أعاد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي التأكيد على الدور المحوري الذي تضطلع به بلاده في الحد من الهجرة غير النظامية نحو أوروبا، مذكّرًا القادة الأوروبيين بأن القاهرة أصبحت بمثابة “الشرطي الأمين” على بوابات القارة الجنوبية، وحائط صد أمام موجات المهاجرين التي تحولت إلى هاجس مزمن للدول الأوروبية.
جاء ذلك خلال لقائه في بروكسل مع الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، كايا كالاس، على هامش القمة المصرية الأوروبية المنعقدة يوم الأربعاء 22 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، حيث شدد السيسي على أن الجهود المصرية منذ عام 2016 أسهمت في منع انطلاق قوارب الهجرة عبر السواحل المصرية، مما حدّ من التأثير المباشر للأزمة على أوروبا، رغم أن مصر نفسها تستضيف نحو عشرة ملايين أجنبي نزحوا من دول تعاني الحروب وعدم الاستقرار.
ويأتي تكرار الرئيس المصري لهذا الخطاب في إطار استراتيجية دبلوماسية متكاملة تنتهجها القاهرة منذ سنوات، تهدف إلى توظيف ورقة الهجرة كورقة ضغط ومصلحة متبادلة مع الاتحاد الأوروبي، فبينما ترى أوروبا في مصر شريكًا أمنيًا لا غنى عنه في ضبط حدودها الجنوبية، تسعى القاهرة إلى تحويل هذا الدور إلى مكاسب اقتصادية وسياسية مباشرة، خاصة في ظل ما يشهده الاقتصاد المصري من أزمات مالية حادة وتراجع في احتياطاته النقدية.
وتُعد القمة المصرية الأوروبية الحالية حدثًا لافتًا في مسار العلاقات بين الجانبين، إذ تُوصف بأنها الأولى من نوعها و “تاريخية” بحسب البيان الرئاسي المصري، كونها تأتي تتويجًا لأكثر من سبع سنوات من التعاون الأمني واللوجستي في ملف الهجرة ومكافحة التهريب.
ومن المتوقع أن تُسفر القمة عن توقيع مذكرات تفاهم جديدة بقيمة أربعة مليارات يورو، تمثل الجزء الثاني من حزمة المساعدات الأوروبية لمصر بموجب اتفاق العام الماضي، حين أعلن الاتحاد الأوروبي عن تخصيص 7.4 مليارات يورو لدعم القاهرة في مجالات الاقتصاد والطاقة والأمن الحدودي. بهذه الخطوة، تعزز مصر موقعها كـ شريك إقليمي محوري لأوروبا، مقابل استمرار التزامها بلعب دور “الشرطي الحارس” على الضفة الجنوبية للمتوسط.
الهجرة.. عصب الشراكة الأبرز
أصبح ملف الهجرة غير النظامية هو الركيزة الأهم في الشراكة الاستراتيجية المصرية الأوروبية وذلك في ضوء عدد من المؤشرات:
–تحولت مصر بحكم موقعها الجغرافي إلى نقطة مقصد ومعبر ومنطلق لحشود من المهاجرين واللاجئين، وبلغة الأرقام تعتبر من أكبر الدول التي تحتضن اللاجئين والمهاجرين في المنطقة، ووفقًا لتصريحات رسمية صدرت في أبريل/نيسان 2025، تستضيف الأراضي المصرية أكثر من 10 ملايين أجنبي من 133 دولة مختلفة، أي ما يعادل نحو 8.7% من إجمالي السكان، وتُعد الجالية السودانية وجنوب السودانية هي الأكبر، إذ يتجاوز عددها 6 ملايين فرد، تليها جاليات من فلسطين والصومال وإثيوبيا وإريتريا.
–بجانب كونها دولة مقصد، تُعد مصر أيضًا دولة عبور رئيسية للمهاجرين غير النظاميين نحو أوروبا، حيث تشير الإحصائيات إلى وصول أكثر من 71,200 مهاجر غير شرعي إلى أوروبا من مصر بين عامي 2009 و2024، معظمهم عبر طريق شرق البحر المتوسط إلى اليونان، وفي عام 2024، احتل المصريون المرتبة الرابعة بين أكبر الجنسيات وصولًا لوسط البحر المتوسط، والثالثة في شرق المتوسط. وشكّلوا 7% من المقيمين في مراكز الاستقبال بجزر بحر إيجه، ليحلوا في المرتبة الثالثة بين الجنسيات.
