تواصل قوات الدعم السريع إطباق حصارها على عددٍ من المدن السودانية في إقليمي دارفور وكردفان، وتفرض التجويع كسلاح لإخضاع السكان، بينما تستمر العمليات العسكرية والهجمات التي لا تستثني المدنيين، لتكتمل ثلاثية الحصار والجوع المرض.
ففي الفاشر، وكادقلي، والدلنج، تلك المدن التي تقبع بعضها تحت الحصار لما يزيد عن العامين، تتفشى أمراض وأوبئة موسمية تضاعف معاناة المواطنين في ظل الجوع وانعدام الرعاية والإمدادات الطبية، ويترك المدنيون أمام أكثر من خيارٍ للموت.

أكثر من سبب للوفاة
الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، حيث يقترب الحصار من إكمال عامه الثاني.
يقول مصعب أحمد: “توفي خالي متأثرًا بإصابته بحمى الضنك ونقص العلاج والغذاء”، ويصف ما يعانيه مواطنو المدينة بالكارثي، فحمى الضنك، والكوليرا، والتيفوئيد، وهي الأمراض المنتشرة في المدينة، تترك الجسد في حاجة إلى الترطيب بالمحاليل الوريدية، والعصائر، والغذاء المتوازن، في مدينةٍ يتغذى كافة سكانها على الأُمباز.
ومنذ اشتداد الحصار، ونقص الغذاء، وانتشار الجوع في مدينة الفاشر، أصبح الأُمباز غذاءً أساسيًا لمواطني المدينة، وهو مخلفات عصر الفول/السمسم، ويُقدَّم في الأساس كعلفٍ للحيوانات.
ويقول أحمد إن كافة سكان المدينة تدهورت صحتهم نتيجةً للجوع والاعتماد على علفٍ لا قيمة غذائية له، في ظل وصول أسعار كيلو السكر ما بين ٣٠٠/٤٠٠ ألف جنيه سوداني (حوالي ١٠٠ إلى ١٢٠ دولارًا أمريكيًا)، والأرز ٦٠٠ ألف جنيه سوداني (أي حوالي ٢٠٠ دولارًا أمريكيًا)، في ظل ندرة توافر السلع في المقام الأول.
يقول أحمد إنّ البقاء على قيد الحياة يتطلب معجزة، “المريض في الفاشر لو ربنا بقدرته قومه بيقوم، ولو لا، خلاص”.
تأكيد حكومي رغم التكتم
وبالرغم من التكتم الحكومي عن انتشار الأوبئة في المدينة المحاصرة؛ أكد مصدرٌ حكوميٌّ بالصحة بولاية شمال دارفور انتشار حالات الإسهالات المائية وسط المدنيين بصورةٍ كبيرةٍ جدًا، خصوصًا النساء، وكبار السن، والأطفال، وحتى المقاتلين، وعزا تحفظه عن إفشاء الإحصاءات والأرقام لحساسية الموقف بالمدينة.
وقال المصدر الحكومي لـ”نون بوست” إنه، وبالرغم من شح الإمكانيات ونقص الأدوية والكوادر، فإن المشفى الجنوبي بالفاشر قد تمكن من إنقاذ الكثير من الأرواح التي توافدت إليه نتيجة تفشي الإسهالات المائية، مشيرًا إلى أن معدل الوفيات في اليوم الواحد كبيرٌ للغاية، لانتشار المرض، والجوع، والأمراض المزمنة، وكذلك التدوين العشوائي من قبل الدعم السريع، متحفظًا عن الأرقام.
المرض يزيد المعاناة
ويوضح د. الصادق عثمان، أحد كوادر المستشفى السعودي بالفاشر، أن الأمراض الموسمية المنتشرة، وعلى رأسها الكوليرا، تصعّب وضع السكان في المنطقة، وأن المعاناة الناتجة عن انعدام المغذيات والمحاليل الوريدية لتعويض أجساد المرضى باتت لا تُحتمل.
وبالرغم من وجود مركزٍ للعزل بالمشفى لمرضى الكوليرا والإسهالات المائية، إلا أنه ممتلئ للغاية، ويواجه تحدياتٍ كبيرة.
