عملٌ أدبي ذو بُعدٍ نفسي لا يخلو من الفانتازيا، راهن عليه الكاتب العُماني زهران القاسمي بعد روايته «تغريبة القافر» الفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية عام 2023.
في روايته الأحدث «الرّوع» (منشورات ميسكيلياني: 2024) نصحب (مِحْجان)، صانع خيال المآتة، الذي أراد به ردع الحيوانات والطيور واللصوص وحماية مزرعته، فإذا بما صنعته يداه يتحوّل إلى مصدر هلعه الأكبر، يُخيّل إليه أن الروع دبّت فيها الحياة، فيهتزّ قلبه رعبًا، ويهابها كما يُفترض بالأعداء أن يهابوها إذ “لم يسبق له أن رأى شيئًا كهذا في حياته” قبل أن يتحد بها “حتى أن بعضهم أقسم أن محجان هو الرّوع”.
يتسلل الرعب منذ السطور الأولى للنصّ بإيقاع لاهث. يرى محجان في الروع شبحًا للموت عالقًا في الجسد الخشبي. ومع الاسترجاع، يُستعاد خوف أقدم على الأرض الموروثة من الأب، وخشية تلف المحاصيل، يصوغ محجان “أمّ الأرواع” في القرية باعتبارها “روع واحدة ستُبقي المكان آمنًا” وتكفي لحراسة جميع الحقول.
نتتبّع رحلة صناعته لفزّاعة الحقل من انتقاء الجذوع الأمتن، وتشكيل هيئة مرعبة تبثّ الخوف في النفوس لمجرّد وجودها وثباتها وصمتها الثقيل.
الخوف بطل روائي
الخوف هو البطل الأوحد في الرواية وهو الفاعل، يهيمن على عتبات النص الأولى متجسدًا في الروع التي تظهر على الغلاف وسط محيط أخضر بخُضرة الزرع.
أيضًا المشهد المخيف الذي تعبر عنه الجملة الافتتاحية: “جُثةٌ بلا رأس، بلا كفين أو قدمين، تمثُل مصلوبة على روع الحقل”، ووجدانيًا في صور نصيّة عديدة بدءًا من العنوان، وحتى سقوط محجان من الرعب، وبينهما فرار من الذعر، وتكوين لأشكال مروّعة في السحب، وتصور لكائنات مخيفة تخرج من الكهوف أسفل الجبال، والكوابيس المُفزعة التي تُطارده، حتى نعيق الغراب الذي يسمعه ويشي بشرٍ قادم.
ثم يأتي الإنسان مُتمثلًا في مِحْجان كشخصية رئيسية ومفعول به، اسمه الحقيقي عبيد، لكنه صار يُعرف بمحجان نسبة لطوله الفارع كالعصا الطويلة التي يخبط بها الرعاة أوراق الأشجار العالية لتتساقط وتأكل الماشية، جعله طوله على مَرّ العُمر عُرضة للتنمّر، لكنه لم يُلقِ بالًا. كان طيبًا وقويًا دون أن يؤذي، تلقّى تعليمًا بسيطًا كما أبناء القرية، وتزوّج ابنة خالته بترتيب من الأم، غير أن حياته الحقيقية كانت هناك: في المزرعة.
تعلّق محجان بمزرعته “كمن وجد حب حياته بعد زمن طويل عاشه”، يقضي بها جُلّ أوقاته عندما لا يقود حافلة المدرسة، ربما اتخذ الكاتب من الأرض معادلًا موضوعيًا للحياة؛ فالمزرعة وثمارها أشبه بمكاسب الجاه، والسلطان، والبنين، والأموال، والمكانة بين الناس، وما يتمتع به المرء من مزايا مادية ومعنوية يريد أن يصونها لتنمو وينمو معها، وفي سبيل ذلك يبحث عن فزّاعة تُخيف الجميع ليبتعدوا عمّا حصّل وامتلك، فلا يُنقصون مُلكَه أو تُصيبه العين، الفزّاعة المطلوبة تتولى إخافة الإنسان والحيوان وربما الكوارث الطبيعية وحتى المرض.
