ترجمة وتحرير: نون بوست
لم يكن صوت الرجال وهم ينشدون تراتيل يوم السبت شيئًا توقعت سماعه خلال نزهة يوم سبت في شارع سكني هادئ بوسط تل أبيب؛ فقد كانت مدينة علمانية بشكل صارم عندما عشت فيها خلال العقد الأول من هذا القرن؛ كانت محلات الأطعمة التي تبيع منتجات لحم الخنزير أكثر شيوعًا من المعابد اليهودية، وكان يوم السبت مخصصًا للنوم حتى وقت متأخر والجلوس في المقاهي أو الاستلقاء على الشاطئ.
لا يزال هذا هو الحال بالنسبة لغالبية سكان المدينة، لكن شيئًا ما قد تغيّر خلال السنوات الأربع عشرة التي مضت منذ أن غادرت البلاد؛ فهناك ثقافة فرعية جديدة تعيش في المدينة. فقد أصبح هناك حضور ملحوظ لأشخاص يرتدون ملابس تميزهم كمستوطنين قوميين-دينيين من الضفة الغربية في أحياء كانت لعقود مأهولة بشكل حصري بالليبراليين العلمانيين الذين يعملون في مجالات الفن والصحافة والأكاديميا.
كان المشهد غير متناسق وغير قابل للتفسير، إذ إن تل أبيب لا تملك المؤسسات والمرافق التي تدعم نمط حياتهم، مثل المدارس الدينية والمعابد اليهودية، كما أن مطاعم الكوشر قليلة، وقد استغرق الأمر بعض الوقت لأفهم دلالة وجودهم.
كان من النادر سابقًا رؤية أشخاص يرتدون الزي المرتبط بالمستوطنين الأيديولوجيين في تل أبيب؛ رجال يرتدون القلنسوات المنسوجة الكبيرة ومسدس أوتوماتيكي مثبت في حزام بنطالهم الجينز، ونساء يرتدين أغطية رأس ملفوفة بعناية ويدفعن عربة أطفال، وعندما كانوا يُشاهدون، كانوا يبدون غير مرتاحين وخارج السياق، مثل عمال مزارع مغبرين يزورون المدينة الأنيقة في يوم عطلتهم.
لم يعد الأمر كذلك؛ فهم الآن يشعون ثقة واستحقاقًا وهم يتجولون في الشوارع التجارية الرئيسية للمدينة، مرورًا بمطاعم ومقاهٍ تقدم طعامًا غير كوشر لا يأكلونه، ومتاجر تبيع ملابس غير محتشمة لا يرتدونها، مرورًا بمحلات الجنس، ومتاجر أدوات التدخين، والملصقات التي تعلن عن عروض منسقي الأغاني في النوادي التي تفتح منتصف الليل، ويبدو وكأنهم لا يلاحظون أو يتفاعلون مع أي جانب من محيطهم.
عندما بدأت السياسة والثقافة الإسرائيلية يميلان نحو اليمين خلال الانتفاضة الثانية، اكتسبت تل أبيب لقب “الفقاعة”. لم يعد هذا المصطلح مستخدمًا، لكنه عندما شاع كان يشير إما إلى جزيرة من اليساريين المترفين المنفصلين عن غالبية البلاد، أو إلى معقل بوهيمي صديق للمثليين يتسم بالعقلانية والعلمانية والإبداع الثقافي.
حتى أن هناك فيلمًا صدر عام 2006 بعنوان “الفقاعة”، يتناول علاقة بين رجل فلسطيني ورجل يهودي، الذي عندما لا يكون مع أصدقائه في شقتهم ذات الطابع البوهيمي في شارع شينكين الذي كان آنذاك شارعًا عصريًا في تل أبيب، يعمل في متجر تسجيلات عصري يبيع أسطوانات الفينيل القديمة أو يحضر حفلات رقص احتجاجًا على الاحتلال، وفي حالة من التنافر المعرفي الكلاسيكي الذي يبدو غير مفهوم للغرباء ولكنه طبيعي تمامًا للإسرائيليين، يؤدي أيضًا خدمته العسكرية السنوية في نقطة تفتيش بالضفة الغربية؛ على الرغم من أنه يشعر بالسوء الشديد تجاه ذلك. التقى اليهودي بالرجل الفلسطيني لأول مرة عند حاجز التفتيش، ثم وجدا طريقة للعيش معًا في تل أبيب، واستقرا في شقة احتضنهم فيها أصدقاؤهم الليبراليون – تنبيه: حرق لأحداث الفيلم – حتى يقرر الفلسطيني أن يصبح انتحاريًا.
الفيلم سيئ للغاية كما يمكنك أن تتخيل، ويستحق النقد اللاذع الذي نشرته صحيفة هآرتس. لكنه كان شائعًا في إسرائيل، وقد حقق غرضه في كشف النقاط العمياء والعنصرية الحميدة لدى الليبراليين حسني النية في تل أبيب، رغم أن ذلك لم يكن بالتأكيد نية المخرج.
