يمثل التوسع الإماراتي المتزايد في الاستحواذ على الأراضي الزراعية في مصر، وخاصة في مناطق الاستصلاح الصحراوية الاستراتيجية مثل توشكى وشرق العوينات، نقطة تقاطع محورية بين الحاجة المصرية الماسة للاستثمار الأجنبي المباشر وبين المخاوف الجيوسياسية المتزايدة بشأن السيادة الوطنية على الموارد الحيوية. هذا التوسع، الذي تقوده شركات كبرى مثل “الظاهرة” وكيانات تابعة لصناديق سيادية كـ “القابضة ADQ” ، يُنظر إليه من منظورين متناقضين؛ فهو قد يمثل قوة دافعة للتنمية الاقتصادية من خلال ضخ رؤوس الأموال وتوفير فرص العمل، ولكنه في الوقت نفسه يشكل خطراً حقيقياً يتمثل في فقدان السيطرة على الموارد المائية والأمن الغذائي، مما قد يكرس شكلاً جديداً من أشكال التبعية الاقتصادية.
في هذا المقال، نحاول قراءة هذا التوسع ضمن ثلاثة محاور رئيسية لطبيعة هذا الاستثمار، تشمل تقييم الأثر التنموي لهذه المشاريع، وأيضا تحليل مخاطر التبعية وفقدان السيادة، وكذلك تقييم فرص الاستدامة والحوكمة.
في سنوات قليلة، تحولت #الإمارات من شريك استثماري إلى لاعب يتحكم في البنية الطاقية لمصر، في الشرائح التالية تعرف كيف تمددت الإمارات في خارطة الطاقة المصرية؟
📌تفاصيل أكثر في هذا التقرير👇https://t.co/KfCforauBx pic.twitter.com/TOIzCvblML
— نون بوست (@NoonPost) September 1, 2025
الاستثمار الزراعي الخليجي في مصر
بداية، إن الدافع الأساسي وراء الاستثمارات الزراعية الإماراتية في الخارج، بما في ذلك مصر، هو دافع استراتيجي يتعلق بالأمن الغذائي القومي لدولة الإمارات، التي تعتمد على الواردات لتلبية 85% من احتياجاتها الغذائية. هذا الاعتماد دفع دولة الإمارات لتكون من بين أكبر المشترين والمستأجرين للأراضي الزراعية في إفريقيا والعالم.
لقد تسارعت هذه الاستراتيجية بعد أزمة الغذاء العالمية بين عامي 2008 و2010، حيث شهدت أسعار القمح والأرز ارتفاعات هائلة، مما أكد ضرورة تأمين سلاسل إمداد مستدامة وموثوقة بعيدا عن تقلبات الأسواق الدولية. ومن هذا المنطلق، يتم النظر إلى الأراضي المصرية، وخاصة في مناطق الاستصلاح الجديدة، كنقطة حيوية ضمن شبكة الإمداد العالمية لدولة الإمارات. أيضا، تنتشر الاستثمارات الإماراتية في الخارج عبر تملك أو تأجير مساحات شاسعة، مع تركيز خاص على زراعة الحبوب والأعلاف. وهذا التركيز على الأعلاف (مثل البرسيم الحجازي)، وهو سلعة استراتيجية للثروة الحيوانية الإماراتية، إذ يشير إلى أن الدافع استيرادي بالدرجة الأولى، يهدف لخدمة استراتيجيات الأمن الغذائي للبلد المستثمر، وليس بالضرورة استراتيجية التنمية المستدامة للبلد المضيف.
كذلك، تمثل مشروعات الاستصلاح الزراعي الكبرى في الصحراء الغربية، مثل توشكى (بإجمالي مساحة تناهز 540 ألف فدان) وشرق العوينات، محور استراتيجية مصر لزيادة الرقعة الزراعية المحدودة والوصول إلى الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الاستراتيجية كالقمح. هذه المشروعات تعتمد بشكل أساسي على مياه النيل المنقولة والمياه الجوفية، ما يجعلها أصولاً ذات حساسية قومية بالغة.
