ترجمة وتحرير: نون بوست
منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، سحبَت حكومة بنيامين نتنياهو تصاريح العمل من نحو 120 ألف عامل فلسطيني من الضفة الغربية. ونتيجة حرمانهم من مصادر رزقهم، يحاول مئات الفلسطينيين يوميًا عبور الجدار الفاصل بشكل غير قانوني في محاولات محفوفة بالمخاطر قد تكلّفهم حياتهم.
صفيرٌ حادٌّ يشقُّ عتمة الليل الحالكة قبل أن يخفت تاركًا خلفه سحابة كثيفة من الدخان بسبب اصطدام قنبلة غاز مسيل للدموع — من الطراز البرازيلي — بالأرض. يهمس توفيق قائلاً: “يجب أن نرحل، الأمور ستزداد سوءًا” (ولأسباب أمنية، لن يُذكر أي اسم كامل لأي شخص). يتردد الرجال المحيطون به، كلٌ يحمل حقيبته على ظهره، لكن صوت محرك سيارة ينطلق فجأة بسرعة عالية ليضع حدًا للتردد إنها إشارة من مراقب. تشير هذه الإشارة إلى أن الجنود الإسرائيليين لن يكتفوا بإطلاق الغاز المسيل للدموع، بل سيصل آخرون قريبًا إلى هذا الطريق المحاصر بجدار يبلغ ارتفاعه 9 أمتار، الذي يفصل منذ عام 2002 بين الضفة الغربية المحتلة والأراضي الإسرائيلية.

في الساعة الخامسة فجرًا من يوم السبت 11 تشرين الأول/ أكتوبر، كان بعضهم قد نجح بالفعل في العبور. واحدًا تلو الآخر، تسلّق فلسطينيون سلّمًا قصيرًا مصنوعًا على عجل من ألواح خشبية موصولة بمسامير، صاعدين بسرعة قبل أن يجتازوا ما تبقّى من ارتفاع — نحو مترٍ ونصف — بقوة أذرعهم. ثم انزلقوا عبر فتحة صغيرة أحدثوها في الأسلاك الشائكة، وبدأوا النزول على الجانب الآخر من الجدار بمساعدة حبلٍ متدلٍّ. وعند وصولهم، كانت سيارات بانتظارهم قرب المكان لتقلّهم سريعًا وتختفي بهم في عمق الأراضي المحتلة.
كان ضوء الفجر بالكاد قد بدأ يتسلّل إلى بلدة الرام الفلسطينية المحاطة بالجدار حين راحت النار تلتهم ما تبقّى من سلّمٍ مرتجلٍ وحبلٍ مهترئ فوق الأسفلت. على مقربةٍ من المكان، يراقب ثلاثة جنود إسرائيليين المشهد — شُبّان في مطلع العشرينات يؤدّون خدمتهم العسكرية في وحدة حرس الحدود — وقد ترجلوا للتو من مركبةٍ مدرعة خفيفة مغطاة بشبكٍ معدني. لم يتطلّب الأمر منهم سوى عبور بابٍ حديديٍّ ثقيل في الجدار للوصول إلى النقطة.
أعاد أحد الجنود دفع الكومة المحترقة برجله لإشعال النار من جديد، قائلاً ببرود: “الأمر يحدث كل يوم”.
أما زميلته البالغة من العمر 19 عامًا، حاملة سلاحًا آليًا وعيناها مثبتتان على الطريق الذي أصبح مغلقًا أمام المرور، فوصفت الموقف بحزم: “يريدون عبور الجدار لتنفيذ هجمات إرهابية”. وعند سؤالها إن كان الهدف البحث عن عمل، أجابت قاطعة: “ربما، لكن هذا غير قانوني”.