لطالما سادت القناعة التقليدية بأن تل أبيب محصنة ضد النزعة المسيانية والنزعة القومية المفرطة التي كانت تعصف بالمنطقة، وبشكل أدق، فالمدينة، التي تشبه بيروت إلى حد كبير في التزامها بالحياة الليلية والثقافة والمقاهي والشاطئ، تُعد مكانًا مريحًا للغاية لليهود الليبراليين الناطقين بالعبرية.
لكن هذا بدأ يتغير؛ لقد تم غزو “الفقاعة”، ليس جسديًا فحسب من قبل المستوطنين القوميين-الدينيين، بل فكريًا أيضًا من خلال نسخة شرق أوسطية توفيقية من السلطوية التي تنتشر بسرعة في الولايات المتحدة وأوروبا، ممزوجة بنسخة يهودية من المسيانية التي تميز القوميين المسيحيين المؤيدين لترامب.
ونظرًا لعدم وجود زيادة ملحوظة في عدد المعابد اليهودية أو المدارس الدينية أو مطاعم الكوشر في تل أبيب، فقد اعتقدت في البداية أن المستوطنين الذين يتجولون في الشوارع كانوا يزورون المدينة قادمين من القدس أو الضفة الغربية.
لكن في ذلك السبت الذي سمعت فيه رجالًا يصلّون، أدركت أنهم ليسوا زوارًا؛ بل يعيشون هناك. ومن خلال نافذة شقة في الطابق الأرضي، رأيت غرفة معيشة تم تحويلها إلى “شتِبل”، أي مكان غير رسمي للصلاة الجماعية. كانت الجدران مغطاة برفوف تحتوي على مجلدات التلمود، وكتب الصلاة مكدسة على طاولات قابلة للطي. وكان شريط من الأعلام الإسرائيلية البلاستيكية معلّقًا فوق إطار الباب، والدراجات ثلاثية العجلات والألعاب البلاستيكية الملونة مبعثرة في الفناء المغلق، ورائحة الطعام الدافئ تنبعث من نافذة المطبخ.
كان هذا المبنى السكني تحديدًا، المصمم على طراز باوهاوس المستطيل والذي يتلألأ باللون الأبيض تحت أشعة شمس البحر المتوسط، في السابق منزلًا يعيش فيه بعض الأصدقاء الذين كانوا غالبًا ما يقدمون أطباقًا غير الكوشر مثل لحم الخنزير والمأكولات البحرية عندما يدعونني لعشاء ليلة الجمعة، وأنا شبه متأكد أنهم لم يدخلوا كنيسًا في حياتهم، رغم أنهم مثل جميع الإسرائيليين المتعلمين جيدًا، على دراية جيدة بالكتاب المقدس العبري لأنه يُدرّس في المدارس العامة العلمانية كمادة أدبية. لم يقم أصدقائي بأي مراسم دينية للاحتفال ببلوغ أطفالهم، وأحدهم خضع لاحقًا لجراحة تغيير الجنس، وقد كانوا في كل هذا يمثلون نمط الحياة في تل أبيب.
وكان عداؤهم التلقائي تجاه المتدينين عمومًا والمستوطنين المتدينين خصوصًا؛ أيضًا أمر شائع جدًا، ويعكس أحد الانقسامات المجتمعية الكبرى في إسرائيل. وبينما كنت واقفة على الرصيف، أرسلت رسالة نصية لصديقتي: “هل تعلمين أن هناك مستوطنين متدينين يعيشون في مبنى شقتكِ القديم؟” فجاء ردها بكلمة واحدة: “مقزز!”.
قال لي كل من سألتهم تقريبًا إنهم لاحظوا زيادة في عدد المستوطنين في تل أبيب، لكنهم لم يفهموا متى انتقلوا إلى المدينة أو لماذا. وقد نشرت عدة صحف يسارية وليبرالية مقالات عن هذه الظاهرة، لكن القصة لم تصل إلى دائرة الأخبار الرئيسية. كان انطباعي أن الناس شعروا وكأن المستوطنين ظهروا فجأة، وكأنهم انتقلوا بشكل آني من الضفة الغربية.
وصفت لي إحدى المعارف زيارتها لوالديها مساء أحد أيام الجمعة في حي شمال تل أبيب الذي نشأت فيه وكانت تعرفه كحي علماني بالكامل؛ لكنها شعرت بالارتباك حين رأت عائلات دينية ترتدي ملابس بيضاء احتفالًا بيوم السبت حسب العادات المحلية، ويخرجون من شققهم ويتجولون في مجموعات. قالت بدهشة: “كانوا في كل مكان!” لم تلحظ انتقالهم إلى الحي ولم تجد تفسيرًا لوجودهم؛ حيث لم يبدو أنهم يعملون في تل أبيب أو يبنون كنيسًا.
أدركت لاحقًا أنهم اختاروا الصلاة في “شتِبل” منزلي، وهي أماكن تجمع غير رسمية للصلاة، لأن بناء كنيس في إسرائيل يتطلب تقديم طلب للحصول على ترخيص بلدي وتمويل حكومي، وهذا قد يجذب انتباه الإعلام ويؤدي إلى احتجاجات من الجيران العلمانيين. وبمجرد أن يصبح لهم وجود كبير بما فيه الكفاية، سيكون لهم الحق القانوني في المطالبة بتمويل حكومي لبعض المرافق، مثل المدارس الدينية والمعابد اليهودية.
