للعام السادس على التوالي تقر الجزائر ميزانية مثقلة بعجز مريب وصل إلى مستويات يصعب كثيرا التحكم فيه وهو ما يطرح عشرات الأسئلة المفتوحة، الأول: ما هي أسباب العجز الموازني؟ وهذا السؤال يستدعي سؤال آخر: كيف يمكن للحكومة أن تتصدى لهذه الأزمة المالية المستعصية دون اللجوء إلى الخيارات السيئة المتاحة مثل الإصدار النقدي لما له من آثار اقتصادية واجتماعية؟
تقرير عرض مشروع قانون المالية، يكشف عن رصد أكبر ميزانية تفوق 135 مليار دولار، ووفق الأرقام المعلنة للموازنة فمن المتوقع أن تبلغ قيمة إيرادات الميزانية حوالي 8009.0 مليار دج أي ما يعادل (61.61 مليار دولار) لترتفع إلى حدود 8.187,2 مليار دج (62,98 مليار دولار) عام 2027 ثم تنتقل إلى سقف 8.412.7 مليار دج أي ما يعادل 64.71 مليار دولار عام 2028، وأرجع المشروع هذه الزيادة إلى نمو الإيرادات خارج الجباية البترولية المدفوعة بشكل رئيسي بارتفاع الإيرادات الجبائية التي يتوقع أن تنمو بمعدل يقارب 6.6 بالمائة، بينما من المتوقع أن تتراجع عائدات الجباية البترولية من حدود 2.697,7 مليار دج أي ما يعادل 20.75 مليار دولار عام 2026.
وككل عام ستضخ الجزائر مبلغا ضخما في نظام الدعم الاجتماعي أو التحويلات الاجتماعية (نظام يساهم في تحقيق الحماية الاجتماعية وتوزيع الثروة لصالح الفئات الهشة)، يقدر بـ 5959.8 مليار دج، أي حوالي 46 مليار دولار، وهو ما يمثل حوالي 34 % من حجم الموازنة أي ثلثها وهو ما يترجم حرص السلطات العليا للبلاد على تكريس الطابع الاجتماعي للدولة الجزائرية.
ويضاف إلى ذلك كتلة الأجور لعام 2026 والتي تقدر بـ 5.926 مليار دج (45.58 مليار دولار)، أما نفقات التحويل فتشمل الدعم الموجه للمؤسسات العمومية والهيئات تحت الوصاية بقيمة 2.812 مليار دج (21,63 مليار دولار)، منها 1.768 مليار دج (13,60 مليار دولار) للمؤسسات العمومية ذات الطابع الإداري، إضافة إلى التحويلات الموجهة للأشخاص المقدرة بـ2.284 مليار دج (17,57 مليار دولار)، تشمل منحة البطالة بـ420 مليار دج (3,23 مليار دولار) يستفيد منها أكثر من 2.184.560 شخصا، ومعاشات التقاعد ومنتسباتها بـ424 مليار دج (3,26 مليار دولار).
ومثلما كان متوقعا بلغ العجز الإجمالي للخزينة العمومية 8889.94 مليار دج (68 مليار دولار) في نهاية يونيو/ حزيران 2025 أي ما يمثل 52 بالمائة من حجم الموازنة، بينما من المتوقع أن يصل إلى حدود 9627.66 مليار دج (حوالي 74 مليار دولار) أي ما يمثل 54.6 بالمائة من حجم الموازنة وهو ما يمثل 27 بالمائة من الناتج الداخلي الخام للبلاد.