وتبرز شركة “الظاهرة” الإماراتية كأبرز اللاعبين في هذا القطاع الحيوي، وهي تابعة للشيخ حمدان بن زايد آل نهيان. وعلى الرغم من أن الاستثمار الإماراتي يسهم في تطوير البنية التحتية، مثل مساهمة “صندوق أبوظبي للتنمية” (ADFD) في مشروع توشكى لزيادة الرقعة الزراعية بواقع 100 ألف فدان في عام 2014، فإن الطبيعة السيادية لهؤلاء المستثمرين (القابضة ADQ، وشركات مرتبطة بالعائلة الحاكمة) تضفي على التعاملات وزنا استراتيجيا وسياسيا، رسميا، يفوق مجرد الاستثمار التجاري العادي، فيما تأتي هذه الخطوات في ظل خطط توسعية طموحة للظاهرة، التي تجري محادثات للاستحواذ على 500 ألف فدان من الأراضي الزراعية في مصر.
السياق القانوني والجدل التاريخي لصفقات الأراضي
تخضع عملية تملك الأجانب للأراضي الزراعية في مصر لقيود قانونية مشددة تهدف ظاهريا لحماية السيادة الوطنية. ومع ذلك، سمحت التعديلات التي طرأت على قانون الاستثمار (القانون 72 لسنة 2017) برفع حظر تملك الأجانب للأراضي الصحراوية التي يتم الحصول عليها من قبل المستثمرين بغرض ممارسة نشاطهم الاقتصادي أو التوسع فيه. بالإضافة إلى ذلك، ينص القانون مبدئيا على ضرورة تملك المصريين لـ 51% من أسهم أي شركة أجنبية تمتلك أراضٍ صحراوية، بيد أن هذه القيود يمكن تجاوزها من خلال الاستثناءات التي يمنحها رئيس الجمهورية للمستثمرين، فيما يُعتبر هذا الاعتماد الكبير على السلطة التنفيذية في منح الاستثناءات نقطة ضعف حرجة؛ حيث يسمح بتجاوز الضوابط القومية لملكية الأصول الاستراتيجية، ما يخلق بيئة تسهّل الاختراقات في مجال السيادة الاقتصادية تحت ضغط جذب الاستثمار الأجنبي المباشر.
تاريخيا، يمثل الجدل التاريخي حول صفقات الأراضي في توشكى حجر الزاوية في النقد الموجه لفكرة التنمية، ويشير إلى وجود فجوة حوكمة خطيرة. ففي عهد الرئيس حسني مبارك، تملكت شركة “الظاهرة” مساحة 100 ألف فدان في توشكى بسعر 50 جنيها مصريا فقط للفدان، في وقت كان فيه متوسط سعر الفدان نحو 11 ألف جنيه مصري. وقد تُرجم هذا التسعير البخس إلى خسارة مالية ضخمة للدولة المصرية. ولم يقتصر الأمر على سعر الأرض، بل تحملت الدولة المصرية تكاليف البنية التحتية الرئيسية اللازمة للمشروع، مثل الترع والأعمال الصناعية المقامة عليها، ولم يتم تحميلها على المستثمرين، الذين تحملوا فقط تكلفة الاستصلاح الداخلي وهذا يعني أن الدولة قدمت دعما ضخما لرأس المال الأجنبي، ما قلل من العائد الصافي للصفقة على الخزانة العامة.
وسط صرخات ساكنيها..هدم البيوت فوق رؤوس أصحابها في #ضاحية_الجميل التابعة لمحافظة بورسعيد في #مصر، ضمن خطة التهجير القسري للأهالي كجزء من مشروع استثماري بالتعاون مع #الإمارات
📍تقع القرية على البحر الأبيض المتوسط، ويعود إنشاؤها إلى سنة 1978، حيث قام السكان ببناء منازلهم على الأرض… pic.twitter.com/UrbKdH3Wsq
— نون بوست (@NoonPost) March 6, 2024
وبعد ثورة 2011، صدرت فتوى قضائية ببطلان العقد. وعلى الرغم من أن الحكومة قررت لاحقاً سحب 62.6 ألف فدان من الشركة لعدم جديتها في الاستزراع (حيث لم تستزرع سوى 25 ألف فدان من المساحة المخصصة) والإبقاء على 37.4 ألف فدان فقط كتسوية، فإن هذا التاريخ يرسخ الشك في أن الاستثمارات الإماراتية استغلت ضعف الحوكمة المصرية للحصول على أصول استراتيجية بأسعار غير عادلة، ما يمثل في جوهره تحويلا للثروة الوطنية بتكلفة منخفضة جدا.