وأظهر حادث وقع في 24 سبتمبر/ أيلول 2023، قبل أقل من أسبوعين من هجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول، تصاعد التوتر بين السكان المتدينين والعلمانيين في تل أبيب، وقد تصدر هذا الحادث عناوين الأخبار الدولية، وربما كان سيشكل نقطة تحول لولا تحول الانتباه إلى غزة. كان ذلك مساء يوم الغفران، الذي يصوم فيه اليهود المتدينون ويصلّون ويعترفون بخطاياهم ويطلبون المغفرة.
تتوقف إسرائيل تقريبًا عن العمل كل عام في يوم الغفران لمدة 25 ساعة؛ حيث تُغلق المطارات وتتوقف خدمات البث وتتوقف وسائل النقل العام وتغيب السيارات عن الطرق، باستثناء المناطق ذات الأغلبية غير اليهودية. أما غير المتدينين في تل أبيب وباقي أنحاء إسرائيل – سواء من اليهود والمواطنين الفلسطينيين – فلديهم تقليد علماني يتمثل في الاستمتاع بيوم خالٍ من حركة المرور بالتجول وركوب الدراجات في وسط الطرق الفارغة.
ولكن في مساء يوم الغفران عام 2023، نظّمت مجموعة من المستوطنين المتدينين صلاة عامة في وسط ساحة ديزنغوف في تل أبيب؛ والأهم أنهم قسموا المكان إلى مقاعد منفصلة للرجال والنساء، وفقًا للممارسة الأرثوذكسية. وبما أن قانون بلدية تل أبيب يمنع الصلاة العامة التي يتم فيها الفصل بين الجنسين، حاول المنظمون التحايل على الحظر المفروض على الحواجز المادية، والذي أيدته المحكمة العليا، عبر تحديد مناطق الرجال والنساء باستخدام أعلام إسرائيلية معلقة على أعمدة من الخيزران.
كيف يمكن لهذه العائلات أن تتحمل تكاليف العيش في تل أبيب؟ الجواب هو أنهم يتلقون تمويلاً من وزارات حكومية تتعاون مع أحزاب سياسية يمينية
تجمع العلمانيون للاحتجاج، وتدخل بعض النشطاء لإزالة الحاجز المؤقت، وسرعان ما اندلع شجار ووصلت الشرطة، لكن مقاطع الفيديو التي شاهدتها على الإنترنت عن الحادث تُظهر حيرة وعدم ارتياح أفراد الشرطة لفكرة اعتقال يهود يرتدون شالات الصلاة في يوم الغفران. لقد تسبب لي هذا الحادث في حالة من الحيرة؛ فالشريعة اليهودية تحظر السفر في يوم السبت والأعياد، ولهذا يعيش اليهود المتدينون على مسافة قريبة من معابدهم. لماذا جاء كل هؤلاء الناس إلى تل أبيب في يوم الغفران وأين كانوا سيبيتون؟ لم يخطر ببالي أنهم قد يكونون من سكان المدينة.
قالت لي إحدى الصديقات، وهي صانعة أفلام وثائقية بارزة كانت تتابع تدفق اليهود من الضفة الغربية، إنها تعرّفت على إحدى المستوطِنات في حيّها، وتوصلت إلى بعض الاستنتاجات من خلال الحديث معها؛ قالت صديقتي: “إنهم يستهدفون عاصمة الثقافة الإسرائيلية الليبرالية”، مضيفة أن العلمانيين لا يفهمون ما يحدث. وتابعت: “اليمين لا يطيق وجود تل أبيب”. فالمدينة تمثل نقيضًا لرؤيتهم لإسرائيل، التي تقوم على الثيوقراطية، ومعاداة الديمقراطية، والرفض العميق للأفكار الليبرالية. وعندما سألتها إن كان بإمكاني إجراء مقابلة مع صديقتها المستوطنة، أجابت: “لن تتحدث معك أبدًا. مستحيل. إنهم لا يتحدثون”.
تل أبيب مدينة باهظة التكاليف للغاية، فإيجار شقة صغيرة قديمة الطراز يعادل ضعف ما أدفعه مقابل مساحة مضاعفة في مونتريال، بينما أسعار البقالة أعلى بمرتين إلى ثلاث مرات، ولهذا فالسكن لليهود في مستوطنات الضفة الغربية أرخص بكثير، لأن الحكومة تقدم دعمًا لأسعار الشراء والرهون العقارية للمستوطنين.
كيف يمكن لهذه العائلات أن تتحمل تكاليف العيش في تل أبيب؟ الجواب هو أنهم يتلقون تمويلاً من وزارات حكومية تتعاون مع أحزاب سياسية يمينية لتحويل عشرات الملايين من الدولارات سنويًا من المال العام لدعم مجموعات من المستوطنين، العديد منهم من سكان الضفة الغربية من الجيل الثالث، وذلك بهدف الاستقرار داخل إسرائيل. تُعرف هذه المجموعات باسم “غارين توراني”، والتي تعني “النواة التوراتية”. وهي منظمات مركزية التنظيم ذات أيديولوجية ودوافع متشددة للغاية.
