ترجمة وتحرير: نون بوست
يبدو حصول روسيا على تكنولوجيا غربية متطورة تساعدها على حماية ترسانتها النووية في القطب الشمالي، معلومة غير قابلة للتصديق في ظل الحرب في أوكرانيا وتصاعد التهديدات العسكرية الروسية تجاه أوروبا. لكن هذا هو الواقع.
يكشف التحقيق الصحفي “أسرار روسية”، الذي شاركت فيه صحيفة لوموند الفرنسية، كيف نشرت موسكو في أعماق بحر بارنتس، على أطراف المحيط المتجمد الشمالي، شبكةً بحرية سرّية تمتد لآلاف الكيلومترات من الكابلات والمستشعرات وأجهزة السونار، صُممت لحماية مواقعها النووية.
ويعتمد هذا النظام المخصّص للرصد والتجسس والذي يهدف إلى اكتشاف غواصات حلف شمال الأطلسي على معدات متقدمة مصدرها أوروبا والولايات المتحدة واليابان، تم الحصول عليها عبر شبكة معقدة من الشركات الوهمية.
يقدّم هذا التحقيق المشترك الذي تولت تنسيقه قناة (NDR) الألمانية، تفاصيل غير مسبوقة حول هذا المشروع العسكري السري المعروف باسم “هارموني”. ومن خلال تحليل وثائق قضائية ألمانية وتسريبات مالية وأبحاث منشورة في مصادر مفتوحة، إلى جانب مقابلات مع خبراء عسكريين وعلماء، تمكن فريق لوموند وتسعة شركاء آخرين من كشف الطريقة التي أنشأت بها روسيا هذه الشبكة الاستراتيجية للمراقبة تحت الماء منذ عام 2012.
نظام في خدمة الردع النووي الروسي
من أجل إنشاء مشروع “هارموني”، حصلت روسيا على ترسانة حقيقية من المعدات المصنَّفة ضمن فئة “الاستخدام المزدوج”، وهي تقنيات تُطوَّر أساسًا لأغراض مدنية علمية أو صناعية، لكنها قابلة للاستخدام في المجال العسكري. وتخضع هذه الفئة من المنتجات لتشريعات أوروبية منذ عام 2021، حيث تتطلب أكثر تلك التقنيات حساسية الحصول على تراخيص تصدير تُصدرها الدول المعنية.
وتُظهر الفواتير أن من بين المعدات التي استُخدمت في بناء شبكة “هارموني” أجهزة سونار أمريكية عالية الدقة قادرة على رسم خرائط لقاع البحار واكتشاف البصمات الصوتية للغواصات، وطائرات مسيّرة بريطانية تحت الماء صُمّمت للعمل في أعماق تصل إلى آلاف الأمتار وجمع البيانات البحرية بشكل مستقل، إلى جانب هوائيات سويدية وأنظمة تموضع صوتية عالية الدقة من ألمانيا، وآلات تسجيل صوتي بحرية من فرنسا. جميعها أدوات مخصّصة لنقل البيانات التي تُجمع في أعماق البحار بشكل متواصل.
كما تكشف الوثائق عن عمليات شراء لآلاف الكيلومترات من الكابلات البصرية البحرية مصدرها ألمانيا واليابان، تُعدّ أساسية لربط أجهزة الاستشعار الصوتية المغمورة ونقل البيانات ضمن شبكة “هارموني” بأكملها.
وتشكل هذه المعدات مجتمعةً نظامًا متكاملًا قادرًا على مراقبة مساحات شاسعة في منطقة القطب الشمالي، حيث تتمركز نسبة كبيرة من الغواصات الروسية المكلّفة بمهمة الردع النووي الروسية.
أسطول متقادم يعمل تحت غطاء مدني
تم تركيب الكابلات وأجهزة الرصد التي حصلت عليها موسكو بواسطة أسطول يتكوّن من تسع سفن، تم شراء معظمها أيضًا من شركات غربية. وتشترك هذه السفن في سمات عدّة مع ما يُعرف بـ”الأسطول الشبح” الروسي، الذي يستخدمه الكرملين للتحايل على الحظر المفروض على صادرات النفط، فهي سفن متقادمة تعمل غالبًا تحت غطاء مدني. وقد تم دمج سفن الكوابل التقليدية ضمن هذا الأسطول مع أخرى صُنِّفت زيفًا ضمن فئة “البحث في المحيط”، في أسلوبٍ متقن يُستخدم لإخفاء الطابع العسكري الحقيقي لهذه العمليات.
