لم تكن غريتا تونبرج، كحالة ملأت الدنيا وشغلت الناس، الأولى من نوعها، سبقها في الواقع أمثلة أخرى، من جانيت لي ستيفنز (مذبحة صبرا وشاتيلا) إلى راشيل كوري (الوقوف في وجه الجرافات)، لكن حالة غريتا تونبرج مثلت في رمزيّتها تعبيرًا عن معنى آخر جديد، ربما يشبه صحوة في دعم سردية القضية الفلسطينية في الغرب على يد جيل من الشباب لم يُراهن عليه أحد، جيل زد (1997-2012).
في الماضي، ارتبط دعم القضية الفلسطينية غربيًا بتوجه يساري أمميّ ومن خلال شبكة من الارتباطات بين الجماعات اليسارية والأناركية ومقاومي منظمة التحرير الفلسطينية، حيث أفادت الجماعات اليسارية والأناركية من الخبرة العسكرية الفلسطينية في التدريب في معسكرات في الأردن ولبنان، ولكن لم تنجح القضية في النهاية أن تتخطى كونها همًّا نخبويًا – بالنسبة للشباب الغربي – وقد ارتبط في الأذهان بكون دعمها صورة من صور دعم الإرهاب، بسبب عمليات مثل ميونيخ 1972 أو خطف الطائرات، أو حتى الجماعات التي تدربت في معسكرات منظمة التحرير مثل “بادر ماينهوف” الألمانية، والتي ارتكبت العديد من الأعمال الإرهابية داخل ألمانيا الغربية.
تُعبر حالة الصحوة الشبابية في دعم القضية الفلسطينية عن نشوء نظام بيئي معرفيّ جديد في العموم، يرتبط بالتحرر من أسر القنوات المعلوماتية التقليدية في تناول العديد من القضايا، ليست القضية الفلسطينية وحيدة فيها، ولكنها استطاعت أن تفرض وجودها – لسوء الحظ – بسبب عامين من الإبادة في قطاع غزة. وإن جاز لأحد أن يُطلق على ذلك التغير في الوعيّ الشبابي الغربيّ تجاه القضية الفلسطينية مسمى “صحوة”، فما الذي يؤيد كلامه فعليًا؟
نظام بيئي معرفيّ جديد
استطاعت حالة الحرب تلك في زمن الوسائط الفائقة (Hypermedia) أن تخلق نظامها البيئي المعرفيّ الجديد (Information Ecosystem)، والذي ساعد كثيرًا على تغيّر السردية وأفسح مجالًا لأصوات جديدة ناطقة. نحن نرى تراكمًا معرفيًا لجيل الكبار عن القضية الفلسطينية خلقته وسائل إعلامية تأثرت بقرار رونالد ريغان في إلغاء عقيدة الإنصاف (The Fairness Doctrine) في المجالات الإعلامية، التي سمحت فيما بعد بظهور مروحة من قنوات اليمين مثل فوكس نيوز، ولكنها سمحت أيضًا بظهور قنوات مثل سي إن إن وMSNBC، اللتين قدمتا معرفة عن القضية الفلسطينية في أقصى صورها الحيادية، لا تُقدم سردًا منصفًا للفلسطينيين وعدالة قضيتهم.
في المقابل، كان لجيل زد (1997-2012) فضاؤه المعلوماتي الخاص، الذي ظل يخلقه مستفيدًا من أداة إخبارية مستحدثة وتكنولوجية إلى أخرى. تُعبر لحظة الحرب في 2023 عن تطور ما بات يُعرف، في أعقاب ثورات الربيع بالتحديد، باسم “صحافة الموبايل”، حيث يُصبح الجمهور من خلال تصوير الحدث هو صانع الخبر وناقله. فما إن وصلنا في زمن الحرب على غزة 2023 بالتوافق مع ثورة تطبيق تيك توك في العالم، كانت صحافة الموبايل بإمكانها أن تصل إلى مدى غير مسبوق من القدرة على صناعة المحتوى الإخباري، بشكل جذاب ومُتقن وغير مُفلتر بالعديد من فلاتر السياسات التحريرية للقنوات الإخبارية التقليدية. وبذا، أصبح التيك توك نافذة إخبارية مستقلة، وراديكالية في جوهرها، حيث لا مُذيع أو سكربت أو أجندة سياسة تحريرية. فمن خلال تيك توك، الضحية هي التي تتكلم، والجاني أيضًا يستطيع الكلام، ولكنه أثبت فشله في ترويج سرديّته من خلال تلك المنصات.
ما ميّز التيك توك أو الإنستجرام، أن المحتوى الإخباري فيهما يخلق نوعًا من التعاطف الفوري يتجاوز التحليل الجيوسياسي المُعقد، فحينما يُشاهد المتلقي المأساة الإنسانية دون وسيط خبري يقوم بإعادة الصياغة من خلال المونتاج مثلًا، أو إدراج مشهد ما في سياق معين، فإن هذا يحدث أثرًا إنسانيًا مباشرًا وأقوى في نفس المتلقي، حيث نجحت سرديات الفلسطينيين الشخصية، أو مراسلي منظمات المجتمع المدني الناشطة في مجال المساعدات، في أن تخلق جبهة حرب رقمية جديدة على السردية.
