أعادت الاشتباكات التي استمرت ليوم واحد بين فرقة “الغرباء”، التي تضم مقاتلين فرنسيين في إدلب شمالي سوريا، وبين القوات الحكومية، ملفَّ المقاتلين الأجانب إلى الواجهة من جديد، بوصفه أحد أكثر الملفات الشائكة والمتداخلة بين الاعتبارات السياسية والأمنية والأخلاقية، إذ يرتبط الملف من جهةٍ بمطالب وشروط دولية تدعو إلى إبعاد المقاتلين الأجانب عن المناصب الحكومية العليا، ومن جهة أخرى بطريقة تعامل الإدارة السورية الجديدة مع مقاتلين تصفهم بـ”الإخوة ورفاق المعارك”.
يأتي الاشتباك مع “الغرباء” عقب تصريحات متكرّرة للرئيس السوري أحمد الشرع، أشاد فيها بجهود من وصفهم بـ”الإخوة المهاجرين الذين جاؤوا للمساعدة”، وتأكيدات على أن المقاتلين الأجانب الذين بقوا في سوريا لن يشكّلوا خطرًا على الدول المجاورة، ولن يُلحقوا الضرر ببلدانهم الأصلية التي جاؤوا منها، مع إمكانية دمجهم في المجتمع السوري.
اشتباكات داخل مخيم المهاجرين الفرنسيين في حارم بريف إدلب خلال ملاحقة مجموعة متهمة بعمليات سرقة واختطاف. pic.twitter.com/A2Tg0NhN5i
— نون سوريا (@NoonPostSY) October 22, 2025
ومع إشادة الرئيس الشرع بالمقاتلين الأجانب وتحديده منهجية التعامل معهم، فإن “هيئة تحرير الشام” التي قادها باسم “أبو محمد الجولاني” (أبرز الفصائل التي قادت معركة “ردع العدوان” وأسقطت نظام بشار الأسد)، تحمل سجلًا في الملاحقة والتضييق على الفصائل التي لم تتماشَ مع سياساتها في الشمال السوري، ولا سيما المقاتلين الأجانب، رغم نفيها وجود سياسة ممنهجة تجاههم.
روايتان للاشتباك
في 22 من أكتوبر/تشرين الأول الحالي، بدأت الاشتباكات بين القوات الحكومية السورية والمقاتلين الفرنسيين، حين أعلنت قيادة الأمن الداخلي في إدلب أن قواتها توجهت إلى مخيم في مدينة حارم شمالي إدلب، يضم المقاتلين الفرنسيين ضمن فرقة “الغرباء” وقائدهم عمر أومسن (عمر ديابي).
ووفق التصريح الرسمي، توجهت القوات استجابة لشكاوى سكان محليين بشأن انتهاكات جسيمة، كان آخرها اختطاف فتاة من والدتها على يد مجموعة مسلحة خارجة عن القانون بقيادة عمر ديابي، وعملت على تطويق المخيم بالكامل، وتثبيت نقاط مراقبة على أطرافه، ونشر فرق لتأمين المداخل والمخارج، وسعت إلى التفاوض مع القائد لتسليم نفسه طوعًا للجهات المختصة، إلا أنه رفض، وتحصّن داخل المخيم، ومنع المدنيين من الخروج، وشرع بإطلاق النار واستفزاز عناصر الأمن وترويع الأهالي.
قائد الأمن الداخلي في محافظة إدلب غسان باكير:
🔴استجابةً لشكاوى أهالي مخيم الفردان في ريف إدلب بشأن الانتهاكات الجسيمة التي تعرّضوا لها وآخرها خطف فتاة من والدتها على يد مجموعة مسلحة خارجة عن القانون بقيادة المدعو عمر ديابي باشرت قيادة الأمن الداخلي اتخاذ إجراءات عاجلة وحازمة… pic.twitter.com/wYQaeWmudq
— نون سوريا (@NoonPostSY) October 22, 2025
في المقابل، نفى عمر ديابي الاتهامات باختطاف الطفلة ميمونة (11 عامًا)، واتهم المخابرات الفرنسية بالتدبير للهجوم بالتعاون مع أجهزة أمن الحكومة السورية. كما نشرت معرفات تابعة لفرقة “الغرباء” وثائق لشكوى قضائية بين والد الطفلة، المقيم في فرنسا، ووالدتها، تتهم الأخيرة بمحاولة تزويج الطفلة القاصر لرجل في الأربعين من عمره.
وجرى تداول تسجيلات مصورة لمهاجرين من جنسيات متعددة، تباينت مواقفهم بين من دعا إلى نصرة الفرنسيين، ومن طلب احترام القانون والقضاء، مؤكدين عدم وجود سياسة ممنهجة للتضييق عليهم، بل العكس.