أيضا، يُعد ضخ رؤوس الأموال الأجنبية المباشرة لتطوير البنية التحتية الزراعية إحدى المزايا الرئيسية للاستثمار الإماراتي. فقد أعلن صندوق أبوظبي للتنمية عن تمويل مشروع توشكى لاستزراع 100 ألف فدان باستخدام تقنية الري المحوري المتقدمة. كما أعلنت شركة الظاهرة عن خطط لاستثمار نحو 230 مليون دولار والتخطيط لشراء 90 ألف فدان جديدة، ليصل إجمالي استثماراتها حتى الآن إلى 250 مليون دولار في مصر. إن هذه الاستثمارات الكبيرة في قطاع الاستصلاح الزراعي ضرورية لمصر، خاصة وأن الأهمية النسبية للاستثمار الزراعي القومي في مصر ظلت متدنية ومذبذبة مقارنة بالقطاعات الأخرى. ومن ثم، فإن الاستثمار الأجنبي يوفر التمويل الضروري لتحقيق التكوين الرأسمالي الذي يعجز عنه التمويل المحلي.
كما تساهم هذه المشاريع في خلق فرص عمل، وهو أثر إيجابي حيوي. فمشروع توشكى، على سبيل المثال، كان متوقعا أن يخلق ما يقارب 25 ألف وظيفة. كما أن استخدام تقنيات زراعية متطورة، مثل الري المحوري، يعكس نقل للتكنولوجيا والخبرات الزراعية الحديثة، ما يحسن كفاءة استخدام الموارد، نظريا. علاوة على ذلك، تمنح قوانين الاستثمار في مصر حوافز كبيرة للمستثمرين، تصل إلى خصم 30% من التكاليف الاستثمارية، بالإضافة إلى ضمان المعاملة بالمثل مع المستثمر الوطني ومنح الإقامة الاستثمارية. هذه الحوافز، المقرونة بخلق فرص العمل، تُستخدم من النظام بهدف تبرير دور هذه الاستثمارات كقوة دافعة للاقتصاد الوطني.
ومع ذلك، يظل الأثر الإيجابي في ميزان المدفوعات محدودا ومُعقدا. ففي حين أن التصدير (مثل الموالح) يزيد من العملة الصعبة، فإن الآثار السلبية للاستثمار الأجنبي المباشر تكمن في مرحلة ما بعد الاستثمار، وتتمثل في تحويلات أرباح المستثمرين وإعادة رأس المال إلى الخارج، بالإضافة إلى تحويلات أجور الخبراء الأجانب. هذه المدفوعات تشكل عبئا ضخما على ميزان المدفوعات للدولة المضيفة على المدى الطويل، ما قد يلغي أثر المكاسب الأولية، ويحول التدفق الأجنبي إلى صافي سحب للعملات الصعبة، وهو مؤشر رئيسي على التبعية المالية.
التبعية الاقتصادية وفقدان السيادة على الموارد
تثير الهيمنة المتزايدة للشركات الإماراتية على مساحات شاسعة مخصصة لزراعة القمح والسلع الاستراتيجية مخاوف جدية بشأن “الاستيلاء على الأمن الغذائي” المصري. فبالرغم من توريد جزء من المحصول محليا، فإن السيطرة الأجنبية على الإنتاج الداخلي لسلسلة إمداد حيوية تمنح المستثمر نفوذا كبيرا على قرارات التوزيع والتسعير مع الحكومة المصرية، ما يكرس تبعية مصر للخارج، فإذا ما تصاعدت التوترات الجيوسياسية، أو قررت الإمارات إعطاء الأولوية لأمنها الغذائي، فإن هذا الاعتماد يشكل خطرا سياديا كبيرا على قدرة مصر حيال التحكم في مخزونها الاستراتيجي، خاصة وأن شركة الظاهرة تسعى بشكل صريح لتأمين المخزون من السلع الاستراتيجية لدولة الإمارات.
