حتى اليوم، يبدو الحديث عن العملات المشفرة بالنسبة لأغلبية الشباب العربي موضوعًا غامضًا ومشوّشًا، يشبه مشاهدة فيلم خيال عملي، لكن بالنسبة لآلاف آخرين، ربما ملايين، تحوّل هذا العالم إلى مصدر رزق ثابت، كما حال محمد المدهون (34 عامًا) من غزة، الذي تمّكن عبر التداول بالعملات المشفرة من جني أرباح ساعدته بتأسيس مشروع زواجه، ودفع المهر، والنجاة من محنة كورونا والعطالة التي خلّفتها.
التداول عربيًا
تحتل الإمارات المرتبة الأولى عربيًا في تداول العملات المشفرة، إذ لديها أعلى نسبة متداولين من السكان الذين يحتفظون بعملات مشفرة بنسبة تتجاوز 30% من السكان.
ويرى خبير البيتكوين والاقتصاد الرقمي جواد أبازيد، أن سبب تقدم الإمارات عربيًا في هذا القطاع مردّه إلى أنها “متقدمة بتأطير القوانين واللوائح التنظيمية، وهي تواكب التحول الرقمي بشكل سريع وتفوقت فيه على كثير من الدول حول العالم”.
ويصل عدد المتداولين في العملات المشفرة بالسعودية إلى 4 ملايين شخص، تليها مصر بنسبة 3% من السكان، ثم الأردن بنسبة 1.6%.
ويرجع أبازيد أسباب تأخر الدول العربية عن السباق العالمي في العملات المشفرة والرقمية إلى”ضعفٍ وافتقارٍ في البنية التحتية التقنية والرقمية التي تؤهل لتحولات من هذا النوع”.
وعملت دول الخليج على تخفيف القيود وفرض تنظيم لها، في حين أنّ “بقية الدول ما زالت تبحث عن حلول للتحول الرقمي، كما حصل مؤخرًا في الأردن من تنظيم للعملات الرقمية والمشفرة”.
التداول لمواجهة حصار الاحتلال
يقبل كثير من الشباب على العملات المشفرة والتداول بها للربح، ولأنها لا مركزية ولعدم وجود وسيط مالي، الأمر الذي ينعكس على الرسوم، والتي تعتبر قليلة للغاية مقارنة بالتحويلات المصرفية العادية، إضافة للسرعة، إذ تصل الحوالة في ثوان مقارنة بتحويلات نظام سويفت على سبيل المثال التي تتطلب أيامًا قبل أن تصل للطرف المستلم.
وتزيد أهمية الأمر في حالات الكوارث والحروب وصعوبة الإجراءات المالية، كما حصل في حرب الإبادة على غزة التي استمرت لأكثر من عامين منذ أكتوبر 2023.
وأغلقت البنوك أبوابها بوجه المواطنين منذ بدء العدوان على القطاع في السابع من أكتوبر، إذ دمرت “إسرائيل” واستهدفت البنوك والمصارف وأجهزة الصرافة وفرضت حصارًا ماليًا كاملًا منعت على إثره نقل الأموال من وإلى القطاع.
وهنا وجد الغزيون بدائل لنظام الصرافة العالمي عبر العملات المشفرة التي كانت متنفسًا لهم. حول ذلك يقول محمد المدهون إنه كان محظوظًا لمعرفته بالتداول قبل الحرب وأنه “استطاع خلال سنتين إرسال الأموال والمصروف لعائلته عبر متداولين داخل قطاع غزة”.
شقيق محمد كان يلتقي أحد هؤلاء المتداولين ويستلم منه بالعملة المحلية أو بالدولار، فيما كان محمد يرسل دولارات رقمية للوسيط في غزة بعملة USDT المشفرة.
وعن بقية العوائل يجيب محمد أن “التداول والعملات المشفرة أنقذت جزءًا من عائلات غزة، التي واجهت صعوبات مالية قاسية، ولم تستطع سحب أرصدتها أو رواتبها الجارية من البنوك بسبب الحرب”.
ويضيف: “للتداول -بالعملات المشفرة- فضل على الغزيين، إذ استطاع أهلي في القطاع كسر جزء من الاحتلال ومحاربة قيود المنع وسحب الأموال رغمًا عن أنف إسرائيل”.
“لولا التداول لما استطعتُ الزواج”
عبد الله الأرناؤوط أب لثلاثة أطفال، ويعمل في القطاع المصرفي في الأردن، يشارك تجربته في التداول مع “نون بوست” فيقول: “بدأت بالتداول ودخول عالم العملات المشفرة رغم قيود المنع في الأردن عام 2021. وبدأت بمبالغ بسيطة بحيث لا تشكل خسارتها أزمة اقتصادية لي”.
ويضيف: “يمكنني القول إنني على مدى هذه السنوات أعتبر رابحًا بمبالغ بسيطة إذا ما أخذنا الخسارات المتلاحقة بعين الاعتبار. بدأت بمتابعة أكثر 200 عملة ودراسة حركتها حتى أتقنتها”.