وتعليقًا على الحادثة، اعتبر مستشار الرئيس السوري للشؤون الإعلامية، أحمد زيدان، أن الاشتباكات جاءت نتيجة رفض المجموعة الامتثال لسلطة القانون، وليس بسبب كون أفرادها من المقاتلين الأجانب، قائلًا إن أي سوري كان سيتعرض للمعاملة نفسها لو ارتكب الفعل ذاته، مضيفًا أن “سوريا اليوم دولة قانون، وعلى الجميع الالتزام بذلك”.
اتفاق بستة بنود
لم تصدر أي معلومات من الطرفين عن وجود ضحايا إثر الاشتباكات، وتسير التوترات نحو التهدئة والوساطة والمتابعة القضائية، بعد التوصل إلى اتفاق بين ممثل عن وزارة الدفاع السورية، ومجموعة من المهاجرين الفرنسيين، وممثلين عن المهاجرين (تركستان ، أوزبك، وطاجيك) حصل موقع “نون بوست” على نسخة منه، وتضمّن ستة بنود هي:
- فك الاستنفار ووقف إطلاق النار من الطرفين.
- إيقاف التحريض الإعلامي من الطرفين.
- إحالة الأمر كله إلى القضاء الشرعي في وزارة العدل.
- يتابع ثلاثة ممثلين عن المهاجرين (أوزبك، تركستان، طاجيك) قضية عمر ديابي في القضاء.
- فتح المخيم أمام الحكومة السورية.
- سحب السلاح الثقيل إلى الثكنات.
- عدم ملاحقة أي شخص استنفر في قضية الاشتباكات.
ينضوي المقاتلون الفرنسيون في سوريا تحت مظلة فرقة “الغرباء”، التي يترأسها عمر ديابي (50 عامًا)، وتضم نحو 70 مقاتلًا فرنسيًا يقيمون في مخيم قرب الحدود التركية. ويحيط بالمخيم جدار بناه أفراد الفرقة للحفاظ على خصوصيتهم مع عائلاتهم، مزود بكاميرات مراقبة وأجهزة كشف حركة.
وتسود حالة من عدم التوافق والتوتر بين عمر ديابي والحكومة السورية الحالية، إذ اعتقلته “هيئة تحرير الشام” (نواة الحكومة) مرتين في السابق، كانت آخرها لمدة 17 شهرًا بين 2020 و2022. كما سبق أن اتهم ديابي “تحرير الشام” بأنها تفتقر إلى “الأمانة والنزاهة، ولا يمكن الوثوق بها لأنها خانت الشعب السوري والمجاهدين”.
بعد اشتباكات إدلب اليوم، قائد “فرقة الغرباء” يعود للواجهة.. من هو عمر أومسين؟ pic.twitter.com/SHyds1Jumv
— نون سوريا (@NoonPostSY) October 22, 2025
وانتقل عمر ديابي إلى سوريا عام 2013، ويُعتبر الزعيم الفعلي للفرقة، حيث تصنّفه السلطات الفرنسية بأنه “مسؤول عن تجنيد 80% من الجهاديين الناطقين بالفرنسية الذين توجهوا إلى سوريا أو العراق”، في حين صنّفته الخارجية الأمريكية كـ”إرهابي عالمي” عام 2016.
“إخوة لن يُشكّلوا خطرًا”
بعد ساعات من سقوط نظام بشار الأسد، تصاعد الحديث عن مصير ومستقبل المقاتلين الأجانب في سوريا، داخليًا وخارجيًا، إذ يشكل هؤلاء المقاتلون عقدة للغرب، تعود جذورها إلى سنوات، حيث وصل أجانب من مختلف دول العالم، خاصة في عام 2013، عبر تركيا، وانخرط معظمهم في القتال ونظموا أنفسهم ضمن مجموعات، تقدّر أعدادهم حاليًا بـ5000 مقاتل، بينما عمل بعضهم في المجال الطبي والإغاثي.
وفي مارس/آذار الماضي، أكد ثلاثة مبعوثين أوروبيين خلال اجتماعهم مع وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، في دمشق، أن أولويتهم القصوى تكمن في القضاء على “المقاتلين الجهاديين”، محذرين من أن الدعم الدولي للحكومة السورية قد يتراجع ما لم تتخذ إجراءات حاسمة في هذا الملف.
وحذّر مبعوثون أمريكيون وفرنسيون وألمان الإدارة السورية الجديدة من أن تعيين “جهاديين أجانب” في مناصب عسكرية عليا يشكل مصدر قلق أمني وسيئًا لصورة الحكومة، خاصة في ظل محاولاتها إقامة علاقات مع دول أجنبية.