ونشرت صحيفة “ذا ماركر”، وهي صحيفة مالية يومية مرموقة مملوكة لصحيفة هآرتس، مقالاً خاصًا في عام 2015 عن “غارين توراني”، استنادًا إلى تقرير صادر عن مركز أبحاث ليبرالي يسمى “مولاد”. ووفقًا لتقرير مولاد، فقد كان هناك حوالي 52 مجموعة تابعة لـ”غارين توراني” منتشرة في أنحاء إسرائيل حتى عام 2014، منها 10 في تل أبيب وحدها، ومن المؤكد أن العدد اليوم أكبر بكثير.
كل مجموعة منها مسجلة كجمعية ولها رقم تعريف ضريبي، وتتمثل مهمتها المعلنة في “تعزيز الهوية اليهودية والصهيونية في دولة إسرائيل”، وتتلقى كل منها ميزانية كبيرة تصل إلى عشرات الآلاف من الدولارات سنويًا.
رسميًا، تشمل مهمتها تقديم الدعم الاجتماعي لليهود المهمشين الذين يعيشون في مجتمعات فقيرة اقتصاديًا، لكن الواقع هو أن المستوطنين إما يندمجون في مناطق علمانية مزدهرة، أو ينتقلون إلى مدن “مختلطة” عربية-يهودية مثل اللد؛ حيث يقول السكان الفلسطينيون المحليون، وهم مواطنون في إسرائيل، إن المستوطنين يشكلون حضورًا عدوانيًا وعنيفًا.
خلال أعمال العنف المدني التي شهدتها إسرائيل عام 2021، والتي تضمنت اشتباكات بين المواطنين العرب واليهود، أنشأ مستوطنون مسلحون “مركز قيادة” في مدينة اللد، وجابوا شوارع المدينة، وأطلقوا النار في عدة حالات على سكان فلسطينيين باستخدام الرصاص الحي. إحدى تلك الرصاصات قتلت موسى حسونة، وهو أب لثلاثة أطفال يبلغ من العمر 31 عامًا. وقد تم توثيق الحادثة بالفيديو، لكن النائب العام رفض تقديم لائحة اتهام، في حين حُكم على الفلسطينيين الذين قتلوا يغال يهوشوع، البالغ من العمر 56 عامًا، بعد أن ألقوا حجرًا إسمنتيًا على سيارته، بالسجن لمدة تتراوح بين 12 و14 عامًا.
تامر نفار، فنان موسيقى الهيب هوب الفلسطيني، نشأ في اللد ولا يزال يعيش فيها مع زوجته وأطفاله الصغار. خلال أحداث الشغب في مايو/ أيار 2021، صوّر من نافذة شقته مشهدًا مرعبًا: في موقف سيارات مقابل منزله، كان هناك ما لا يقل عن 20 مستوطنًا مسلحًا يتجولون برفقة الشرطة، بعضهم تم إحضاره بالحافلات من مستوطنات متطرفة في الخليل. نشر نفار الفيديو على حسابه في إنستغرام، مرفقًا بتسجيل صوتي مترجم إلى الإنجليزية لمكالمته مع الشرطة.
وبصفته مواطنًا يدفع الضرائب في إسرائيل، قال لموظف مركز الطوارئ إنه يريد معرفة ما الذي ستفعله الشرطة لحمايته هو وعائلته من المستوطنين. أبدى الموظف انزعاجًا واضحًا من إصراره على معرفة سبب سماح الشرطة للمستوطنين بالتجول بحرية في منطقة سكنية رغم فرض حظر التجول.
هل من المفترض أن ينتظر في شقته حتى يهاجمهم المستوطنون المسلحون؟ هل سترسل الشرطة المساعدة؟ لا، لن يرسلوا أحدًا؛ تامر وعائلته تُركوا وحدهم. لقد نسى المواطنون اليهود إلى حد كبير أحداث مايو/ أيار 2021، لكنها لا تزال صدمة حية بالنسبة للمواطنين الفلسطينيين.
لم يكن المستوطنون هم من ابتكروا مصطلح ومفهوم “تهويد” الأراضي الواقعة تحت السيادة الإسرائيلية. فقد حاولت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ تأسيس الدولة عام 1948، سواء كانت يسارية أو يمينية، زيادة عدد السكان اليهود في منطقة الجليل من خلال بناء بلدات جديدة، مثل الناصرة العليا، التي كانت نظريًا مخصصة للسكان اليهود فقط. لكن هذه السياسة لم تنجح فعليًا؛ فاليوم يشكل المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل نحو ثلث سكان الناصرة العليا، وعلى الرغم من السياسات الرسمية التي خلقت مجتمعًا شديد الانفصال، فإن الفصل التام بين السكان ثبت أنه مستحيل عمليًا.