رغم توقيع وقف إطلاق النار في غزة، إلا أن الوضع في الضفة الغربية لم يشهد أي تغيير. هذا الإقليم الفلسطيني المحتل منذ عام 1967 لم يُذكر حتى في بروتوكول الاتفاق. مع ذلك، منذ الهجوم الذي نفذه مسلحو حركة حماس في إسرائيل في السابع من تشرين الأول/أكتوبر2023، تعرضت الضفة الغربية أيضًا للانتقام.
فمن ليلة إلى أخرى، جرى سحب تصاريح العمل عن 120 ألف فلسطيني كانوا يتوجهون يوميًا إلى داخل الأراضي المحتلة بقرار من حكومة بنيامين نتنياهو، فيما سمح لسبعة آلاف فقط بالعودة إلى أعمالهم في القطاعات الحيوية مثل الصناعات الغذائية والفنادق. إنها عقوبة جماعية لم يُدرجها أحد في المناقشات وإدانة للفقر تظل غير مرئية.
تجنب الحواجز العسكرية
بعد أن حُرِمت من الموارد لمدة عامين، شهدت 200 ألف عائلة فلسطينية في هذا الإقليم الذي لا يزيد عدد سكانه عن مليوني نسمة تدهورًا سريعًا في أوضاعها، من بينهم 80 ألف عامل غير قانوني كانوا يعملون أيضًا في إسرائيل. هذا التدهور دفع عددًا متزايدًا من الرجال إلى المخاطرة بكل شيء لتجنب الحواجز العسكرية وعبور الجدار الفاصل.
يقول أحمد الشاب البالغ من العمر 29 عامًا، الذي اقترب مع آخرين من محطة وقود قرب الجدار في انتظار مغادرة الجنود لمحاولة العبور مرة أخرى: “لا يوجد مواطن عمل كافية في الضفة الغربية، وغالبًا ما لا يتعدى الأجر اليومي 50 شيكلًا”. ويشير إلى أن هؤلاء العمال، الذين يعمل معظمهم في البناء والزراعة يمكنهم الحصول على رواتب تفوق تلك التي في الضفة الغربية بأربعة إلى عشرة أضعاف داخل إسرائيل. ويضيف أحمد: “كان لدي تصريح عمل قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر كنت أنظف نوافذ المباني في الشمال مقابل نحو 6400 شيكل شهريًا. ومع وجود طفلين فأنا بحاجة ماسة لهذا العمل”.
ممسكا بحقيبته الملقاة على ظهره، كان مع أحمد مشرف موقع بناء يبلغ من العمر 34 عامًا، وأب لطفلين صغيرين قال: “أحضرت معي ملابس لشهر كامل وبعض الطعام أيضًا”. عند عبور الجدار، يتم استقبال هؤلاء العمال على الجانب الآخر بواسطة وسطاء فلسطينيين، ينقلونهم مباشرة إلى أماكن عملهم في تل أبيب أو المنطقة الصناعية عطروت في القدس أو حيفا.
يشرح شاب آخر يُدعى أحمد يبلغ من العمر 26 عامًا: “ننام في الحقول أو في مواقع البناء أو نستأجر غرفة نتقاسمها مع أربعة أشخاص تكلف ست آلاف شيكل أي 1500 شيكل لكل شخص. ليس لدينا خيار آخر. أنا حاصل على شهادة هندسة، لكن لا يوجد عمل في الضفة الغربية”. ويشير إلى أن عدم وجود عقد عمل رسمي يعني غياب السكن وعدم إمكانية الحصول على الرعاية الصحية. كما فقد العمال بموجب تصاريحهم السابقة التأمين الصحي ولم يعد بإمكانهم الحصول على رواتبهم إلا نقدًا.
قوة عاملة بلا حقوق
على الجانب الآخر من الجدار، يغض أرباب العمل الإسرائيليون الطرف عن هذه اليد العاملة المحرومة من الحقوق والحماية. يوضح عسّاف عديف المدير التنفيذي لمنظمة “معاً” غير الحكومية: “الكثير من أصحاب العمل يطالبون باستئناف إصدار تصاريح العمل لأنهم بحاجة إلى هؤلاء العمال، كما توصي البنوك بذلك أيضًا”، إذ اضطُرّ لإلغاء العديد من المشاريع بسبب هذا الوضع، لكن دون جدوى.