أسباب العجز الموازني
يميل معظم الخبراء الأكاديميون ونواب البرلمان بغرفتيه إلى الخوف من هذا الرقم كثيرا لأن العجز تجاوز نصف الموازنة المرصودة للسنة المالية القادمة، والأسباب كثيرة ومتعددة يذكر من بينها الدكتور سليمان ناصر، أستاذ بكلية العلوم الاقتصادية وعلوم التسيير (جامعة ورقلة)، تراجع الإيرادات بسبب تراجع صادرات النفط التي تعتمد عليها الجزائر بشكل كبير، حيث تمثل حوالي 95 بالمائة من إيراداتها من العملة الصعبة، مما يجعل الاقتصاد المحلي مرتبطا ارتباطا وثيقا بتقلبات أسعار الطاقة العالمية. وحسبما ورد في الوثيقة فمن المتوقع أن يسجل قطاع المحروقات وتيرة نمو محدودة للغاية تكاد تعكس حالة ركود فعلي، حيث تشير التقديرات المبدئية إلى تسجيل معدل نمو سنوي متوسط لا يتجاوز 0.3 بالمائة خلال الفترة الممتدة ما بين 2026 و2028، وتفسر هذه التطورات بتراجع صادرات المحروقات وارتفاع مستدام في الطلب الداخلي.
واعترفت الجزائر صراحة بحالة عدم اليقين التي تخيم على السياق الدولي والإقليمي، والذي يتسم بتوترات جيوسياسية مستمرة وتقلبات متزايدة في الأسواق المالية وتصاعد النزاعات التجارية، لاسيما بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، ولا تزال حسبها دائما هذه العوامل تثقل كاهل التجارة العالمية وتعرقل آفاق النمو الاقتصادي.
وصف الرئيس الجزائري عبد المجيد #تبون، القرار الأمريكي بأنه “مسألة سيادية” تخصّ واشنطن وحدها، قائلاً إن “المعني بها هو المستهلك هناك، فصادراتنا إلى أمريكا نسبة ضعيفة وتمثل 0.5% من مجمل الصادرات، وهي مسألة لا تستحق أن ندخل بشأنها في معركة”.
📌خلف رسوم #ترامب على #الجزائر: ماذا… pic.twitter.com/GQHsQAMipS
— نون بوست (@NoonPost) July 22, 2025
أحد الأسباب الهامة الأخرى التي لا تقلُ أهمية عن الأول ارتفاع حجم النفقات لا سيما مع ارتفاع النمو الديمغرافي وما له علاقة بالقوى العاملة، ويقول سليمان ناصر إن “الجزائر عرفت نُموًا ديمغرافيًا سريعًا في السنوات الأخيرة ومُقابل هذا اتسعت رُقعة طالبي الشُغل وسط الجامعيين وخريجي مراكز التكوين المهني والتمهين، وعلى سبيل المثال لا الحصر تم توظيف أكثر من 8 آلاف من حاملي شهادة الدكتوراه دُفعة واحدة منذ عامين بهدف إنهاء أزمة الدكاترة غير المُعينين، وفي قطاع التربية تم إدماج 62 ألف أستاذ في مناصب قارة وحاليًا تعتزم الحكومة الجزائرية استحداث قرابة 100 ألف منصب عمل جديد لخلق فُرص الشغل ويعني هذا كُله تخصيص ميزانية أعلى لنفقات التسيير والتجهيز معًا”.
وكحل مبدئ لجأت الحكومة الجزائرية إلى رفع اقتراض الخزينة العمومية من البنك المركزي (المصرف المركزي للجزائر) من 10 بالمائة إلى 20 بالمائة من الموارد الميزانياتية للدولة مع تمديد فترة الاقتراض من 240 يومًا (8 أشهر) إلى سنة كاملة قابلة للتمديد وذلك لتمكين الحُكومة من سد العجز.. فهل سينجح؟.
ويُعتبر هذا القرار أول تعديل للقانون النقدي والمصرفي الذي صدر قبل حوالي عامين وهو القانون رقم 23_09 الذي تم نشره في العدد 43 من الجريدة الرسمية بتاريخ 27 يونيو/ حزيران 2023، ويخشى الكثيرون من إمكانية تكرار سيناريو “التمويل غير التقليدي” في ظل تزايد الدين العام الداخلي الذي وصل إلى حدود 16 تريليون و 879 مليار دينار أي ما يُعادل 126.74 مليار دولار في سنة 2024، ما يمثل 49.61 بالمائة من الناتج الداخلي الخام.