وكان من الشروط الأمريكية التي طُلب تنفيذها من الإدارة السورية الجديدة إبعاد المقاتلين الأجانب عن المناصب الحكومية العليا، مقابل تخفيف بعض العقوبات المفروضة على سوريا وتمهيد الطريق لانفتاح محتمل في العلاقات الدولية. ولاحقًا، وافقت واشنطن على خطة طرحتها القيادة السورية الجديدة للسماح لنحو 3500 مقاتل أجنبي من الذين كانوا في السابق ضمن المعارضة بالانضمام للجيش السوري، شريطة أن “يحدث ذلك بشفافية”.
رويترز عن السفير الأميركي لدى تركيا:
نشيد بخطوات الرئيس السوري المتعلقة بالمقاتلين الأجانب والعلاقات مع إسرائيل
رفع العقوبات عن #سوريا سيحافظ على هدفنا المتمثل في هزيمة تنظيم الدولة pic.twitter.com/pspsokzxIQ— نون سوريا (@NoonPostSY) May 24, 2025
في المقابل، تكررت تصريحات الرئيس السوري أحمد الشرع عن أن المقاتلين الأجانب جاؤوا إلى سوريا فرادى لا جماعات دعمًا للشعب السوري خلال الثورة، وأن الحكومة السورية تضمن لجميع دول العالم، بأن المقاتلين الأجانب الذين بقوا في سوريا لن يشكلوا خطرًا على أحد من الدول المجاورة، ولن يُلحقوا الضرر ببلدانهم التي جاؤوا منها.
واعتبر الشرع أن منح الجنسية للمقاتلين الأجانب ليس مستحيلًا، وأن الدستور السوري عندما يصاغ سيحدد من يحق له الحصول على الجنسية من المقاتلين الأجانب وعائلاتهم. كما يمكن دمجهم في المجتمع السوري، إذا كانوا يحملون نفس أيديولوجيا وقيم السوريين. وجرى منح بعضهم رتبًا عسكرية، وذهبت ست وظائف عسكرية على الأقل في وزارة الدفاع السورية لأجانب، من أصل 50 أُعلن عنها.
وخلال السنوات الماضية، واجهت “تحرير الشام” وقائدها أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) انتقادات بالتضييق على المقاتلين الأجانب وتفكيكهم وملاحقتهم، في حين نفت “تحرير الشام” وجود سياسة ممنهجة ضدهم.
وفي الخامس من أيلول/ سبتمبر 2021، أشاد الشرع (أبو محمد الجولاني)، بجهود من وصفهم بـ”الإخوة المهاجرين الذين جاؤوا للمساعدة”، ووعد بعدم التخلي عنهم، ردًا على سؤال حول وجود مكان لهم في مستقبل سوريا. وقال إن هؤلاء المقاتلين “جزء منا، يختلطون بالناس، وهم سعداء بالناس والناس سعداء بهم، ولا يشكّلون خطرًا لدولتنا، وهم موجودون تحت السياسة التي أسسناها”.
تفكيك نفوذ واحتواء للمقاتلين
وضع الاشتباك مع فرقة “الغرباء” مسألة تعامل دمشق مع المقاتلين الأجانب أمام اختبار عملي جديد، وأثار تساؤلات حول حول إمكانية تحوّل المواجهة الميدانية إلى نقطة تحوّل في سياسة الحكومة السورية، من نهج يقوم على المرونة والاحتواء إلى نهج أكثر تشددًا، خاصة أن فرقة “الغرباء” تُعد نظريًا جزءًا من الفرقة “82” في الجيش السوري، لكنها تحتفظ بحكم ذاتي فعلي داخل مخيمها شمالي إدلب.
الباحث في شؤون الجماعات الجهادية والحركات الدينية عبد الرحمن الحاج يرى أن الاشتباك الأخير يندرج في إطار توجهات الحكومة المعلنة بحصر السلاح في يد الدولة، معتبرًا أن هذه العملية تشمل ضم جميع الفصائل، بما فيها فصائل المقاتلين الأجانب، لضمان التزامها بسياسات الدولة من جهة، ولتفكيكها وإعادة دمجها ضمن وحدات مختلفة في الجيش من جهة أخرى.
ويقول الباحث لـ”نون بوست” إن كتيبة “الغرباء” الفرنسية أنشأت ما يشبه “الإمارة”، وحاولت منع الحكومة من دخول مناطق نفوذها، رغم أنها نظريًا مدمجة في إحدى الفرق العسكرية، لكنها ترفض الامتثال الكامل وتشكل مناطق نفوذ مستقلة خاصة بها، وهو أمر لا ينسجم مع التزاماتها أمام الحكومة. ويرى أن لا مبرر لبقاء السلاح خارج سلطة الحكومة أو السماح بوجود أجهزة موازية لها.