يعتبر الليبراليون الإسرائيليون مصطلح “التهويد” مثيرًا للاشمئزاز وعنصريًا في الوقت الحالي، لكنه لا يزال مستخدمًا. كان مالك آخر شقة سكنت فيها قبل مغادرتي إسرائيل رجلًا يهوديًا اشترى العقار كاستثمار، وكانت الشقة في مبنى “مختلط” في يافا، وكانت تعد فرصة نادرة؛ ميسورة التكلفة، وواسعة، وفي موقع ممتاز، وبها شرفة تطل على حديقة مغلقة. قبل أن أوقع العقد، سألني المالك لماذا ترغب “فتاة يهودية لطيفة” مثلي في العيش بين العرب.
كان في السبعين من عمره، يرتدي قميصًا داخليًا أبيض يكشف عن كتفيه المشعرين ويغطي بطنه المترهل؛ كنا نجلس في شرفة شقته في قلب تل أبيب العلمانية الليبرالية. نظرت إليه والقلم في يدي، وترددت: هل يجب أن أرفض شقة ميسورة التكلفة لأن مالكها عنصري؟ ربما لن أجد مكانًا للعيش إذا طبقت هذا المعيار. مال بجسده عبر الطاولة، وربّت على فخذي بمودة وقال: “تعرفين؟ من الجيد أنك ستنتقلين إلى ذلك المبنى! نحن بحاجة لأشخاص مثلك لتهويد يافا” وقّعت عقد الإيجار، واتضح أنه مالك للعقار لا بأس به، لأنه في الغالب لم يزر الشقة أبدًا.
نظرًا لأن المستوطنين لا يعتبرون الضفة الغربية أرضًا محتلة، بل جزءًا من أرض إسرائيل التوراتية، فإن موقفهم هو أن المستوطنات تمثل امتدادًا لسياسة الحكومة الإسرائيلية منذ تأسيس الدولة عام 1948. والمثير للاهتمام أن المستوطنين باتوا ينفذون نسختهم الخاصة من واقع الدولة الواحدة من خلال “الاستيطان العكسي” داخل حدود إسرائيل لعام 1948. ويمكن القول إن أقصى اليسار وأقصى اليمين يطمحان إلى كيان واحد يمتد من النهر إلى البحر، رغم اختلافهما الجذري حول مسألة الحقوق المتساوية للجميع.
ويصف كاتب التقرير الاستقصائي في صحيفة “ذا ماركر” حركة “غارين توراني” بأنها “رؤية نهاية العالم”، حيث يتم الآن إرسال العائلات الدينية القومية التي وسّعت المستوطنات في الضفة الغربية لعقود “لإعادة الاستيطان في عمق منطقة تل أبيب الكبرى، بدعم من الأحزاب الدينية اليمينية”.
وينقل عن حاخامات بارزين في حركة المستوطنين الدينية القومية قولهم صراحة إن هدف “غارين توراني” هو تلقين الأشخاص العلمانيين أيديولوجيتهم الدينية-السياسية. ويعتنق قادة هذه الحركة أفكارًا عنصرية ورجعية بشكل علني، مثل سنّ قوانين تمنع المواطنين العرب في إسرائيل من استئجار أو شراء منازل في المناطق ذات الأغلبية اليهودية، واستبدال الهيكل السياسي الديمقراطي في إسرائيل بنظام ثيوقراطي (ديني).
وتقوم وزارة التربية والتعليم برعاية مئات الشباب من المستوطنات الذين يرغبون في قضاء سنة فاصلة بين المدرسة الثانوية والخدمة العسكرية، يقودون خلالها ورشات عمل لتعليم القيم الاجتماعية والدينية المحافظة في المدارس العامة العلمانية، مما يثير استياء أولياء أمور الطلاب في تلك المدارس.
بعد مرور عقد من الزمن على نشر مركز الأبحاث الليبرالية مولاد تقريره حول “غارين توراني”، يبدي المستوطنون القوميون الدينيون الذين يعيشون في تل أبيب مظاهر انتصار واضحة. فقد صعدوا إلى أعلى مستويات السلطة في الحكومة والقضاء والجيش وأجهزة الاستخبارات، وها هم اليوم يرسّخون وجودهم كلاعبين أساسيين في قلب المؤسسة الإعلامية الإسرائيلية، من خلال امتلاكهم لقناة تلفزيونية وصحف خاصة بهم.
رأيتُ مظاهر هذا الشعور بالانتصار جليّة خلال حفل إطلاق مذكرات إيلي شرابي، في فعالية خاصة بدعوات حصرية. ويُعد شرابي من أشهر الرهائن الإسرائيليين السابقين، إذ لم يعلم إلا بعد الإفراج عنه في فبراير/ شباط 2025، عقب 491 يومًا من الأسر، أن زوجته وابنتيه قد قُتلن في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وأن شقيقه يوسي، الذي اختُطف أيضًا إلى غزة في اليوم ذاته، قد قُتل على يد خاطفيه بعد 100 يوم. ولا يزال جثمان يوسي شرابي في غزة، وهو أمر يشكّل قضية محورية لعائلة شرابي التي تسعى لدفنه.