من خلال تتبّع مسار هذه السفن، تمكّن الصحفيون المشاركون في التحقيق من رسم خريطة لهذه البنية التحتية البحرية السرّية وصولًا إلى بحر بارنتس. وقد أتاح تحليل مواقع هذه السفن من خلال نظام تحديد المواقع العالمي على مدى عدة سنوات تحديد مناطق نشر المعدات، ثم تحديد المراكز الحيوية لمشروع “هارموني”، وهي: مورمانسك، ونوفايا زيمليا المعروفة بأنها موقع للتجارب النووية، وجزيرة ألكسندرا التي تضم مواقع عسكرية روسية.

دولة أوروبية في صميم الشبكة
بِيعت سفن أسطول “هارموني” إلى موسكو بعلمٍ تام من عددٍ من مالكيها السابقين، وهي شركات شحن أوروبية صغيرة. كان ميناء مورمانسك – وهو المعقل الرئيسي للأسطول النووي الروسي – مذكورًا بوضوح في عقود البيع التي حصل عليها فريق التحقيق.
لكن ماذا عن المكونات التكنولوجية التي تُشكّل العمود الفقري لشبكة المراقبة؟ هل كانت الشركات الغربية التي زوّدت روسيا بهذه المعدات تدرك حقًا وجهتها النهائية؟ وهل كان بإمكانها أن تتخيّل أن هذه الأجهزة ستُستخدم لأغراض عسكرية؟
تكشف نتائج التحقيق أن موسكو عملت في الخفاء، وفق أسلوبٍ مفضّل لدى الكرملين. فقد أنشأت شبكةً معقّدة من الشركات الوهمية لشراء السفن ومعدات التجسّس مع إخفاء الوجهة الحقيقية لتلك الصفقات.
رغم أن معظم هذه الكيانات قد تم تسجيلها في ملاذات ضريبية بعيدة وغير شفافة (مثل جزر فيرجن البريطانية وبليز)، فإن الكيان المنظم لهذه الشبكة – شركة “موستريلو التجارية المحدودة” – قد تم تأسيسه في قبرص، وهي دولة عضو في الاتحاد الأوروبي كثيرًا ما تُنتقد بسبب علاقاتها الاقتصادية الوثيقة مع روسيا وضعف تشريعاتها الرقابية.
أُسِّست موسريلو في 14 آذار/ مارس 2011، وتتخذ من مركز أعمال عادي مقرًا لها. وتقدّم الشركة نفسها عبر موقع إلكتروني بسيط على أنها “شركة ناشئة وسريعة النمو تعمل في مجال الكابلات البحرية بالألياف الضوئية”، وتتباهى بخبرتها في مجال البعثات في أعماق البحار والمحيطات.
غير أن الواقع يكشف أن الشركة شكّلت الركيزة الأساسية لنظام التوريد الروسي، إذ تولّت تنسيق شراء التقنيات الدولية ونقلها بشكلٍ غير معلن إلى المصانع العسكرية في مورمانسك.
من أجل إخفاء هوية الجهة الممولة ووجهة العمليات، لجأ مهندسو هذا النظام إلى طبقات تمويه متعددة، وصولًا إلى اعتماد قانون التوكيل، وهي بنية قانونية تتيح مستوى عاليا من السرية، صُمّمت خصيصًا لإزالة أي أثر للملكية الحقيقية.
معلومة من وكالة المخابرات المركزية
كشفت تحقيقاتنا هوية المالك الحقيقي لشركة “موستريلو التجارية المحدودة” خلف سلسلة الأسماء المستعارة، وهو أليكسي ستريلتشينكو، رجل أعمال من موسكو يدير عدة شركات في روسيا، من بينها وكالة التقنيات المستقبلية، وهي شركة تتعامل بانتظام مع الجيش الروسي وتتمتع بعلاقة وثيقة من جهاز الأمن الفيدرالي.