كان لفلسطين نصيبها فيه من النجاح، حيث راجت مصطلحات كانت تُعد أكاديمية نخبوية هامشية مثل “الأبارتيهد” و”الاستيطان” و”المستوطنات” بفضل سرديات التيك توك التي تخلق عالمها الإخباري الخاص. وفي الواقع، قد ظهر هذا الأثر حتى بعيدًا عن فلسطين، ففي ثورة نيبال التي حرّكها متظاهرون من جيل زد مؤخرًا، اعتمدت في حشدها، كما يُظهر تقرير من “PBS” الأمريكية، على مشاركة فيديوهات من قصور الأغنياء ونمط معيشتهم في وجه أحياء الفقراء، كانت وحدها كافية للتحشيد والتجييش.
صراع أجيال..
يمكن لبحث أجراه مركز “بيو” للأبحاث تحت عنوان “صغار السن في أمريكا يعبرون عن رأيهم تجاه حرب إسرائيل/حماس” أن يُظهر لنا كيف باتت فلسطين تُمثّل حيّزًا لصراع الأجيال الثقافي في الغرب. في فبراير من عام 2024، استُطلعت آراء قرابة 13 ألف شخص في الولايات المتحدة تجاه “الحرب” في الشرق الأوسط، وقد اتضح أن الأمريكيين الأصغر سنًا يقفون إلى جانب فلسطين أكثر من “إسرائيل”، حيث إن ثلث البالغين الذين تقل أعمارهم عن 30 عامًا أظهروا تعاطفًا كليًا مع الشعب الفلسطيني، بينما كان 14% فقط من المتعاطفين مع الإسرائيليين، والباقون ارتأوا موقفًا محايدًا في تلك القضية أو أنهم غير متأكدين. وفي التحليل الأيديولوجي لتلك الفئة، يتضح أن الجمهوريين والمستقلين يميلون إلى “إسرائيل” بنسبة 28% مقابل 12%، بينما يتعاطف الديمقراطيون مع الفلسطينيين بنسبة 47% إلى 7%.
View this post on Instagram
على العكس، يقف الأمريكيون الأكبر سنًا إلى جانب “إسرائيل”، فالأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 65 عامًا فما فوق، يؤيد 47% منهم بشكل كلي “إسرائيل”، في مقابل 9% أظهروا تعاطفًا مع المسألة الفلسطينية. هناك ملمح لافت للنظر أيضًا في ذلك البحث، فالنظرة الإيجابية للشعب الإسرائيلي في فئة تحت 30 عامًا قد انخفضت عن عام 2019 بنسبة 17 نقطة مئوية، بينما حافظت وجهات النظر تجاه فلسطين على ثباتها.
ويتمثل الصراع الجيلي الثقافي داخل مجتمع اليهود الذين استُطلعتهم الدراسة كذلك، فاليهود الأصغر سنًا يقفون ضد الحرب أكثر بكثير من اليهود الأكبر سنًا، والجدير بالذكر أن تلك الفئة من الشباب التي تؤيد حق الشعب الفلسطيني في النضال، لا تؤيد بالضرورة الطريقة التي اتبعتها حماس في السابع من أكتوبر، حيث يرى 58% من الشباب أن “هجوم” حماس غير مقبول بالنسبة إليهم. كذلك ترى أكثرية صغار السن الذين استُطلعتهم الدراسة، أن انخراط أمريكا في دعم “إسرائيل”، خصوصًا بشكل عسكري، أصبح يشكل عبئًا أخلاقيًا على بلادهم ولا يمكنهم الموافقة عليه، وفي المقابل يؤيد 56% من كبار السن المُستطلَعين الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في دعم “إسرائيل”.
وفي بحث آخر، أجراه مركز “بيو” أيضًا، نُشر في أكتوبر 2025، يُستهدف رؤى الأمريكيين بصفة عامة بعد عامين من الحرب، لم تحقق السردية الإسرائيلية نتائج أفضل. فقد رأى 39% من المُستطلَعين أن “إسرائيل” ذهبت بعيدًا جدًا في عمليتها العسكرية ضد حماس، بزيادة عن 31% في عام 2024 و27% في أواخر عام 2023. بينما أبدى 59% رأيًا سلبيًا تجاه الحكومة الإسرائيلية، بزيادة عن 51% في أوائل عام 2024. ما يُظهره هذا البحث المُستحدث، ضمن أمور أخرى أوسع، أن 70% من الديمقراطيين باتوا ينظرون بإيجابية تجاه الشعب الفلسطيني، مقارنة بـ 37% من الجمهوريين.