كذلك، يعد الاستنزاف المحتمل للمياه الجوفية غير المتجددة في مناطق الاستصلاح الصحراوي (توشكى وشرق العوينات) هو الخطر الأكبر على السيادة القومية، حيث تفوق قيمة المياه قيمة الأرض ذاتها في بلد يعاني من ندرة مائية، حيث تعتبر الزراعة في هذه المناطق مسألة أمن قومي للمياه. وعلى الرغم من أن وزارة الزراعة أكدت أن معظم العقود تفرض على المستثمرين زراعة 5% فقط من المساحات بالبرسيم الحجازي للحفاظ على الموارد المائية، فإن التقارير البرلمانية تشير إلى أن نسبة زراعة البرسيم الحجازي (وهو محصول علفي شديد الاستهلاك للمياه وموجه للتصدير إلى دول الخليج) قد تصل إلى 25% في الوادي الجديد وتوشكى.
تسيطر على موانئ لها وأراضٍ وجزءً واسع من قطاعها الصحي.. كيف تستحوذ الإمارات على اقتصاد #مصر؟ pic.twitter.com/YaCnna4MQi
— نون بوست (@NoonPost) January 29, 2024
هذا التناقض الصارخ بين القيود القانونية والواقع الميداني يمثل استغلالا مباشرا لأحد أهم الموارد الوطنية غير المتجددة في مصر، إذ إن زراعة المحاصيل عالية الاستهلاك للمياه مثل البرسيم الحجازي للتصدير إلى الخارج تعني عمليا تصدير المياه المصرية الجوفية مجانا، ما يحوّل الاستثمار من تنموي إلى استخراجي وغير مستدام، ويُجسد فقدانا عميقا للسيادة على الموارد الطبيعية الحيوية.
التوسع الزراعي الإماراتي لا يأتي كحدث منفصل، بل كجزء من هيمنة اقتصادية إماراتية واسعة ومتعددة القطاعات في مصر. بعد صفقة رأس الحكمة، أصبحت الإمارات الشريك التجاري والاستثماري الأكبر لمصر، بإجمالي استثمارات بلغت حوالي 65 مليار دولار في قطاعات حيوية تشمل العقارات، والاتصالات، والموانئ، والطاقة. هذه الهيمنة الشاملة تخلق نفوذاً اقتصاديا وسياسيا ضخما، حيث تصبح قدرة الحكومة المصرية على إنفاذ الضوابط الرقابية أو تطبيق العقوبات على انتهاكات عقود الأراضي أو قيود المياه، مقيدة خوفا من إثارة اضطرابات مالية في قطاعات أخرى حيوية تهيمن عليها الكيانات الإماراتية. هذا التكامل في السيطرة يعزز وضع مصر كدولة تابعة اقتصاديا في سياق إقليمي، حيث تُصنف الإمارات بالفعل ضمن أكبر 10 مستحوذين على الأراضي في القارة الأفريقية.
في الختام، يمثل التوسع الإماراتي في الأراضي الزراعية المصرية معادلة معقدة ومتناقضة، حيث يوفر هذا الاستثمار ضخا حيويا لرأس المال الأجنبي والبنية التحتية الزراعية وفرص العمل، كما يساهم جزئيا في إنتاج المحاصيل الاستراتيجية محليا. بيد أن التحليل المعمق يشير إلى أن هذا التوسع لا يمثل استثمارا تنمويا مستداما بالكامل، بل ينطوي على مخاطر عالية من التبعية وفقدان السيادة، تتجسد في الاستغلال غير المستدام للموارد المائية الجوفية عبر زراعة محاصيل عالية الاستهلاك للمياه كـ “البرسيم الحجازي” وتصديرها، إضافة إلى ضعف الحوكمة التاريخي الذي سمح بتمليك الأراضي بأسعار بخسة والافتقار إلى الرقابة الفعالة.
وفي ظل الهيمنة الاقتصادية الإماراتية الشاملة على قطاعات مصر الحيوية، فإن مستقبل العلاقة الاقتصادية في القطاع الزراعي يتوقف على مدى قدرة صانعي السياسات المصريين على تحصين سيادتهم من خلال فرض تسعير عادل للموارد وإقرار آليات رقابية صارمة تضمن أن يخدم الاستثمار الأجنبي المصلحة الوطنية والأمن المائي لمصر على المدى الطويل، وليس فقط استراتيجية الأمن الغذائي للبلد المستثمر.