“أنتم في منزلكم، وأحيانًا نشعر بالخجل من أن نقول لكم “أهلًا وسهلًا” لأنكم أصحاب هذا المكان. نحن ننتظركم هنا، ننتظر أن تأتوا مع “المهتر العثماني”
بهذه العبارات استقبل الفلسطيني موسى الحجازي الزائرين الأتراك في ساحات المسجد الأقصى. هذه الساحات ذاتها شهدت طرد وفدٍ إماراتي بعد أن دخلها بحراسة الشرطة الإسرائيلية، ورفض أحد المصلين الفلسطينيين تبادل الحديث مع عضوٍ من الوفد الإماراتي، وخاطبه قائلًا: “لا أسمح لمطبعين من أمثالك بالحديث إليّ”.
هذا التباين الحاد في ردود الفعل الشعبية تجاه مواطني دولتين لديهما “علاقات دبلوماسية” مع “إسرائيل”، يفرض علينا النظر لما هو أبعد من جواز السفر وتأشيرة الدخول ووجود سفارة.
فبينما تأتي زيارة الوفد الإماراتي بحماية ومباركة إسرائيلية لترسيخ اتفاق التطبيع، وضمن أجندة “سلام” إقليمية تتجاوز المصالح الفلسطينية، تتميز زيارات الوفود والمؤسسات والأفراد الأتراك بطابعها الديني والإنساني والإغاثي والتنموي لدعم الصمود المقدسي، ويبدو استغلالًا إيجابيًا للعلاقات الدبلوماسية في مراقبة ما يجري على الأراضي الفلسطينية عن قرب، وتوسيع نفوذ القوة الناعمة التركية، وهو ما يبدو أن الفلسطينيين عمومًا، والمقدسيين خصوصًا، يفهمونه ويميزونه، ويتعاملون مع الوفود التركية على أساسه.
تركيا وإسرائيل: مسار مضطرب بين التعاون الاستراتيجي والقطيعة السياسية
تاريخ العلاقة بين أنقرة وتل أبيب هو قصة معقدة من التناوب بين الودّ الاستراتيجي الذي فرضته الجغرافيا والمصالح الأمنية المشتركة في مرحلةٍ سابقة، وبين العداء العلني الذي فرضته المواقف التركية تجاه القضية الفلسطينية. وكانت تركيا أول دولة ذات أغلبية مسلمة تعترف بـ”إسرائيل” في عام 1949، مدفوعةً بالمصالح الاستراتيجية المشتركة خلال الحرب الباردة، إذ رأت في “إسرائيل” شريكًا غربيًا يمكن الاعتماد عليه في منطقةٍ مضطربة، وبلغت العلاقات المتبادلة ذروتها خلال تسعينيات القرن الماضي، إذ وُقّعت اتفاقيات تعاون أمني وعسكري شملت تدريباتٍ مشتركة، وتبادل معلوماتٍ استخباراتية، وتوسعت الشراكة الاقتصادية والتجارية لتشمل مجالات الزراعة والطاقة والدفاع.
بقي هذا التعاون الأمني والاستخباراتي والاقتصادي بعيدًا عن متناول التقلبات السياسية، إلا أن هذه القاعدة اهتزت أمام تحولات السياسة الإقليمية التركية وصعود الخطاب السياسي التركي المناهض لسياسات الاحتلال، ثم بدأت المسافة تتسع بين أنقرة وتل أبيب مع تزايد حضور الخطاب المتعاطف مع القضية الفلسطينية.
وبلغت الأزمة ذروتها بعد الهجوم الإسرائيلي على غزة نهاية عام 2008، وانسحاب الرئيس رجب طيب أردوغان من الجلسة الشهيرة مع بيريز بعد خلاف حول الحرب على غزة، معلنًا نهاية مرحلة الهدوء، وتلا ذلك حادثة سفينة مرمرة عام 2010، التي قُتل فيها عشرة ناشطين أتراك برصاص الجيش الإسرائيلي، ما أدى إلى تجميدٍ شبه كامل للعلاقات الدبلوماسية.
مثّلت هذه الحادثة نقطة اللاعودة المبدئية، ولم تعد المصالح الأمنية والاقتصادية والعسكرية هي الناظم الرئيسي لعلاقة تركيا مع “إسرائيل”. لاحقًا، ومع موجة الثورات المضادة في العالم العربي، ومحاولة تركيا إعادة لملمة أوراقها الإقليمية وترتيب أولوياتها، كانت هناك محاولات للتهدئة وتبادل السفراء، ولكن جوهر العلاقة بين تركيا و”إسرائيل” أصبح وظيفيًا بحتًا، يدفع إليه بشكلٍ رئيسي اللوبي الاقتصادي القوي في تركيا والمصالح الإقليمية الملحّة في الطاقة (مثل الغاز الطبيعي)، بالتزامن مع بياناتٍ متكررة عن كشف شبكات تجسس تابعة للموساد الإسرائيلي تعمل على الأراضي التركية.