–تُعدّ الهجرة غير النظامية من أكثر الملفات إلحاحًا وإزعاجًا بالنسبة لأوروبا، إذ تجاوزت آثارها الحدود الاقتصادية لتصبح قضية أمنية ومجتمعية وسياسية تهدد تماسك الاتحاد الأوروبي واستقراره الداخلي، ورغم تخصيص الاتحاد ما يقارب 580 مليون يورو بين عامي 2021 و2023 لدعم جهود مكافحة الهجرة في دول شمال إفريقيا، فإن النتائج جاءت محدودة، إذ لم تتوقف “قوارب الموت” رغم تراجع وتيرتها بفعل الإجراءات الأمنية المشددة والرقابة على السواحل.
– تصدّر الملف أجندة عدد من القمم الدولية، أبرزها قمة مولدوفا في يونيو/حزيران 2022 التي شارك فيها قادة أوروبيون ودول مجاورة، وأُطلقت خلالها خطة “أوقفوا القوارب” الهادفة إلى تأمين الحدود وموازنة القوانين الأوروبية مع الاعتبارات الإنسانية. كما شهدت روما في يوليو/تموز 2023 مؤتمرًا دوليًا حول التنمية والهجرة بمشاركة 21 دولة وعدد من المنظمات الدولية، وحضره قادة بارزون من بينهم رئيس دولة الإمارات والرئيس التونسي ورئيسة المفوضية الأوروبية، في تأكيد على الأبعاد الإقليمية المتشابكة للأزمة.
– فضّل الاتحاد الأوروبي التعامل الثنائي مع كل دولة من دول شمال إفريقيا على حدة، ففي أكتوبر/تشرين الأول 2022، وُقعت اتفاقية تعاون مع مصر لتعزيز قدرات خفر السواحل المصري وتمويل معدات مراقبة بقيمة 80 مليون يورو، بعد أن أصبحت مصر ثاني أكبر مصدر للمهاجرين بعد تونس، حيث وصل إلى إيطاليا أكثر من 16 ألف مصري عام 2022.
–لعب الاتحاد الأوروبي دوراً رئيسياً في دعم مصر لمكافحة الهجرة غير النظامية، حيث بلغ إجمالي الدعم الأوروبي في هذا المجال منذ عام 2017 نحو 241 مليون يورو ويهدف هذا الدعم إلى تحقيق هدفين، الأول: تمويل شراء معدات للمراقبة والإنقاذ البحري للتصدي للمهاجرين غير المصريين، والثاني الحد من الدوافع الاقتصادية التي تدفع الشباب للهجرة غير النظامية لدى الشباب المصري، حيث دعم قطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة وريادة الأعمال في 15 محافظة مصرية.
شرطي أوروبا.. ماذا قدمت مصر؟
على مدار عشرة سنوات كاملة، انتهجت السلطات المصرية حزم من الإجراءات، الأمنية والتشريعية، التي تستهدف التصدي لعصابات التهريب:
–البداية كانت في 2016 حين أطلقت القاهرة أول استراتيجية وطنية لمكافحة الهجرة غير الشرعية (2026- 2016)، معلنة عدم خروج أي مركب هجرة غير شرعية من السواحل المصرية، بالإضافة إلى إصدار قانون (82) لعام 2016 لمكافحة الهجرة غير الشرعية، والذي وضع عقوبات رادعة لهذه الظاهرة بتجريمه كل أشكال تهريب المهاجرين.
– في نفس العام ترأست مصر واستضافت بشرم الشيخ الاجتماع الوزاري الثاني لمبادرة الاتحاد الإفريقي والقرن الإفريقي حول الاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين، كما استضافت بالأقصر المؤتمر الأول من نوعه الذي يضم كافة العمليات التي تتناول مسار الهجرة بين إفريقيا وأوروبا .
– في يناير/كانون الثاني 2017 تأسيس “اللجنة الوطنية التنسيقية لمكافحة ومنع الهجرة غير الشرعية والإتجار بالبشر” رسميًا وهي لجنة تابعة لمجلس الوزراء، وتضم (29) وزارة وهيئة، بخلاف رئيس اللجنة واثنين من الخبراء، وتختص اللجنة الوطنية بالعمل على رفع مستوى الوعي العام بمخاطر الهجرة غير الشرعية والإتجار بالبشر.
–في 2019 بدأت وزارة الهجرة تنفيذ المبادرة الرئاسية “مراكب النجاة”، التي أطلقها رئيس الجمهورية في إطار مشاركة مصر في تنفيذ الاتفاق العالمي للهجرة، الذي شاركت مصر في مراحل إعداده واعتماده بمدينة مراكش المغربية في ديسمبر 2018.
–في نفس العام استضافت مصر المنتدى الإقليمي الأول لهيئات التنسيق الوطنية لمكافحة الإتجار بالبشر وتهريب المهاجرين في إفريقيا، بينما تم إطلاق المكون المصري من مشروع تفكيك شبكات الاتجار بالأشخاص وتهريب المهاجرين في شمال إفريقيا بالتعاون من مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة.