ولفت الطبيب إلى انعدام الإمداد الطبي، وحاجة المصاب الواحد بالكوليرا إلى حوالي 12 محلولًا وريديًا في اليوم على الأقل. ويقول: “هنالك تفشٍّ لحمى الضنك والملاريا، لكن الكوليرا هي الأكثر انتشارًا، ويلعب الجوع دورًا كبيرًا في تدهور أوضاع المرضى، ويودي بحياتهم”.
مناشدًا بضرورة التدخل العاجل لإنقاذ أرواح المواطنين من الجوع وتفشي الأمراض في المدينة المحاصرة.
لا أُمباز ولا خضروات
وأوضح مدير مستشفى الفاشر جنوب، عز الدين داؤود، أن الوضع في المستشفى حرج، وبالرغم من توزيع خدمات المشفى على مناطق مختلفة، حيث يوجد قسم الحوادث في مبنى، وتُقام العمليات في مبنى، ويقع عنبر التنويم في مبنى آخر، لكن ذلك لم يغيّر من حقيقة استمرار استهداف الدعم السريع لمواقع المشفى بالمسيرات الانتحارية.
ولفت المدير والجراح بالمشفى إلى أنه وحتى شهر يونيو/ حزيران، كان المستشفى يتلقى الإمداد عبر الإسقاط الجوي للجيش، ولكن منذ ذلك الحين وحتى الآن، لم يصل أي إمداد، ما جعل الوضع في المستشفى حرجًا للغاية، مع استمرار الاستهداف وتوافد الجرحى.
وأوضح الطبيب أنهم لم يتلقوا حتى الآن حالات من الأمراض المنتشرة، لكنه عبّر عن قلقه في حال توافد الحالات إلى المشفى، قائلًا: “لا توجد محاليل تغذية وريدية، ولا أدوية منقذة للحياة، وهذه مشكلة كبيرة حال وصول حالات للمشفى، لأن المرضى لن يجدوا ما يعوّضون به في ظل الجوع، وانعدام حتى الأُمباز الذي كان يقتات عليه المواطنون في الفترة السابقة”.
ووصف الطبيب حالة الجوع التي يعيشها المواطنون بالكارثية، في ظل انعدام الإمداد الغذائي، وحتى الأُمباز، وانعدام المحاصيل، قائلًا: “لم يتبقَّ أُمباز، ولا مواد تموينية، ولا خضروات بالفاشر، لم يتبقَّ نبات حيٌّ الآن بالفاشر سوى الشجر”.
وكانت قد أعلنت عددٌ من التكايا، والمتطوعون، بالإضافة إلى بيانات تنسيقية لجان المقاومة بالفاشر، أن مستويات انعدام الأمن الغذائي بالمدينة أصبحت حرجة للغاية، في ظل شُحٍّ وندرة السلع الغذائية، وانعدام الغذاء، حتى الأُمباز، مشيرين إلى وفاة 239 طفلًا نتيجةً للجوع والمرض.
وتوقفت عددٌ من التكايا عن تقديم خدمات الطعام نتيجةً لانعدام وجود سلع غذائية، فيما أوضحت فيديوهات حديثة متداولة عبر الوسائط لجوء المواطنين لطهي جلود الحيوانات لسد رمقهم، بعد انعدام الأُمباز.
مراسل نون بوست معاناة السودانيين الفارّين من جرائم ميليشيا الدعم السريع، يقيمون في خيام مكتظة وسط أوضاع إنسانية صعبة. ويُعدّ الحصول على خيمة بمثابة حظ نادر، في ظل شحّ المياه وتردي الخدمات الأساسية. pic.twitter.com/4WiEz8cCVi
— نون بوست (@NoonPost) October 22, 2025
جنوب كردفان كذلك
في مدينة الدلنج المحاصرة بولاية جنوب كردفان، والتي تعاني بدورها من الجوع، وتفشي الأمراض، والهجمات بين الفينة والأخرى من الدعم السريع، تقول الطبيبة والمدير الطبي بمستشفى الدلنج التعليمي إن المشفى قد تلقى 136 حالة كوليرا في مركز العزل، توفيت منهم 4 حالات. فيما يُشكّل إجمالي الوفيات المسجل بشكلٍ رسمي 15 حالة، 11 منها سُجلت خارج المشفى، ويُقدّر مراقبون ونشطاء أعداد الإصابات والوفيات خارج المركز بأضعاف ما يستقبله المشفى، في ظل استمرار انتشار الوباء، ويشيرون إلى ضعف التبليغ، وعدم لجوء عددٍ كبيرٍ من المرضى إلى المشفى أو مركز العزل.