كما عملت تركيا على استغلال مفاوضات عودة العلاقات والسفراء في توسعة نشاطها الإغاثي والتنموي داخل الأراضي الفلسطينية، وداخل غزة تحديدًا، والسماح لشاحنات البضائع وجمعيات الإغاثة التركية بمواصلة دعمها الإنساني، كما فتحت الطريق أمام بناء مشاريع كبرى مثل مستشفى الصداقة التركي-الفلسطيني، وهو مشروع تنموي ضخم بقيادة وكالة “تيكا”.
هل يكون هناك “جنود أتراك” في غزة؟
أعادت الحرب على غزة التوتر السياسي إلى الواجهة رغم بقاء المصالح الاقتصادية قائمة، وحاولت أنقرة على مدى عامين الموازنة بين انتقادها العلني للعمليات الإسرائيلية بسقف مرتفع ودعمها الإنساني للفلسطينيين وبين إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة لتضمن لنفسها موقعًا فاعلًا في الحراك الدبلوماسي.
ومنذ عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر 2023 استقبل مسؤولون أتراك عددًا من قيادات حركة حماس وناقشوا الأوضاع الإنسانية في غزة وتفاصيل المفاوضات الجارية بين الحركة و”إسرائيل”. فيما برز الحضور التركي أكثر في المفاوضات بعد لقاء أردوغان وترامب في أيلول/سبتمبر الماضي الذي أكد فيه الأخير على دور أردوغان في إيقاف الحرب في غزة، بعد أن كانت تركيا لوقت طويل طرفًا غير مرغوب به في المفاوضات بالنسبة لكل من “إسرائيل” وبعض الدول العربية التي ترى في النفوذ التركي المتزايد تهديدًا لنفوذها.
وتلتزم تركيا بتصنيف حركة حماس كحركة مقاومة، وتقيم علاقاتٍ طبيعية معها شأن بقية الفصائل الفلسطينية، وتوفّر إقامة غير رسمية لكوادرها، ولكنها في الوقت نفسه تحافظ على قنوات اتصال مفتوحة، ولو كانت باردة، مع “إسرائيل”، ما يمنحها هامشًا من المناورة السياسية والإنسانية، وهو ما يحافظ على مصداقية تركيا كقوةٍ إقليمية تتحرك ضمن الممكن، وبما يخدم مصلحة القضية الفلسطينية، ويعطي شرعية لاستمرار النشاط الإغاثي التركي ووجوده في القدس، هذا الموقف يضمن لأنقرة مقعدًا دائمًا على طاولة التأثير والنفوذ في الأراضي الفلسطينية، رغم كل الخلافات الجذرية مع الاحتلال.
لكن علاقة تركيا الجيدة مع كلٍّ من قيادات حماس وبقية الأطراف الفلسطينية، ومع ترامب شخصيًا، منحها الفرصة لتعزيز حضورها الإقليمي، لتكون جزءًا رئيسيًا من اتفاق السلام في شرم الشيخ، والقدرة على عزل نتنياهو ومنعه من حضور القمة، وكانت رويترز قد نقلت عن مسؤولين دبلوماسيين إسرائيليين أن “إسرائيل” اعترضت في البداية على دخول تركيا في محادثات السلام، لكن ترامب تدخل وضغط على تل أبيب للسماح بمشاركتها.
بعد الهدوء النسبي في قطاع غزة الذي فرضه اتفاق وقف إطلاق النار، تسعى تركيا لاستثمار حراكها الدبلوماسي من خلال المشاركة في ترتيبات اليوم التالي في غزة، حيث قال الرئيس التركي إن تركيا ستكون ضمن قوة المهام التي ستراقب تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، فيما قالت وزارة الدفاع التركية إن قواتها مستعدة لأي مهمة تُكلَّف بها ضمن هذه القوة المشتركة.
ومن الجدير بالملاحظة أن أحد الأهداف المُعلَنة للمشاركة التركية على الأرض هو “تحديد مواقع جثث الإسرائيليين المفقودين” داخل غزة. وكان هاكان فيدان قد قال في مقابلةٍ تلفزيونية، ما قد يُفسّر الإعلان عن هذا الهدف:
“في الواقع، إن انشغالنا التكتيكي لا يمنعنا من تطوير رؤية استراتيجية، بل على العكس، جميع هذه الانشغالات التكتيكية تُهيّئ الأرضية الواقعية للمقترحات الاستراتيجية التي سنقدّمها.”
إلا أنه من البديهي أن ترفض “إسرائيل” هذه المشاركة التركية، خاصةً وأنها قلقة بوضوح من نفوذ تركيا المتزايد في سوريا بعد سقوط نظام الأسد نهاية عام 2024، وشعورها بأن تركيا أصبحت على حدودها بعد استلام الحكم في سوريا من قبل حليفٍ قوي لأنقرة، فكيف سيكون من المتوقع أن تسمح تل أبيب بوجود جنود أتراك داخل غزة، أي ضمن منطقة تعتبرها “إسرائيل” منطقة نفوذٍ خاصة بها، وهو بالضبط ما تحاول تركيا تفكيكه عبر الإصرار على تنفيذ كافة بنود الاتفاق، وإعادة إعمار غزة، وإخراج الحالة الغزاوية من سلطة الاحتلال العسكرية أو قدرته على الحصار.