وقد كلّفت شركة “كوميتا كوربوريشن”، وهي مقاول فرعي تابع للمجمع الصناعي العسكري الروسي، وكالة التقنيات المستقبلية بتوفير الكابلات والمعدات البحرية المخصصة لمشروع “هارموني”.
بقيت الصلات بين النظام الروسي وستريلتشينكو بعيدة عن أعين الأوروبيين لسنوات، إلى أن أبلغت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية أجهزة الاستخبارات الألمانية بمعلومات حوله عام 2021. وأدى هذا البلاغ إلى فتح تحقيق قضائي في فرانكفورت، أسفر في تموز/ يوليو 2025 عن إدانة مواطن روسي كان يعمل وسيطًا بين الشركات الغربية وشركة موستريلو.
ورغم امتناع وكالة الاستخبارات الأمريكية عن التعليق على نتائج تحقيقنا، فإنّه من الواضح أنّ السلطات الأمريكية صنّفت هذه الشبكة ضمن التهديدات الاستراتيجية العليا. في تشرين الأول/ أكتوبر 2024، أُدرجت شركة موستريلو ووكالة التقنيات المستقبلية، بالإضافة إلى أليكسي ستريلتشينكو، على قائمة العقوبات الأمريكية الموجّهة ضد داعمي قطاع الدفاع الروسي. تواصلنا مع ستريلتشينكو للتعليق لكنه رفض الردّ.
قبل ذلك، استطاعت الشركة القبرصية الصغيرة، على مدى أكثر من عشر سنوات، أن تشتري معدات حساسة من مزوّدين غربيين متخصصين في التقنيات البحرية، ثم نقلتها إلى وكالة التقنيات المستقبلية.
وحسب التحقيق، تجاوزت قيمة المعدات الغربية التي استوردتها روسيا خلال الفترة ما بين 2012 و2024 نحو 50 مليون يورو. يعني ذلك أن عمليات الشراء استمرت بعد ضمّ شبه جزيرة القرم عام 2014 في انتهاكٍ للقانون الدولي، وبعد تشديد العقوبات الدولية المفروضة على موسكو عقب غزو أوكرانيا عام 2022.
أكد جميع الموردين الغربيين والآسيويين الذين استُخدمت معداتهم في بناء مشروع “هارموني”، والذين استجابوا لاستفساراتنا، أنهم تصرفوا ضمن إطار القانون ولم يخالفوا أي تشريعات سارية.
من بين هؤلاء شركة “إن إي سي” اليابانية العملاقة، التي وفّرت مئات الكيلومترات من الكابلات البحرية نُقلت سرّا إلى مورمانسك. كما سلّمت الشركة الأميركية “إر 2 سونيك” أجهزة سونار عالية الدقة يمكن استخدامها على الطائرات المسيّرة تحت الماء.
أما الشركة النرويجية متعددة الجنسيات “كونغسبيرغ” فقد صدّرت جهازًا قادرًا على تحديد مواقع الأجسام بدقة في أعماق البحار، وكانت تستعد لبيع جهازٍ آخر قبل أن تتدخل أجهزة الاستخبارات النرويجية في نيسان/ أبريل 2024 لإيقاف الصفقة.
ومن جانبه، باع الفرع البريطاني لشركة “فوروم إينرجي تكنولوجيز” روبوتًا بحريًا من طراز “موهيكان” قادرًا على العمل على عمق يصل إلى 3 آلاف متر. وقد امتنعت هذه الشركات عن الرد على استفساراتنا.
شركات فرنسية متورطة
تؤكد الشركات المسجلة داخل دول الاتحاد الأوروبي أيضا أنها أبرمت صفقات بيع مع شركة “موستريلو” القبرصية، لكنها شددت على التزامها الكامل بجميع القوانين والأنظمة المعمول بها.
في ألمانيا، أوضح المتحدث باسم الشركة الأم لـ”إن إس دابليو” أنهم لم يبيعوا سوى “كابلات مخصصة لاستخدامات مدنية”.