ويعاني المشفى من نقصٍ حادٍّ في الأدوية، حتى المنقذة للحياة منها، نتيجة اشتداد الحصار على المدينة.
وتقول المدير الطبي لمستشفى الدلنج التعليمي إن أكبر مشكلةٍ يواجهها المشفى هي انقطاع التيار الكهربائي، وعدم توفر الوقود للمولدات، ما تسبب في انقطاع المياه بمركز العزل، حيث لا توجد وحدات طاقة شمسية لتعويض المولدات بالمشفى. وتقول الطبيبة إنه نتيجةً لشحّ وغلاء الوقود، نقوم بتوفيره حسب الحاجة في حالات العمليات المجدولة، وفي أغلب الحالات، يوفّر ذوو المريض الوقود لإجراء العمليات الطارئة.
لا استشفاء في ظل الجوع
ويوضح المتطوع في التكايا، عبد العزيز، أن تفشي وباء الكوليرا يضاعف معاناة المواطنين الواقعين تحت وطأة الجوع، وبطش قوات الدعم السريع، وقوات الحركة الشعبية – شمال، جناح عبد العزيز الحلو، حيث سُجّلت أعدادٌ مقلقة من الإصابات، وصل بعضها إلى مراكز العزل، والبعض الآخر لم يُبلّغ عنه، وسُجلت حالات وفيات داخل وخارج مركز العزل.
ويقول عبد العزيز إن مدينة الدلنج، بمواطنيها والنازحين الوافدين إليها من مناطق لقاوة، وهبيلا، والقوز، وزلطاية، بسبب هجمات الدعم السريع، يعتمدون بنسبة 80% على الوجبات التي يُعدّها متطوعو التكايا.
وناشد الناشطُ المنظماتِ إيصال الدعم للمبادرات العاملة في الإطعام، لتخفيف وطأة الجوع، ومساعدة المواطنين على مواجهة الأمراض المتفشية في المنطقة، حيث يصعّب الجوع المقاومة والاستشفاء، ويتسبب في الوفيات أوساط المواطنين المصابين، كما يقول.
أوضاع متدهورة في صمت
وفي كادقلي، حاضرة ولاية جنوب كردفان، تنتشر الكوليرا والحميات بكثرة، ونتيجةً للوضع الأمني والخوف من الاعتقال، تحفظ الناشط الإنساني عن ذكر اسمه، لكنه وصف لـ”نون بوست” الوضع في المدينة، والذي لا يختلف كثيرًا عن مدينة الدلنج، في استمرار الحصار بالمدينة لأكثر من عامين، وندرة المواد الغذائية، والإمداد الطبي، واعتماد أغلب السكان على التكايا في الحصول على الغذاء.
مؤكدًا انتشار الكوليرا والحميات، بجانب نقص الكوادر الطبية، والإمدادات الطبية، بما فيها المحاليل الوريدية، والأدوية المنقذة للحياة، ما يضاعف معاناة مواطني المدينة.
وقال الناشط الإنساني: “أُصيب ما يزيد عن 3000 مواطن، وسُجلت وفياتٌ تفوق الـ150 حالة، معظمهم من الأطفال وكبار السن، في ظل عجز وزارة الصحة عن توفير العلاج”.
موضحًا أن التضييق الأمني المفروض من قبل السلطات، واللجنة الأمنية بالولاية، على النشطاء والكوادر الطبية، وحالات الاعتقال التي تعرّض لها أعضاء غرف الطوارئ بشكلٍ مستمر، من شهر أيار/مايو الماضي وحتى الآن، والمنع من التواصل مع الإعلام لعكس الأوضاع في المنطقة، سبّب حالةً من الهلع، وإغلاق عددٍ من مكاتب المنظمات العاملة في تقديم الخدمات الغذائية والنقدية، كما جعل الحديث والكشف عن معاناة مواطني كادقلي صعبًا للغاية.
وبجانب المرض والجوع، تواجه ولاية جنوب كردفان حصارًا مزدوجًا من قبل قوات الدعم السريع، وقوات الحركة الشعبية – شمال، بقيادة عبد العزيز الحلو، يصعّب وصول المساعدات الإنسانية والنزوح من الولاية، خشية القتل، والاغتصاب، والاعتقال من قبل القوات المنتشرة في الخارج.