من جانبه، يرى الصحفي التركي والباحث في الشؤون الدفاعية محمد أونالمش، أنه من المبكر الآن حسم الجدل بمشاركة القوات التركية في غزة، ولكن يمكن إدراك أوراق القوة التي تملكها تركيا في مسألة غزة من خلال فهم كيف أصبحت تركيا فاعلًا رئيسيًا على الطاولة بعد محاولات إدارة بايدن إقصاءها عن هذا الملف.
وفي حديثه لـ”نون بوست”، قال إن تركيا برزت كأبرز الفاعلين الإقليميين وأكثرهم ارتياحًا جيوسياسيًا بعد مرور عامين على السابع من أكتوبر، وأن استمرار الحرب في غزة دون تحقيق الأهداف العسكرية المُعلَنة، إلى جانب تصرفات بنيامين نتنياهو، أضرّ بسمعة “إسرائيل” بشكلٍ غير مسبوق، ما دفع الإدارة الأمريكية للتحرك والبحث عن مخرجٍ من هذا المأزق، خاصةً في ظلّ تحول مسألة غزة إلى رأيٍ عام داخلي في أوروبا وأمريكا وكلّ العالم أيضًا، والقلق من خسائر سياسية داخلية محتملة في حال استمرار الحرب.
وفي سياق البحث عن ضامنٍ موثوق، يرى أونالمش أن تركيا كانت هي الدولة الوحيدة القادرة على لعب دور محوري، نظرًا لعلاقاتها المتوازنة مع كلٍّ من السلطة وحركة حماس، وهذا رسخ مكانتها كضامنٍ حقيقي لأي اتفاقٍ لوقف إطلاق النار، ما يفتح الأفق أمام توسيع الدور التركي ليشمل وجودًا إغاثيًا أو حتى عسكريًا في المستقبل القريب.
وأفادت مصادر في وزارة الدفاع التركية، الخميس الماضي، أن التحركات التركية تأتي استجابةً للمأساة الإنسانية المستمرة في غزة منذ عامين، حيث أصبحت الأولوية هي الإسراع بتوصيل المساعدات العاجلة، وإعادة بناء البنية التحتية المدمّرة. وأوضحت المصادر أنه تم تأسيس “مركز التنسيق المدني-العسكري (CMCC)”، ومن المقرر تشكيل “قوة استقرار دولية (ISF)” ستكون تابعةً له. وستتولى هذه القوة تيسير الدوريات الأمنية، وحماية البنى التحتية المدنية، وتقديم الدعم الإنساني، وتأمين الحدود، بالإضافة إلى مسؤولية تدريب قوات الأمن المحلية ومتابعة تطبيق وقف إطلاق النار.
وشددت مصادر وزارة الدفاع على الجاهزية التامة للقوات المسلحة التركية لتولي أي مهمة تُسند إليها في إطار إرساء السلام وحمايته، وذلك ضمن إطار القانون الدولي، مستفيدةً من خبرتها في مهام حفظ السلام السابقة، وأكدت أن تركيا، بصفتها إحدى الدول الأربع الضامنة لاتفاق وقف إطلاق النار، تواصل مشاوراتها الدبلوماسية والعسكرية مع باقي الدول الأخرى المعنية بهذا الملف.
تتعامل تركيا مع الوجود الإسرائيلي في المنطقة بمنطقٍ عملي، ففي حين تمتنع عن الاصطفاف في معسكراتٍ متصارعة، تعمل على استغلال أدواتها الدبلوماسية في الحفاظ على مصالحها ومصالح حلفائها، ولا تجد حرجًا في تقديم التنازلات المرحلية في سبيل مصالحها الاستراتيجية.
وهنا نذكر إعادة علاقاتها مع مصر بعد القطيعة التي أعقبت الانقلاب في 2013، واليوم نرى نتائج سياستها الدبلوماسية في المناورات المشتركة مع مصر في المتوسط، والتي تراها “إسرائيل” تهديدًا بطبيعة الحال، وفي حضورها المتزايد، الإغاثي وربما العسكري، في موضوع غزة.
بعد حرب إبادة جماعية استمرت عامين، ومحاولات إسرائيلية حثيثة لاحتلال قطاع غزة، وخسارتها لمئات الجنود، وتكبّدها خسائر مالية فادحة، قد تكون الأعلام التركية الخفاقة في غزة آخر ما ترغب به “إسرائيل”، فضلًا عن وجود جنود أتراك على أرض فلسطين التاريخية.
ولكن يبدو أن القرار ليس إسرائيليًا بالمطلق، فهناك قوة منافسة دبلوماسية وعسكرية صاعدة استطاعت أن تفرض نفسها، وهذا يفتح المجال لإعادة النظر في نتائج حفلات التطبيع العربية، بدءًا من مصر وصولًا للإمارات، وأيضًا في البروباغندا الخطابية لإيران وميليشياتها في المنطقة، والمقارنة بين مآلات هذه المسارات بالمسار التركي الاستراتيجي.