يصنع محجان روعه بعود خشب ألبسه ثياب رثّة برأس من قش، ووجه بلا فم أو أنف، فقط عينين مفتوحتين على الخوف، يقول بفخر “سوّيت روع” ثم يُلقّنها شؤون الحراسة، يُغنّي لها كعاشق ويدور حولها فرحًا، ثم ثم يرتعد منها ويتبرّك بهيبتها فتكون له “أم الرعب” و”شيطانة الحقول” وألقابًا أخرى.
📚إسقاطات “#عشاء_لثمانية_أشخاص”: مأدبة النخب الفاسدة في زمن القحط
نقرأ هنا مراجعة عن #الرواية التي تعالج قضايا عدة، منها نهب الغرب لآثار الحضارات، وتراكم الديون نتيجة الاقتراض بفوائد عالية،
لتكون بذلك شهادة أدبية تكشف عالم النخب الفاسدة وتسلط الضوء على واقع يتجاوز في كارثيته… pic.twitter.com/IZmQ8beHuA
— نون بوست (@NoonPost) March 4, 2025
من شأن الوصف المتنوع لإحساس الخوف وآثاره الممتدة وهو وصف طاغٍ على النص الذي يأتي بلسان الراوي العليم أن يسبب إبطاءً في الإيقاع، لكنه إبطاء مقصود في سياق تقنيات التهدئة لتمكين القارئ من التماهي مع الهلع، ولسبر طبقات النفس ببطء محسوب يتشرّب به الخوف، حيث تتحوّل اللغة إلى وسيطٍ شفّاف لضخّ الرعب في الروح.
لغة الرواية بليغة تليق بكاتبها الشاعر مع اعتماد اللهجة المحلية في الحوار فيستمر حضور الخصوصية العُمانية القُرويّة والخليجية بشكل أعمّ في الرواية الخامسة للقاسمي التي تقع في 21 فصلًا ومفتتح في أقل من 150 صفحة. تظهر هذه الخصوصية الثقافية في المفردات، وفي اسم الشخصية الرئيسية نفسها، ووصف الحُليّ أو مصاغ الزوجة، وفي الأغاني ومنها أغاني أبي بكر سالم المُلقّب بـ”أبو الغناء الخليجي”.
..وسؤال وجودي
لم يكن الرّوع أول ما يُفزع محجان، ففي صِباه، خاف الظلال، والبيوت الطينية، والكهوف، والحقول المظلمة حتى الملابس السوداء للعجائز، وفي رجولته، خاف الأحلام، والخسارات، وحلول الكارثة، وسخرية الزوجة، وشفقة الجيران.
لحظة نصب الروع كوحشٍ جبّار في الحفرة كانت بداية اللعنة إذ “دبّ الخوف في أرجاء المزرعة، توقفت الحياة في الأرض وحبست الكائنات أنفاسها دون أن تدرك السبب”.
العمل فلسفي رمزي يحمل تأويلات عديدة ويدور في السنوات الأخيرة من القرن العشرين في قرية بسيطة في سلطنة عُمان دون أن يُقيّد هذا الرواية، فالخوف دائم في كل زمان ومكان ويُعاد تدويره، يتناول القاسمي سؤال الخوف كسؤال وجوديّ عبّر عنه الفيلسوف البولندي زيجمونت باومان في كتابه “الخوف السائل” فقال: “الخوف الذي نخشاه بحق، ولا طاقة لنا به قط، هو الخوف من الشعور بأن الشر لا يُقهر”، لهذا قرر محجان أن يصنع ما يقهر به الشر.
