لطالما كانت قضية الصحراء الغربية في قلب التنافس الجزائري المغربي. لن تساوم المغرب على تلك المنطقة، حتى لو خرج شعبها وملكها في “مسيرة خضراء” من أجل ذلك، فـ”بالنسبة لعلال الفاسي، الزعيم الوطني الشيخ، فإن استعادة الصحراء حتى نهر السنغال واجب مقدس. وعلي يعتة الشيوعي لا يقل عنه تصلبًا، وليس للفقيه البصري موقف مغاير، أما المهدي بن بركة، الذي كان له موقف بالنسبة لموريتانيا، فلم يكن يحتمل أي شك في مغربية الصحراء الغربية. انطلاقًا من البرجوازي الفاسي الكبير حتى أفقر قروي في الجبال، ومن العسكري إلى المثقف، الإجماع عمليًا تام دون أي صدع”. هكذا يقول الصحافي الفرنسي جيل بيرو في كتابه “صديقنا الملك”، واصفًا قضية الصحراء بالنسبة لكل مغربي.
لكن ذلك يواجهه رؤى جزائرية مضادة، إذ تنظر الجزائر إلى دعم القضية الصحراوية الانفصالية بوصفه مسألة مبدأ لطالما ارتبطت بالتضامن ضد الاستعمار والتوازن الإقليمي. واشتدت وطأة ذلك حين رأت الجزائر جارتها المغرب تُكافأ على تطبيعها مع “إسرائيل” باعتراف أمريكي بسيادتها على الصحراء عام 2020، فقبل ذلك التاريخ كان الموقف الأمريكي مُبهَمًا وغير متحيّز.
إذن، تُشكّل قضية الصحراء مركز الحسابات الاستراتيجية والسياسات الخارجية لكلا الدولتين، فبالنسبة للمغرب، يُعدّ ضمان الاعتراف الدولي بسيادته على الإقليم حجر الزاوية في أجندته الوطنية ودبلوماسيته الإقليمية. أمّا الاعتراف ذاته، فبالنسبة للجزائر يدفعها إلى إعادة النظر في علاقاتها مع دول معيّنة وتشكيل أخرى جديدة. وقد أجّج هذا الخلاف الجوهري عقودًا من انعدام الثقة والتنافس، محوّلًا الصحراء الغربية إلى ساحة معركة رمزية واستراتيجية، بدأت تزداد صخبًا ويعلو فيها صوت السلاح منذ أزمة الكركرات في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، حين قام الجيش المغربي بعملية عسكرية عدّتها جبهة البوليساريو خرقًا لثلاثة عقود من الهدنة، وقررت على إثره العودة إلى الكفاح المسلح.
وفوق ذلك، جاءت الحرب الروسية الأوكرانية مطلع عام 2022 لتعزّز هذا الصراع، حيث وجدت منطقة شمال إفريقيا نفسها في قلب تحوّلات انعكست على مستقبل الأمن الأوروبي وتوازنات القوى، وأثرت في الجاهزية العسكرية والإنفاق الدفاعي في المغرب والجزائر. إذن، كيف دفعت وقائع السنوات الأخيرة البلدين ليصبحا من أكبر المنفقين عسكريًا في إفريقيا، وليعززا دورهما في رسم مستقبل أمن الطاقة للقارة الأوروبية؟ هذا ما سنحاول سرده.
مصالح جزائرية
بسبب الصدمة التي أحدثتها الحرب في أوكرانيا في أسواق الطاقة العالمية، وجدت الجزائر فرصة ذهبية لترسيخ مكانتها كواحدة من أبرز شركاء أوروبا في مجال الطاقة وسد الفراغ الذي خلفه الغاز الطبيعي الروسي الذي لم يعد في استطاعة دول الاتحاد الأوروبي أن تشتريه من روسيا.
بسبب انقطاع إمدادات الغاز الروسي وانهيار إنتاج الطاقة الليبي، قام رئيس الوزراء الإيطالي السابق ماريو دراغي بالتحول تجاه الجزائر وتركيز سياسات إيطاليا في مجالات الطاقة بشكل حاسم في الجزائر، وهي الخطوة التي انطلقت منها جورجيا ميلوني في تعزيز الشراكة بين دولتيّ الجزائر وإيطاليا.