في صورة أصبحت أيقونية، يظهر إيلي شرابي لحظة خروجه من الأسر، هزيلًا، بعينين غائرتين، ملفوفًا بالعلم الإسرائيلي. وقد أصبحت تلك الصورة غلافًا لمذكراته بعنوان “الرهينة”، والتي سرعان ما أصبحت الكتاب الأسرع مبيعًا في تاريخ النشر الإسرائيلي.
أُقيمت فعالية الإطلاق صباح يوم جمعة في أواخر مايو/ أيار، في متحف الشعب اليهودي الواقع داخل حرم جامعة تل أبيب. ويُعرف هذا الحرم بجماله اللافت وتناسقه المعماري، كما يشتهر بعدد من المباني الوحشية التي صمّمها معماريون بارزون مثل لويس كان. وقد أُنشئ الحرم الجامعي عام 1956 فوق أنقاض قرية الشيخ مؤنس الفلسطينية التي دُمّرت عام 1948، باستثناء منزل المختار الأنيق، الذي أصبح اليوم نادي أعضاء هيئة التدريس في الجامعة. أما المتحف، فهو مبنى ضخم ذو طابقين، يتميز بنوافذ تمتد من الأرض إلى السقف وأرضيات سوداء مصقولة.
وقد تولّت دار “سِلا مائير” ذات التوجه القومي الديني نشر مذكرات شرابي، وهي دار متخصصة في الكتب التي تروّج لأيديولوجيا يمينية. وكان ذلك مفاجئًا، نظرًا لأن شرابي ينتمي إلى كيبوتس يساري، وبدت آراؤه ليبرالية عندما ظهر في مقابلات تلفزيونية. لكن شقيقه، الذي بذل جهودًا مضنية للإفراج عنه، مرتبط بالحركة القومية الدينية، التي ترتبط بدورها مباشرة بالحكومة. وربما، كما خمّن صديقي أن شرابي كان يأمل في استغلال هذه الروابط للضغط على الحكومة من أجل التفاوض مع حماس لاستعادة جثمان شقيقه يوسي. لا بد أنني بدوت متحفّظة في رد فعلي، إذ رفع صديقي حاجبه وقال ببساطة: “الناس يائسون.”
عند دخولي إلى القاعة الكبيرة المخصصة للفعالية، رأيت نخبة رموز الإعلام الإسرائيلي اليميني، من كتّاب الأعمدة ومعلّقي التلفزيون، يتبادلون الأحاديث مع شخصيات بارزة من المؤسسة السياسية اليمينية. لكن عددًا ملحوظًا من الحاضرين لم يكن من المتدينين، فيما عُرف عن بعضهم أنهم انتقلوا علنًا إلى المعسكر اليميني بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول، قائلين إن وحشية الهجمات التي قادتها حماس أقنعتهم بأن الليبرالية لم تعد خيارًا مطروحًا.
فإسرائيل، بحسب اعتقادهم الجديد، تخوض معركة وجودية ضد عدو لا يلين يسعى إلى تدميرها، ولم يعد هناك مجال لأي موقف تصالحي. لم أرَ أي صحفي معروف بانتمائه لتيار سياسي ليبرالي، باستثناء صديقي المتخفي الذي تلقّى دعوة خاصة واصطحبني معه بكرم كـ”مرافقة”.
كانت هناك عدة طاولات كبيرة مغطاة بمفارش بيضاء ثقيلة، تعجّ بأصناف ضيافة فاخرة بدت وكأن مارثا ستيوارت نفسها قد أشرفت على إعدادها. على إحدى الطاولات، صُفّت صوانٍ من المعجنات الفرنسية مثل “بان أو شوكولا”، والكرواسون، والدانيش المحشو بالفواكه. وقد ضمت طاولة أخرى مأكولات مالحة مثل الأسماك المدخنة والأجبان والبيض والخبز المخبوز يدويًا، بينما خُصّصت طاولة ثالثة لأطباق الفواكه والخضروات. وعلى أطراف القاعة، وُزّعت عدة آلات إسبرسو احترافية، يديرها باريستا يرتدون زيًا موحدًا ويحضّرون الكابتشينو حسب الطلب بكفاءة لافتة.
كان يمكن للمرء أن يظن أنه في فعالية راقية يستضيفها برجوازيون علمانيون من تل أبيب، لولا عاملين اثنين: الطعام كله كان “كوشِر”، والأسلحة كانت في كل مكان. فقد كان ناشر إحدى أبرز المنصات الإعلامية اليمينية المتطرفة في إسرائيل – رجل في الخمسينات من عمره وممتلئ الجسد ويعتمر قلنسوة محبوكة فوق رأسه الأصلع – يحمل بندقية إم 16 على كتفه كما لو كانت حقيبة ذات حزام متقاطع.