وتضم قائمة المورّدين أيضًا شركتين فرنسيتين تنفيان ارتكاب أي مخالفة. الأولى هي “إكس بلو”، التي تشير معلوماتنا إلى أن معدات صوتية من إنتاجها استُخدمت على متن سفينة “أوريليا”. وقد نفت الشركة وجود أي علاقة تجارية مباشرة تربطها بـ”موستريلو” أو وكالة التقنيات المستقبلية الروسية. لكنها أكدت لصحيفة لوموند على لسان متحدث باسمها أنها “باعت معدات في روسيا قبل عام 2022، مخصّصة لأغراض علمية أو صناعية تتعلق بالعمليات البحرية (أجهزة إطلاق صوتية منخفضة الحمولة)”، مضيفًا أن “هذه المبيعات أُجريت في إطار الاحترام الصارم للعقوبات، وبعد الحصول على تراخيص من السلطات الفرنسية المختصة عند الحاجة”.
كما أوضح المتحدث أن شركة “موستريلو” تواصلت معهم في عام 2015، لكنها “أوقفت بنفسها الإجراءات قبل أن نضطر إلى تفعيل آليات التحقق الداخلية”.
أما الشركة الثانية، “إر تي سيس” ومقرها في كودان بإقليم موربيان شمال غرب فرنسا، فهي متخصصة في أنظمة المراقبة الصوتية، وتبيع معداتها لقوات بحرية في مختلف أنحاء العالم.
وتشير وثائق مالية اطلعت عليها لوموند إلى أن الشركة باعت مباشرةً إلى موستريلو معدات بمبلغ يتجاوز 700 ألف يورو، وُجّهت إلى مورمانسك بين عامي 2015 و2017. وتُظهر الأبحاث في المصادر المفتوحة أن أجهزة التسجيل الصوتي البحرية التي باعتها “إر تي سيس”، والمزوّدة بعدة سماعات مائية قادرة على رصد الأصوات في أعماق البحار، استُخدمت بالفعل في المياه القطبية الشمالية على متن سفينة “أوريليا”.
ولم يردّ الرئيس السابق لشركة “إر تي سيس”، الذي كان في المنصب عند توقيع تلك العقود، على استفسارات لوموند. غير أن مجموعة “سي فوريان”، التي استحوذت على الشركة عام 2021، قدّمت بعض الإيضاحات. وقد أشارت إلى أنها لا تملك “السجل الدقيق لتلك السنوات”، لكنها على علم بأن “المبيعات شملت أجهزة قياس تيارات المياه ومجسّات لقياس جودة مياه البحر”.
وأضافت المجموعة أنه “تم تشديد الإجراءات الداخلية في عام 2022 بعد عملية الاستحواذ”، مؤكدة أن “صادراتها تخضع لرقابة الدولة”، وأن “الجهات الحكومية أبدت رضاها عن التزام الشركة”.
ورغم عدم وجود ما يثبت أن هذه الشركات كانت على علم بالاستخدام العسكري لمعداتها، فإنّ حالة “إن إس دابليو” الألمانية تثير التساؤلات. اشترت موستريلو منها كابلات بقيمة 15 مليون يورو. وتشير الوثائق التي حللها الصحفيون الاستقصائيون إلى أن مسؤولي الشركة الألمانية كانوا على دراية بأن الكابلات موجّهة إلى روسيا، إذ قامت وكالة التقنيات المستقبلية الروسية في مناسبتين على الأقل بدفع المستحقات مباشرةً للمصنّع الألماني.
وتُظهر هذه الصفقات، التي حوّلت معدات مدنية إلى أدوات تعزّز البنية التحتية العسكرية لدولة مناوئة للاتحاد الأوروبي، مدى صعوبة ضبط صادرات التقنيات الحساسة. ويعلّق أحد المطلعين على الملف قائلًا: “إنه أشبه بلعبة القط والفأر، ويمكن الوقوع في الفخ بسهولة. المشكلة الكبرى تكمن في التعامل مع مستخدم نهائي مزدوج النشاط، يبدو نشاطه قانونيا في الظاهر، لكنه يرتبط بجهات مشبوهة. روسيا تبذل جهودًا ضخمة للالتفاف على القوانين”.
الصحيفة: لوموند