استطاعت الجزائر أن تجني من ثمار الحرب الأوكرانية كفاءة حكم اقتصادي أكثر تعقيدًا واتساعًا، وأعادت تشكيل مكانتها الجغرافية في السياسة الإقليمية والدولية من خلال مواءمة صادراتها من الطاقة مع مصالحها الاستراتيجية، وكذلك وارداتها الغذائية، وفيما يخص تجارة الموارد الغذائية، كانت الجزائر في عام 2019 قد استوردت ما يصل إلى 5 ملايين طن من القمح بقيمة مليار دولار من فرنسا، مما جعله واحد من أنجح أعوام تصدير القمح في فرنسا، ولكن نظرًا لدعم فرنسا المتزايد العلني لمخطط المغرب بشأن الصحراء الغربية، بدأت الجزائر في التوجه نحو الموردين الروس وأوروبا الشرقية، بعد قرار باريس في يوليو 2024 بالاعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية.
مصالح مغربية
للمغرب دورها أيضًا في استراتيجية الأمن الأوروبي، فهي لا تعتمد على الطاقة فحسب، بل أصبح قمع المهاجرين غير الشرعيين الذين يشقّون طريقهم إلى أوروبا عبر المغرب صورةً أخرى من صور الشراكة بينه وبين الدول الأوروبية. وقد استطاع المغرب، من خلال شراكته مع الاتحاد الأوروبي في السنوات الأخيرة، جذب استثمارات كبيرة في البنية التحتية، واكتسب عبر تلك الآليات المتنوعة أدوات تفاوض رئيسية مكّنته من كسب دول مثل إسبانيا وفرنسا إلى جانبه في قضية الصحراء.
فبعد سنوات من إصرار مدريد على أن يُحدَّد مستقبل الصحراء الغربية عبر استفتاء شعبي في الإقليم نفسه، تراجعت إسبانيا عن موقفها عام 2024، الذي كان يعتبر وجود المغرب في تلك المنطقة احتلالًا، وأعلنت دعمها لخطة المغرب الهادفة إلى منح الإقليم حكمًا ذاتيًا محدودًا.
وفي عام 2024، خلال زيارة الرئيس ماكرون إلى الرباط في أكتوبر/ تشرين الأول من نفس العام، وقع المغرب وفرنسا اتفاقيات استثمارية بعشرات مليارات من الدولارات في مجالات الاستثمار في البنية التحتية والطاقة، وكانت تلك الزيارة قد عُدت كعلامة على انتهاء سنوات من التوتر بين المغرب وفرنسا.
وخلال تلك الزيارة ذاتها، أظهرت المغرب قدرتها على تحويل المكاسب الاقتصادية إلى مكاسب دبلوماسية، فأكد الرئيس ماكرون دعم فرنسا للمغرب في سيادتها على الصحراء الغربية، إذ رأت فرنسا في المغرب الحليف الأهم بعد تراجع نفوذها في منطقة الساحل الإفريقي، وفشل التقارب باستمرار مع الجزائر، وهكذا قرر ماكرون أن دعم خطة الحكم الذاتي المغربية للصحراء من شأنه أن يخدم مصالح بلاده.
في العموم، تحاول المغرب أن تتموضع كالشريك الأهم في مجال الطاقة المتجددة في إفريقيا لدول الاتحاد الأوروبي، خاصًة مع دول إسبانيا والبرتغال، وبذا، كُشف في عام 2021 عن خارطة طريق الرباط للهيدروجين الأخضر والتي تهدف لجعل البلاد موردًا رئيسيًا للهيدروجين للصناعات المحلية، وكذلك يتجاوز طموح المغرب مجال الطاقة المتجددة، حيث يسعى لدخول المنافسة في الجغرافيا السياسية لأنابيب الغاز في شمال إفريقيا لاستغلال سعيّ أوروبا للتخلص من إتكاليتها على الغاز الروسي بحلول عام 2027.
تاريخيًا، سيطرت دول الجزائر وليبيا كدول عبور على جغرافيا أنابيب الغاز، لهذا يسعى المغرب لأن يكون دولة عبور لأنابيب الغاز من خلال ربط غاز غرب إفريقيا بالسوق الأوروبية، من خلال مشروع خط أنابيب الغاز المرتقب مع نيجيريا، الذي اُقترح أول مرة عام 2016، وتم النهوض به بجدية مؤخرًا بعد اندلاع الحرب الأوكرانية.