وكان ما لا يقل عن ثلث الرجال الذين يتجولون في القاعة أو يقفون في مجموعات يتبادلون الأحاديث أثناء تناول الطعام، يضعون مسدسات أوتوماتيكية في أحزمتهم. حتى فتاة شابة، في نحو التاسعة عشرة من عمرها، بشعر طويل وفستان محتشم بأكمام طويلة يوحي بأنها متدينة ومحافظة، كانت تحمل بندقية إم 16 أيضًا. حين كنت أعيش في هذا البلد، كان مشهد مستوطنين قوميين دينيين مسلحين يحتسون الإسبرسو في حرم جامعة تل أبيب أمرًا لا يُتصوّر. ولم يكن هذا المكان ضمن نفوذهم؛ إلى أن أصبح كذلك فجأة.
كان إيلي شرابي واقفًا في وسط القاعة، محاطًا بأشخاص يلتقطون صور سيلفي معه، أحدهم يضع ذراعه حول كتفه، والآخر يرفع كتابه أمام الكاميرا، والجميع يبتسمون ابتسامات عريضة. وكنت واقفة إلى جانب الجدار، أحتسي كابتشينو وأراقب المشهد. قدّمني صديقي إلى أحد أبرز معلّقي الأخبار التلفزيونية، الذي سرعان ما بدأ في سرد نقاط خطابية يمينية مكرّرة عن لا مبالاة حماس بمعاناة سكان غزة. وقال إنه لو تخلّت حماس عن سلاحها وأفرجت عن الرهائن، لتمكّنت إسرائيل من إنهاء الحرب.
في الساعة الثانية من الفعالية، اصطحبنا المنظمون إلى قاعة محاضرات تقع في طابق أسفل قاعة الاستقبال. لقد كانت جميع المقاعد مشغولة. ووقفت خلف المنصة امرأة واثقة من نفسها، ترتدي فستانًا أنيقًا ومحتشمًا بلون أزرق فيروزي، مع وشاح للرأس وحذاء رسمي متناسقين، وقدّمت نفسها على أنها مديرة البرنامج، ثم ألقت كلمة عن الكتاب ومؤلفه.
تلاها ممثل معروف بأدوار الشخصيات الثانوية، شارك في أعمال إسرائيلية، كما جسّد دور “إرهابي عربي” و”ديكتاتور شرق أوسطي” في عدد من أفلام هوليوود، وقدّم قراءة من مذكرات شرابي. ثم ألقى شقيق شرابي وشقيقته كلمتين. بعد ذلك، جلس شرابي لإجراء مقابلة مع صحفية اتسم أسلوبها بالابتذال والفظاظة، ما جعلني أشعر بإحراج شخصي ومهني شديد.
وكتبت على تطبيق الملاحظات في هاتفي: “أسوأ صحفية في العالم!” وأظهرت الشاشة لصديقي، فهزّ رأسه موافقًا. ولم تحاول الصحفية إخفاء نيتها، التي كانت تهدف بوضوح إلى استدرار رد فعل عاطفي من شرابي، ومن الجمهور تباعًا. وسألت: “كيف كان شعورك وأنت تنجو من كل تلك الأشهر في نفق تابع لحماس، لتكتشف لاحقًا أن زوجتك وابنتيك قد قُتلن بوحشية على يد إرهابيين؟”
كان شرابي، الذي سبق له أن صرّح في مقابلة تلفزيونية مطوّلة مع إيلانا ديان – وهي بمثابة ديان سوير في إسرائيل – بأنه لا يشعر بالغضب، قد حافظ على رباطة جأشه وأجاب على الأسئلة بصبر. وجلس الجمهور منصتًا بانتباه شديد، بنفس الوقار الذي كنا نظهره نحن طلاب المدارس حين كان يزورنا ناجون من المحرقة لإلقاء كلمات في يوم ذكرى الهولوكوست. كان واضحًا لي أن هذا الجمهور، وربما معظم اليهود الإسرائيليين، يرون في حماس – وهو مصطلح يُستخدم بالتبادل مع “الإرهابيين” و”الفلسطينيين” – النسخة الجديدة من النازيين، وأن 7 أكتوبر/تشرين الأول يُنظر إليه كامتداد للمحرقة.
عند مغادرتنا، تلقّى كل منا نسخة مجانية من كتاب “رهينة” ضمن حقيبة هدايا. وخلال بقية رحلتي، في كل مرة كنت أتجول فيها داخل مكتبة، كنت أسمع أحد الزبائن يسأل الموظف إن كانت لديهم نسخ من مذكرات شرابي، وكان الجواب دائمًا: “نفدت الكمية”.
في أغسطس/ آب، بعد أسابيع قليلة من مغادرتي إسرائيل، نشرت تالي غوتليف، إحدى أكثر أعضاء حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تطرفًا وإثارة للجدل، منشورًا باللغة العبرية على منصة “إكس” قالت فيه: “الاستيطان اليهودي الديني في تل أبيب الهدف الأساسي في الوقت الحالي! إن استيطان هذه الأرض يُلزمنا باستيطان أحياء كاملة في تل أبيب، تمامًا كما في اللد وهرتسليا [مدينة مزدهرة شمال تل أبيب]. أناشد جميع المشاركين في هذا الجهد. علينا تأمين تبرعات ضخمة لترسيخ الوجود اليهودي الديني في أنحاء تل أبيب كافة.” وقد نشر أحدهم صورة للمنشور على فيسبوك، حيث يشهد النقاش العبري نشاطًا كبيرًا. ومن بين أكثر من 200 تعليق، كثير منها ساخر أو مستهزئ بغوتليف، ورد تعليق يقول: “من يظن أنها تمزح أو مجنونة… فلينتبه إلى الغارين التوراني الجديد الذي ظهر تحت منزلك.”
