبر أكثر من 22 دولة، أغلبها في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية. وتشير التقديرات إلى أن ما بين 45 و52 جامعة مرموقة قامت خلال الفترة الممتدة من نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 إلى يوليو/ تموز 2025 بتجميد أو وقف أشكال التعاون العلمي مع الجامعات الإسرائيلية، فيما جرى توثيق ما لا يقل عن 110 واقعة شملت رفض نشر أبحاث أو إلغاء مؤتمرات ومشاركات أكاديمية.
بحث عن بديل ناقص التأثير
في “إسرائيل”، فوجئت مراكز القرار الأكاديمي بسرعة انتشار المقاطعة واتساع رقعتها الجغرافية، إذ كانت التوقعات الأولية في مطلع 2024 تشير إلى أن الحملة ستبقى محدودة التأثير ومؤقتة، لكن بحلول منتصف 2025 اتضح أنها أصبحت أزمة متكاملة الأبعاد. لذلك خصّصت الحكومة الإسرائيلية نحو 90 مليون شيكل (25 مليون يورو) لإطلاق مبادرة الدرع الأكاديمي، غير أن النتائج الأولية تشير إلى تأثيرٍ محدودٍ حتى الآن، إذ اقتصرت معظم الاتفاقيات الجديدة على مجالات تقنية صغيرة التمويل، مع اتجاهٍ متزايد نحو الجامعات في آسيا وأمريكا اللاتينية لتعويض تراجع الشراكات الأوروبية.
امتدت المقاطعة إلى أمريكا اللاتينية، فقد أعلنت الجامعة الفيدرالية في سيارا البرازيلية، في 8 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، إلغاء اتفاقية التعاون الأكاديمي والتبادل الطلابي مع جامعة بن غوريون، بعد موجة احتجاجات طلابية داخل حرم الجامعة طالبت بقطع العلاقات مع المؤسسات الإسرائيلية، معتبرةً أن استمرار أي تعاون أكاديمي يمثل تطبيعًا مع واقع الإبادة والحصار. ورغم أن الاتفاقية، الموقعة في ديسمبر 2022، لم تُسفر عمليًا عن أي تبادلٍ طلابي أو برامج نشطة خلال العامين الماضيين، إلا أنها شملت دورةً أولى في الابتكار وهاكاثون افتراضي أُنجز حتى يوليو/ تموز 2023، بينما أُلغيت النسخة الثانية التي كانت مقررة في 2024 عقب اندلاع الحرب.
في الولايات المتحدة، لم تُتخذ حتى الآن أي قرارات رسمية بفرض مقاطعة أكاديمية شاملة ضد “إسرائيل”، إلا أن عدة ولايات أقرّت تشريعاتٍ تحظر على الجامعات والمؤسسات العامة المشاركة في أي مقاطعةٍ اقتصادية أو أكاديمية. كما اشترطت المؤسسة الوطنية للعلوم في منحها البحثية، منذ مايو/ أيار الماضي، بعد سياسةٍ مماثلة طبقتها المعاهد الوطنية للصحة قبل ذلك بشهر. وفي المقابل، عززت بعض الجامعات الأميركية علاقاتها مع نظيراتها الإسرائيلية خشية فقدان التمويل الفيدرالي، كما حدث في حالة جامعة هارفارد التي وسّعت شراكاتها الأكاديمية مع “إسرائيل” بالتوازي مع تعهّدها بتقييد الأنشطة المؤيدة للمقاطعة داخل الحرم الجامعي.
تآكل اقتصاد المعرفة
مع استمرار العزلة أو حتى تكرار حالات تعليق المشاريع العلمية، باتت تداعيات المقاطعة تتجاوز البعد الرمزي لتلامس صميم الاقتصاد الإسرائيلي القائم على المعرفة. فالتحدي لم يعد يتعلق بصورة “إسرائيل” العلمية فحسب، بل بمستقبلها كمركزٍ إقليميٍّ للابتكار، إذ يكشف استثمار حكومة تل أبيب في صندوقٍ لمواجهة المقاطعة عن إدراكٍ واضحٍ لخطرٍ استراتيجيٍّ طويل الأمد قد يؤدي، إن استمر، إلى تراجع جاذبية “إسرائيل” للباحثين الدوليين وتآكل مكانتها في مجالاتٍ حيوية مثل الطب، والتكنولوجيا المتقدمة، والذكاء الاصطناعي، وهي القطاعات التي تشكل الركيزة الأساسية للاقتصاد الإسرائيلي الحديث.
تُعيد الشبكات العلمية تشكيل خارطة المعرفة، حيث تعمل المؤسسات البحثية كنقاط وصلٍ تربط العلماء ببعضهم البعض، بالتالي فإن انفصال “إسرائيل” عن شبكات التعاون الأوروبية أو الأمريكية لا يؤدي فقط إلى نقص التمويل، بل يُغيّر أيضًا أولويات البحث ويؤثر على تكوين جيلٍ جديدٍ من العلماء. نتيجة ذلك، قد تتراجع مجالاتٌ كانت “إسرائيل” رائدةً فيها، بينما تتطور مجالاتٌ بحثية أخرى في أماكنَ أخرى، وتذهب فوائد الابتكار إلى دولٍ ومؤسساتٍ خارج “إسرائيل” على المدى الطويل.
كما يتطلب الاقتصاد القائم على المعرفة تدفقًا مستمرًا للمواهب، بحيث لا تكفي القدرة المحلية على الابتكار بمعزلٍ عن شبكات البحث العابرة للحدود؛ حتى في حال استمرار الشركات الإسرائيلية في تطوير حلولٍ مبتكرةٍ داخل حدودها، فإن تكامل هذه الابتكارات في سلاسل القيمة العالمية قد يتعثر، ما يؤثر لاحقًا على معدلات النمو والوظائف في قطاعاتٍ إستراتيجية. وعليه، فإن أي اضطرابٍ في هذا التدفق، بما في ذلك خطر نزيف الكفاءات، لا يمثل مجرد احتمالٍ نظريٍّ، بل تهديدًا حقيقيًا يمكن أن يُقوّض قدرة الدولة العبرية على المنافسة العالمية.