أبعادٌ أخرى للرّوع تتكشّف مع السرد إذ مثّلت لمحجان طوق نجاة من تهمة الفأل النحس التي التصقت به منذ يوم عُرسه، ليلتها هجم الجراد على البساتين وأتى على كل الأخضر فانفضّ الناس عن فرحه محاولين إنقاذ أراضيهم، فقط بعد الرّوع “آن لمحجان أن يمشي في الحارات مرفوع الرأس”. نقرأ ص83 أن ها قد “صنع محجان معجزته في غفلة من الناس. فحوّل أرضًا بورًا تلعب فيها الثعالب ليلًا إلى حديقة غنّاء وارفة الظلال ممتدة الخضرة، غنيّة بالمحاصيل، تحاول كل ضاحية منها أن تكون الأجمل”.
هذا البعث يتهدد عندما تعطل الرّوع، وتخرب الجنّة المُثمرة. يتملّكه الخوف مجددًا إذ يقول “كأني ذبحت الروع”، وذلك بعد أن حطّ المنجل في رقبة الفزّاعة أو مصدر الهلع في أرضه. ربما أراد الكاتب كسر هيبة كل فزّاعة يواجهها الإنسان وبيان أنها غير مخيفة على الحقيقة إنما أوهامنا التي نصنعها عنها هي المرعبة. هذه المرة يدفعه خوفه لنذر النذور لما صنع إرضاءً لها بعد أن غضبت عليه، متحينًا ساعة القبول، لتعاود العمل دون خلل. يعكف على مراقبة أدائها وتصير المسيطرة على عقله أينما حلّ ومهما فعل.
نعرف من الراوي أن محجان مؤمن بدين الإسلام، تلقّى تعليمه البسيط في مدرسة القرآن، ويصلي جماعة في المسجد، ويحرص على صلاة الفجر. عمليًا، وربما دون أن يدري، يتجلى إيمانه بمركزية الإنسان وأن مسألة مثل الأمن والأمان راجعة إليه وحده وما يهتدي إليه من أفكار، ليس من باب الأخذ بالأسباب وأن الإله هو الذي يُؤمّن من الخوف، وإنما من باب أن الإنسان هو المتحكم وأن له اليد العليا في الكون وما يحصل فيه.
تغزل أحلام مستغانمي في 302 صفحة سيرة أبيها المناضل بأسلوب يمزج الأدب بالتاريخ، وتحوّل الذاكرة الشخصية إلى مرآة لجيل بأكمله عاش المنفى والنضال والخذلان والحب.
❗“أصبحتُ أنت”: سيرة أب في ذاكرة الحنينhttps://t.co/fs9nMfime3@hananzaz pic.twitter.com/Q8gRfucD0Y
— نون بوست (@NoonPost) October 19, 2025
فعليًا، يتقرّب ابن القرية للروع بالاغتسال والوضوء حتى يخاطبها طاهرًا وهي في عليائها، يُمارس معها ما اعتاد فعله مع من يُبجّله فيذبح لها، ويُلبسها حُليّ زوجته، مُتمتمًا بالتعاويذ وهو يطوف حولها سبع مرات قبل أن يحتضنها، ويسند رأسه إلى كتفها، ويبكي إليها في شجن بعد صراخ وعويل.
طقوسٌ غريبة نَعَتْها القرية بالشِرك والسحر فصارت حكاية محجان على كل لسان، زاره أحدهم وبدلًا من أن ينصحه ويردّه، رماه بالكُفر. وعندما حلّ الخراب، بكى محجان أرضه، وبكى نفسه، وبكى عجز فزّاعته الذي هو على الحقيقة خوفه، وهوى التحصين الذي شيّده، منتهيًا إلى ضرورة الانتقام للرّوع من حاسديها، وقام ليفعل.
وتأتي النهاية فانتازية لتليق بأجواء الأساطير والحكايات الشعبية المروية عن المكوث وحيدًا في المناطق النائية الذي يُعرّض صاحبه لمخينيث الجن، أو مَسٍ من الشيطان، أو ضربٍ من الجنون، أو اتحاد بالروع، وبعد أن “وقف محجان أمام الروع وجهّا لوجه” كأنه يواجه مخاوفه وفزّاعاته، التحم فيها وغاب ومات خوفه.