يتناقض شعور الانتصار لدى اليمين المتطرف بشكل صارخ مع معاناة الليبراليين؛ فعلى مدى ثلاث سنوات، شاركوا في مظاهرات جماهيرية أسبوعية ضد حكومة نتنياهو، بدأت بالاحتجاج على خطتها لإنهاء استقلال القضاء، ثم تحولت إلى المطالبة بوقف إطلاق النار مقابل الإفراج عن الرهائن. ومع ذلك، لم يكن لصوتهم أي تأثير يُذكر. فقد أثبتت الحكومة، قولًا وفعلًا، أنها لا تكترث لمواطني المعسكر المناهض لنتنياهو، وبدأ الليبراليون الإسرائيليون يدركون أن قدرتهم على التأثير شبه معدومة في بيئة سياسية تتجه نحو السلطوية.
بالنسبة للمعسكر المناهض لنتنياهو، تنبع معاناته من قلقه على مصير الرهائن وسلامة الجنود في غزة، بينما يكمن مصدر خوفه الوجودي في الطموح العاري للحكومة اليمينية المتطرفة لتقويض مؤسسات الدولة الديمقراطية. ويصعب عليهم تحمّل هذا الشعور العميق بعدم اليقين بشأن المستقبل، إذ أخبرني عدد من الأصدقاء أن معظمهم، وكل من يعرفونه، يتناولون أدوية مضادة للقلق.
لكن هذا الخوف والقلق لا يمتدان إلى كلمة “إبادة جماعية”، التي لا تشكّل ببساطة جزءًا من الخطاب السائد. بالنسبة لي، وللكثيرين ممن أعرفهم، فإن هذه الحقيقة مؤلمة للغاية. لا بد أن الأمر يبدو مذهلًا وغير قابل للفهم بالنسبة لمن يتابعون من خارج إسرائيل: أن الإسرائيليين لا يرون الأخبار التي يراها العالم، ولا يصدّقون ما يُعدّ في نظر معظم الناس خارج إسرائيل من الحقائق التي لا جدال فيها، لكن هذه هي الحقيقة.
خارج دائرتي الضيقة من الأصدقاء المتشابهين في التفكير، كانت الأحاديث عن غزة بمثابة حقل ألغام، حتى أنني تجنّبت الموضوع تمامًا أو مارست رقابة ذاتية متعمدة؛ فلم تكن تعرف من قد ينفجر غضبًا (والغضب منتشر في إسرائيل هذه الأيام)، أو – وقد حدث لي ذلك مرارًا – من قد ينسحب من الحديث بتعبير مشكك ومجروح، وكأنه لم يعد واثقًا من قدرتي على فهم ألمه.
يبدو أن معظم الإسرائيليين ينظرون إلى التعبير عن التعاطف وكأنه لعبة صفرية: فإذا أظهرت اهتمامًا بمعاناة سكان غزة، فهذا يعني أنك لا تكترث للرهائن، ولا تهتم بالإسرائيليين الذين فقدوا أقاربهم في 7 أكتوبر/ تشرين الأول أو بعده.
وتُكرّس نشرات الأخبار المسائية والصحف الرئيسية هذا الواقع من خلال الاستمرار في تجاهل ما يحدث للفلسطينيين في غزة. والأسوأ من ذلك، أنها تضخّم الأصوات التي تصرّ على أنه “لا يوجد أبرياء” بين الفلسطينيين في غزة. وهناك فراغ إعلامي كامل في التغطية العبرية لما يتعلق بالمجاعة والدمار، باستثناءات محدودة مثل صحيفة هآرتس وموقع “لوكال كول”، النسخة العبرية من مجلة +972.
في صباح اليوم الأخير من زيارتي، وبين رشفة كابتشينو وطبق بيض مخفوق في المقهى الذي أرتاده عادة، وهو مكان بسيط يرتاده يساريون متقدمون في السن يعملون في مجالي الفن والصحافة، دار بيني وبين صاحبة المكان حديث ودي. كانت امرأة مثلية في منتصف العمر، تحيط عينيها خطوط ابتسامة دافئة، وتجمع شعرها الرمادي الطويل في كعكة غير مرتبة.
أخبرتها أنني كنت أجري مقابلات حول تزايد ظهور المستوطنين الدينيين في تل أبيب، وشرحت لها ما توصلت إليه بشأن تنامي حضورهم ونفوذهم. هزّت رأسها موافقة، ثم قالت: “المشكلة هي أن السياسة بالنسبة لنا شيء نمارسه في أوقات الفراغ. أما بالنسبة لهم، فهي حياتهم كلها. ولهذا السبب سينتصرون.”
المصدر: نيولاينز