غير أن تداول العملات يؤثر على روتين الحياة والعائلة، حول ذلك يقول عبد الله: “تجربة التداول أثرت على حياتي بشكل شخصي، أخذت من وقتي كثيرًا بمتابعة العملات والسهر ليلًا رغم دوامي الباكر صباحًا، والعملة التي تتراجع عليّ أن أتابع سواها وهكذا”.
وتداول عبد الله بالعملات المشفرة كمحاولة لتنويع مصادر دخله وكعمل جانبي، على أن النجاح لا يكون حليفًا للجميع، فالأمر يحتاج لخبرة وممارسة، تقول عبير القادري :” تجربتي في التداول هي أقصر تجربة في التاريخ ربما.. احتفظت بمبلغ جمعته خلال شهور لأتعلم به وكان كل ما أملك، وخسرته دفعة واحدة للأسف”.
تقول عبير، إنها لن تكرر المحاولة، “لا يجد المرء أمواله في الشارع حتى يضحي بها هكذا”.
يخالف محمد المدهون عبير، فهو يرى التداول مساحة جيدة لكسب دخل إضافي: “توقف عملي في كورونا، وبدأت عندها تعلم العملات والربح والتكفل بمعيشتي، ولحسن حظي أنها كانت فترة صعود في سوق العملات إذ كسبت قرابة 15 ألف دولار”.
“لولا التداول لما تمكنتُ من الزواج وإرسال المهر لأسيل في غزة، بل إن تكلفة شراء العفش كاملة كانت من أرباحي من العملات في تلك الفترة”، يقول المدهون.
المستقبل نحو التحوّل الرقمي
باتت العملات المشفرة تفرض نفسها على الساحة الرقمية والمالية منذ ظهورها عام 2009، ولذلك لا بد من التطوير التقني والمواكبة لها ولمتطلبات السوق.
ولكن وفقًا لخبير العملات الرقمية جواد أبازيد فإنه “علينا أن نفرق بين العملات الرقمية، والعملات المشفرة”، ويضيف موضحًا: “العملات الرقمية هي ما تقوم بإصداره الحكومة من قبل بنكها المركزي، دولار رقمي أو درهم رقمي أو يورو رقمي”.
والعملات الرقمية هي أي شكل من أشكال المال موجود رقميًا فقط، أي ليس له وجود مادي مثل الأوراق النقدية أو العملات المعدنية، فنقود الإلكترونية في محفظة PayPal و Apple Pay هي عملة رقمية، وتتميّز العملات الرقمية بأنها مركزية، أي تخضع لإشراف وإصدار من جهة رسمية مثل البنك المركزي أو الحكومة، وتخضع للرقابة والسياسات النقدية للدولة، ولهذا غالباً هي مستقرة، ولا تقول بالضرورة على تقنية البلوك تشين.
ويرى أبازيد أن أغلب الدول تتجه نحو تخفيف استخدام الورق النقدي، لكن هذا التوجه له ضريبة تتعلق بـ”الخصوصية والضرائب وزيادة الرقابة ومصادر الأموال”.
هل يمكن أن تكون العملات الرقمية الحكومية بديلًا مقبولًا للعملات المشفرة وعلى رأسها البيتكوين؟ وما هي ما هي عملة البنوك المركزية الرقمية (CBDC)؟#اقتصاد https://t.co/gefmF1vyoF
— نون بوست (@NoonPost) October 3, 2023
في حين أن العملات المشفرة “هي ما يتم إصداره من قبل جهات غير حكومية، شركات خاصة أو حتى أفراد، وبالإمكان اعتبارها مشاريع تقنية، بعضها قدم حلولًا لمشاكل نعيشها والبعض الآخر هدفه استغلال الناس، وعلينا الحذر لأن كثير من هذه المشاريع مصممة للاحتيال”.
والعملات المشفرة، هي نوع خاص من العملات الرقمية، لكنها لامركزية، أي لا تخضع لأي سلطة أو بنك مركزي، وتعتمد بالكامل على تقنية البلوك تشين لضمان الشفافية والأمان، وتعتمد على التشفير في التحقق من المعاملات ولا يمكن لأي جهة تعديل سجلها، وسلبيتها الأساسية أنها شديدة التقلب حسب العرض والطلب في السوق، ومن أشهر العملات المشفرة بيتكوين وإيثريوم وريبل.
وعند سؤاله عن توقعه لمستقبل العملات المشفرة والرقمية عربيًا، أجاب جواد أن “المؤشرات تظهر توجهًا كبيرًا نحو التحوّل الرقمي في مختلف القطاعات، وعليه فإن المستقبل سيكون مرتبطًا بشكل وثيق بكل ماهو رقمي، وعلينا الاستعداد له”.
وعلى الرغم من توجه بعض الدول الكبرى للتعاملات بالعملات الرقمية مثل مجموعة دول البريكس التي تجري تجربة على عملة رقمية مرتبطة بالبنكوك المركزية لدول المجموعة، تبقى العملات محظورة في كثير من الدول العربية، فهل نرى في المستقبل القريب تحركًا رسميًا من الحكومات لتشريع استخدام العملات أو السماح بتداولها على نطاق أوسع؟