تؤكد عدة تحليلات صعوبة الأمر لأن الإشكالية الحقيقية تظهر على حد تعبير المحلل الاقتصادي جلال بوسمينة في حالة عدم تسديد القرض من طرف الخزينة، وقال عبر صفحته على فضاء فايسبوك أنه “وفي حالة التمديد لسنة إضافية أو العجز عن التسديد أساسًا وهنا سندخلُ في مرحلة ضخ أموال داخل الاقتصاد دُون أي مُقابل إنتاجي أي تمويل من العجز مما يرفعُ من التضخم ويزيدُ من الضغط على الأسعار ونسبة الدين الداخلي”.
بصيص أمل
وفي ظل عجز ميزانية الدولة وشح مواردها، بالتوازي مع انحسار هامش المناورة لا سيما وأن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون قد أغلق باب الاستدانة الخارجية تمامًا كونه مرتبط بتجربة مؤلمة مرت بها البلاد في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين إذ فرضت على الجزائر خلال تلك الحقبة شروط قاسية ومجحفة حيث أجبرت على تقليل الإنفاق وخفض الدعم على المنتجات الأساسية وشفط الوظائف وخصخصة المؤسسات العمومية وتسريح آلاف العمال، كما أنه انتقد بشدة الاستدانة الداخلية (التمويل غير التقليدي) لم يبق حل للحكومة سوى توسيع الوعاء الجبائي الذي يلعبُ دورًا كبيرًا في تحقيق استدامة الميزانية العامة وايراداتها.
🧵 الجزائر والاتحاد الأوروبي.. توتر سياسي تحت غطاء مكافحة تبييض الأموال
📌أدرج البرلمان الأوروبي #الجزائر في قائمة الدول التي تعاني “قصورًا إستراتيجيًا” في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، رغم الخطوات التشريعية التي اتخذتها الجزائر مؤخرًا. القرار أثار استغرابًا، خاصة أنه… pic.twitter.com/NkXfxo9jsk
— نون بوست (@NoonPost) July 18, 2025
ويُمكن للحكومة حاليا تطبيق قانون الضريبة على الثروة الذي لا يزال مجرد تشريع، وللتدليل على هذا المعطى يقول أستاذ الاقتصاد بجامعة المسيلة عبد الصمد سعودي لـ “نون بوست” إن “الحلول المتوفرة حاليًا لتفادي مرحلة الانكماش تحصيل عائدات الضريبة على الثروة التي تُعتبر ضئيلة جدًا مقارنة بعائدات الضريبة على الدخل إذ تكشف آخر الإحصائيات الواردة في التقرير التقييمي لمجلس المحاسبة (يتولى مُهمة الرقابة البعدية على الأموال العمومية) أن إيرادات ضريبة الثروة تُمثل 0.02 بالمائة من إجمالي الضرائب المُباشرة”.
وهناك بصيص أمل آخر يلوح في الأفق إذ تستعد الحكومة لإصدار أول صكوك سيادية في تاريخها مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل بقيمة 296 مليار دينار أي ما يعادل 2.3 مليار دُولار وفق وثيقة لوزارة المالية، وسيدوم الاكتتاب لمدة شهرين كاملين وسيفسح المجال أمام الجزائريين داخل البلاد وخارجها باستثناء الأجانب، واللافت أن هذه الصكوك ستكون مدعومة بأصول عقارية مملوكة للدولة وتمنح عائدًا إيجاريًا ثابتًا بنسبة 6 بالمائة سنويًا على مدار سبع سنوات، ويصف البروفيسور سليمان ناصر الرقم بـ “الضخم بالنظر إلى كونه أو إصدار للصكوك الإسلامية السيادية في تاريخ البلاد، وهو يندرج في إطار تدبير مصادر مختلفة للأموال بالنسبة للحكومة، ومبدئيًا سيُغطي الاكتتاب نسبة 3.7 % من مبلغ العجز الكبير في موازنة 2025”.