–في أبريل/نيسان 2022 أصدر الرئيس المصري قرارًا بتعديل بعض أحكام قانون مكافحة الهجرة غير الشرعية وتهريب المهاجرين لسنة 2016، من أجل التصدي لهذه الظاهرة حيث تم تغليظ العقوبة لتصبح السجن المشدد مدة لا تقل عن خمس سنوات وغرامة لا تقل عن خمسمائة ألف جنيه ولا تزيد على مليون جنيه.
– ضمن هذه الجهود تأتي مبادرة “حياة كريمة” لتطوير الريف المصري، والتي تساهم بشكل مباشر في رفع جودة الحياة لمحدودي ومتوسطي الدخول بالقرى المصدرة للهجرة غير الشرعية، للحد من الأسباب والمحفزات التي تدفع الشباب للهجرة غير النظامية لأوروبا.
–نتيجة لتلك الإجراءات المشددة، تشريعيًا وأمنيًا وتنفيذيًا، انخفضت معدلات الهجرة غير النظامية من الأراضي المصرية لأوروبا بصورة كبيرة وصلت في بعض الأوقات إلى “صفر”،
–تعرضت أوروبا بسبب تلك الاستراتيجية لاتهامات من منظمات حقوق الإنسان بأن حكوماتها تنقل مسؤولية أزمتها إلى دول الجنوب، كما تصاعدت المخاوف من أن تتحول مصر إلى مخيم دائم للمهاجرين دون ضمانات إنسانية كافية، هذا بخلاف الجدل المثار حول انتهاكات محتملة لحقوق اللاجئين في مراكز الاحتجاز أو على الحدود.
ليست الهجرة وحدها
على مدار السنوات الماضية، ترسخت صورة مصر كـ“حائط صد” أمام موجات الهجرة غير النظامية عبر شرق المتوسط، بعدما نجحت في إقناع الأوروبيين بقدرتها على ضبط حدودها ومنع انطلاق قوارب المهاجرين.
وقد أسهم هذا الدور في ترسيخ مكانة القاهرة لدى العواصم الأوروبية كـ “شريك استراتيجي موثوق” قادر على المساهمة في معالجة أحد أكثر الملفات تعقيدًا وإزعاجًا لأوروبا خلال العقود الأخيرة، غير أن هذا الملف، رغم أهميته البالغة، لا يمثل سوى زاوية واحدة في شبكة المصالح المتشابكة بين القاهرة وبروكسل، والتي تجاوزت البعد الأمني لتشمل قضايا سياسية واقتصادية أوسع نطاقًا.
فأوروبا تنظر إلى مصر باعتبارها دولة استقرار نسبي في منطقة مضطربة، فيما تسعى القاهرة إلى توظيف هذه الصورة لتعظيم مكاسبها الاقتصادية والسياسية، ومن هذا المنطلق، تداخل ملف الهجرة مع ملفات أخرى مثل الطاقة، والتعاون الاقتصادي، والاستثمارات المتبادلة، ما مكّن مصر من تحقيق حزمة معتبرة من الدعم والمنح الأوروبية.
ورغم أن معظم هذا الدعم يُقدَّم تحت مظلة “التنمية الاجتماعية”، إلا أنه يخدم في جوهره الرؤية الأمنية الأوروبية الهادفة إلى إبقاء المهاجرين في دولهم الأصلية أو في دول العبور، وفي مقدمتها مصر، عبر تحسين المستوى المعيشي وتصفير مسببات الهجرة.
وفي المقابل، تحاول أوروبا استثمار العلاقة مع القاهرة كبوابة للعودة إلى الشرق الأوسط بعد سنوات من تراجع حضورها لصالح النفوذ الأمريكي، فالأوروبيون يرون في مصر مفتاحًا استراتيجيًا للتأثير في ملفات إقليمية معقدة، على رأسها القضية الفلسطينية، والأزمة الليبية، والوضع السوداني، والملفات الإفريقية المتشابكة، كما تمثل مصر بالنسبة لأوروبا سوقًا ضخمة لبضائعها واستثماراتها، فضلًا عن كونها جسرًا طبيعيًا نحو الأسواق الإفريقية بفضل موقعها الجيوسياسي المتميز.
وفي النهاية، يبدو أن القاهرة تتقن أداء دور “شرطي أوروبا الأمين”، الذي يخفف عن القارة صداع المهاجرين غير النظاميين، مقابل تعزيز مكاسبها الاقتصادية والسياسية، ومع ذلك، يظل التساؤل قائمًا: هل يمكن لمصر الاستمرار في هذا الدور دون أن تتحمل كلفة سياسية متزايدة داخليًا وخارجيًا؟