يسعى هذا الخط لتوفير 30 مليار متر مكعب من الغاز سنويًا لأكثر من 400 مليون شخص على امتداد مساره 7000 كليو متر، وقد أبدت الكثير من الدول استعدادها لدعم هذا المشروع كما يتضح من مذكرة التفاهم التي وقعتها نيجيريا والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا والمغرب عام 2022، وإعلان الإمارات استعدادها لتمويل المشروع في عام 2025. وبالتوازي مع ذلك التموضع في مجالات أمن الطاقة وأمن الحدود مع أوروبا الذي جنت من وراءه المغرب أرباحًا اقتصادية ودبلوماسية كبرى، كان إعداد الجيش لازمًا، فكل ذلك التنافس ينبني أساسًا على قضية الصحراء الغربية المشتعلة.
صراع كميّ/ نوعيّ
في تقرير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (سيبري) لسنة 2024، نرى أن الجزائر قد تصدرت قائمة الدول الإفريقية في الإنفاق العسكري، حيث سجلت رقم تاريخي بلغ 21.8 مليار دولار أمريكي، وهو الذي يُعادل 8% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. بذا، تُعد الجزائر المنفق الأفريقي الأكبر وصاحبة العبء العسكري الثالث في العالم من الناتج المحلي الإجمالي بعد أوكرانيا و”إسرائيل”، ومن العشرين الكبار في العالم إنفاقًا عسكريًا. ما يُلاحظ أيضًا في تقرير سيبري، أن الجزائر خلال العقد الأخير (2015-2024) رفعت إنفاقها على الجيش كحصة من الناتج المحلي الإجمالي لأكثر من 3%، ما يُدلل على أخذها بجدية تجدد الصراع على الصحراء الغربية الذي تجدد مؤخرًا.
بحفاظها على توازنات العلاقة مع روسيا، ما زالت روسيا هي الحليف التاريخي لتسليح الجيش الجزائري، ففي نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، في صفقة غير مُعلنة الأرقام، أصبحت الجزائر أول زبون دولي لمقاتلة الجيل الخامس الشبحية الروسية “سوخويّ-سو57″، وهي المقاتلة المُصممة لمواجهة المقاتلات الغربية المتقدمة مثل إف-16 وإف-35. كذلك، تمتلك الجزائر شبكة دفاع جوي تعتمد على تشغيل أنظمة إس-300 المتطورة، وفي تدريب “صمود 2025” الذي قام به الجيش الجزائري في مدينة وهران، ظهر أن الجزائر تمتلك نظام الدفاع الجوي الروسي إس-400 تريّومف، القادر على إنشاء فقاعة مضادة للطائرات تمتد لمئات الكيلومترات، مما يشكل تحديًّا لأي قوة جوية معادية.
وفي اتجاهها لتنويع مصادر السلاح، دخلت الصين في قائمة موردي الأسلحة الأهم للجيش الجزائري، حيث حصلت على المسيّرات الهجومية الصينية من طراز “وينغ لونغ 2” التي كانت قد طلبتها في 2021، وتأخر تسليمها، وقد تم رصدها أثناء تجربة تشغيلها في الجزائر عام 2023، والمُرجح أن الجزائر تمتلك 24 مسيّرة من هذا الطراز.
من ناحية أخرى، وفقًا لتقرير معهد (سيبري)، زاد المغرب إنفاقه العسكري بنسبة 2.6% في عام 2024، ليصل إجمالي الإنفاق الكلي على القوات الملكية العسكرية إلى 5.5 مليار دولار، لكن، في مواجهة الإنفاق العسكري الجزائري، الذي يفوقها أربعة أضعاف، تعتمد المغرب على استراتيجية مختلفة، فبينما تتبع الجزائر عقيدة القوة الشاملة والردع الكمي، يُركز المغرب على امتلاك تفوق نوعي وتكنولوجيا متقدمة في قواته المسلحة تفوق نظيرتها الجزائرية، ورغم ذلك، رفعت المغرب قيمة الإنفاق العسكري لعام 2025 بشكل غير مسبوق.