ويتابع الحاج أن المسار قد يشكل مؤشرًا للمقاتلين الأجانب على جدية الحكومة في تنفيذ سياساتها في تفكيك الفصائل وإدماجها في بنية الجيش، مضيفًا أن التجارب العالمية تشير إلى أن الجماعات المسلحة تمتنع عن تفكيك نفسها أو تسليم سلاحها للدولة أو الخضوع المطلق للسياسات الحكومية التي شاركوا في صناعة نصرها الذي جاء بها.
وفي أكثر من مناسبة، أكد الشرع أن سوريا لن تسمح بسلاح خارج الدولة، مشددًا على أن “منطق الدولة يختلف عن منطق الثورة”، فيما تُواصل وزارة الدفاع محاولات تنظيم الترتيبات الإدارية والبنية التنظيمية للقوات المسلحة، بما يضمن ضبط الهيكلية وآليات إصدار الهويات وبطاقات حمل السلاح، إلى جانب عدد من الملفات التنظيمية الأخرى، كما أصدرت في 30 من مايو/أيار الماضي، لوائح بقواعد السلوك والانضباط العسكري.
ويعتقد الباحث أنه ليس ثمة ضمانة بألا تؤدي العملية العسكرية ضد كتيبة “الغرباء” إلى تداعيات محتملة، مثل انكفاء الفصائل الأجنبية على نفسها ككتلة واحدة ورفضها الاندماج في المؤسسات العسكرية. ومع ذلك، يستبعد أن تُقدم أي من هذه الفصائل على تنفيذ عمليات عسكرية ضد القوات الحكومية داخل الحدود أو خارجها.
وختم الباحث حديثه بأن أي تصعيد من هذا النوع سيجعل من حلّ ملف المقاتلين الأجانب أكثر صعوبة، ويتطلب المزيد من الجهود الحكومية للإدماج عبر التفاوض والوسائل السلمية.
من جانبه، يؤكد الباحث في مركز “جسور” للدراسات، محمد سليمان، في حديثه لـ”نون بوست” أن الاشتباكات ليست الأولى من نوعها في الساحة السورية، إذ شهدت مناطق مختلفة خلال الأشهر الماضية مواجهات مماثلة بين القوات الحكومية والفصائل العسكرية غير المنضوية بعد ضمن الجيش السوري، بغضّ النظر عن خلفيات هذه الفصائل.
الرئيس أحمد الشرع يجتمع في قصر الشعب مع وزير الدفاع مرهف أبو قصرة وقادة الفرق في وزارة الدفاع. pic.twitter.com/lIlnrrpWYZ
— نون سوريا (@NoonPostSY) October 23, 2025
وفيما يتعلق بملف المقاتلين الأجانب، يرى سليمان أن هذا الملف لا يُتوقع أن يترك تأثيرات سياسية كبيرة على المستوى الداخلي، خاصة أن عددًا من المقاتلين بدأ بالفعل بالاندماج والانخراط في المجتمع السوري، وهي تجربة شهدتها دول غربية عديدة في مراحل ما بعد الصراع، لكنه يوضح أن القضية قد تثير بعض المواقف أو الضغوط الخارجية من دولٍ ما زالت تطالب بتسوية أوضاع مواطنيها، مثل ملف مقاتلي الإيغور، حيث تواصل بكين الضغط على دمشق لإبعادهم عن صفوف الجيش السوري والسعي إلى تسوية تؤدي إلى تفكيك هذه المجموعات.
وأبدت الصين قلقها من تعيين مقاتلين من الإيغور المنتمين إلى “الحزب الإسلامي التركستاني” ضمن قوات الأمن والدفاع السورية، معتبرة أن ذلك يشكّل تهديدًا لأمنها القومي. وكرّر المبعوث الصيني لدى الأمم المتحدة، فو كونغ، تحذيراته أمام مجلس الأمن من استمرار نشاط “المقاتلين الإرهابيين الأجانب” في سوريا، داعيًا دمشق إلى الالتزام بتعهداتها في “مكافحة الإرهاب”.
وفي المرحلة المقبلة، يتوقع الباحث محمد سليمان أن تعتمد الحكومة خطوات عملية لمعالجة هذه الملفات، عبر تسريع عمليات الدمج وإخضاع المقاتلين الأجانب لدورات تدريبية وتثقيفية وتأهيلية، تمهيدًا لإدماجهم الكامل ضمن بنية الجيش السوري النظامي، وتحويلهم من أفراد في فصائل غير منظمة إلى عناصر منضبطة تعمل ضمن تسلسل عسكري واضح. ويعتبر أن ضبط هذه الملفات خطوة أساسية نحو تحقيق الاستقرار الداخلي، وتهيئة مناخ سياسي وأمني أكثر ملاءمة لتعزيز العلاقات الدبلوماسية والانفتاح الخارجي.