خصصت المغرب 13 مليار يورو من أجل إنفاقها العسكري عام 2025، وهو ما يصل إلى 10% من الناتج المحلي الإجمالي، ففي هذا العام أعلنت المغرب على حصولها على مسيّرات جديدة من طراز بيرقدار من تركيا، ومقاتلات ميراج من الإمارات، وأعلنت وزارة الخارجية الأمريكية موافقتها المبدئية على صفقة عسكرية بقيمة 825 مليون دولار أمريكي مع المغرب لتزويدها بصواريخ متطورة من طراز “ستينغر”، حيث طلبت الحكومة المغربية 600 صاروخًا من إلى جانب معدات وخدمات دعم لوجستي وهندسي وتقني ذات صلة.
تعتمد استراتيجية المغرب العسكرية على القوات الجوية كالعمود الفقري لجيش البلاد، والولايات المتحدة و”إسرائيل” كعمود فقري في مجال توريد السلاح نتيجة لاتفاقيات التطبيع عام 2020. ففي عام 2024، حصلت المغرب على 25 مقاتلة إضافية من طائرات إف-16 من الطراز المحدث، وطورت 23 طائرة كان الجيش يمتلكها بالفعل.
قبلها بعام، حصلت المغرب على موافقة أمريكية لشراء 18 قاذفة صواريخ من طراز “هيمارس” بتكلفة 524 مليون دولار، وشملت الصفقة ذخيرة صواريخ هي درة تاج الصفقة، من طراز “أتاكمس” الباليستية التي يصل مداها إلى 300 كيلو متر قادرة على ضرب أهداف في عمق الأراضي الجزائرية بدقة متناهية.
راح ضحيتها ما بين 50 ألف و70 ألف شهـ،ـيد.. عن مجازر الاستعمار الفرنسي بحق الشعب الجزائري في مايو/أيار 1945#الجزائر #مجازر_8_ماي_1945 #فرنسا pic.twitter.com/kDTyAd3Zy8
— نون بوست (@NoonPost) May 8, 2024
ولمعادلة التفوق الجزائري في الدفاع الجوي، اتجهت المغرب إسرائيليًا، حيث استحوذت على نظام الدفاع الجوي المتقدم “باراك إم إكس” القادر على التعامل مع طيف واسع من التهديدات الجوية والطائرات المقاتلة والصواريخ الباليستية.
ويركز التفوق النوعي للمغرب على مجال المسيّرات، فلقد نجحت المغرب في إطلاق أول رحلة ناجحة لمسيّرة محلية الصنع في عام 2024، ولكن يُعد حصولها على مسيّرات بيرقدار التركية هو الحدث الأبرز لعام 2025، بالتوازي مع مسعاها للحصول على مسيّرات “إم كيو-9ب” الأمريكية التي كان الكونغرس قد وافق على بيّعها المغرب في نهايات عام 2024.
نحن إذا نظرنا إجمالًا نرى أن الإنفاق الإفريقي على التسلّح في عام 2024 وصل إلى 52 مليار دولار، وليس هذا الرقم هو المهم، بل الأهم مع توقعات بارتفاعه مستقبلًا أن منطقة شمال إفريقيا وحدها بلغت نفقاتها العسكرية 30.2 مليار دولار، احتكرت الجزائر والمغرب منها 90% من إجمالي الإنفاق، وبذا، ينذر هذا التطور المستمر بتأجيج حالة عدم الاستقرار، والسعي الحثيث نحو السلاح كلغة للحوار.
في هذا الحوار المسلّح، يتزايد التوتر مع الشركاء الأوروبيين، خاصة بين فرنسا والجزائر، بسبب دعم فرنسا الجديد لسيادة المغرب على الصحراء الغربية، وهو موقف لا يعمّق الخلافات الحالية فحسب، بل يُعيد أيضًا إحياء المظالم القديمة المتجذرة في الماضي الاستعماري، كما تستغل “إسرائيل” هذا الصراع لتضع أقدامًا في مناطق لم تعتد وطئها بشكل مكشوف من قبل، في قلب السياسة العربية، ونظرًا لحساسية تلك المنطقة لأمن الطاقة الأوروبي حاضرًا ومستقبلًا، فمن المرجح أن تشهد المزيد من القلاقل، سواء فيها أو في منطقة الساحل الإفريقي كذلك.