في تقرير نُشر مطلع تشرين الأول/ أكتوبر بعنوان “ممنوعون من العمل”، نقلت هذه النقابة الإسرائيلية الفلسطينية تصريحات علنية أدلى بها في أيار/مايو 2024 رئيس اتحاد المقاولين راؤول سروجو، جاء فيها: “في هذا القطاع وكذلك في قطاع البنية التحتية، التعايش هو واقع قائم. بعضنا استمر في دفع أجور عماله – الذين يعمل كثير منهم منذ سنوات – حتى وإن لم يتمكنوا حاليًا من القدوم إلى العمل، لمجرد أن لديهم موارد كافية للعيش. ولا أتذكر أن أي عامل بناء مرخّص تورط في هجمات إرهابية”.
يؤكد عسّاف عديف: “الفلسطينيون جزء من الاقتصاد الإسرائيلي”، معبرًا عن استيائه من أن “ممثلي المستوطنين في الضفة الغربية يصوتون في الحكومة والكنيست لحظر عمل الفلسطينيين في إسرائيل، في حين أنهم يوظفون اليوم آلاف الفلسطينيين في مزارعهم في المنطقة “سي” – الجزء الخاضع للسيطرة الإسرائيلية الكاملة من الضفة الغربية. ويشير إلى أنه يتم السماح حتى بعمل الأطفال هناك. ويضيف عديف أن الاعتماد على 86 ألف مهاجر، معظمهم من الهند أو الصين، لا يكفي لتعويض نقص الأيدي العاملة، كما يثير مشاكل أخرى، لا سيما فيما يتعلق بالسكن.
حتى الآن، لم ينجح أي حدث في زعزعة استقرار التحالف الحاكم بقيادة بنيامين نتنياهو. عند جدار الفصل، تبدو توترات عمال البناء واضحة للعيان. قبل الحرب، كان هؤلاء العمال يشكلون نحو 90 بالمئة من اليد العاملة المصرح لها بالعمل في إسرائيل عن طريق تصاريح رسمية دقيقة (هناك عشرات التصاريح، كل واحدة مخصصة لقطاع محدد لا يمكن تغييره).
أما اليوم، يغامر هؤلاء الرجال والقليل من النساء – بكل شيء لعبور الجدار. أحيانًا يسقطون، وأحيانًا يطلق عليهم الجنود في الجانب الآخر النار. وبين تشرين الأول/أكتوبر 2023 وكانون الثاني/ يناير 2024، قُتل 55 رجلاً بهذه الطريقة، وفقًا للاتحاد العام للنقابات الفلسطينية.
يهمس أحد الأشخاص الذين يحاولون العبور: “لا يوجد وقت أكثر أمانًا من غيره، كل شيء عشوائي”، ويُظهر على هاتفه صورة لجثة مغطاة بقطعة قماش وملطخة بالدماء قائلا: “كان ذلك قبل بضعة أيام، نهاية ايلول / سبتمبر. كان الرجل من قرية سيلة الظهر في منطقتي”.
انطلقت مجموعات عدة من طولكرم وجنين ونابلس، في الساعة الثالثة فجرًا، وكان من المقرر أن يلتقي بهم توفيق صباح 11 تشرين الأول/ أكتوبر. يقول الأخير: “في كل مرة أرى شخصًا جديدًا”. يرتدي توفيق قبعة سوداء ويتولى مسؤولية إدارة نقطة العبور. تبلغ قيمة الرسوم المترتبة على العملية حوالي 600 شيكل، منها 400 مقابل السلم والحبل و200 للنقل، أي ما يتراوح بين 20 ألف و25 ألف شيكل يوميًا لخمسين شخصًا. وفي حال فشلت العملية، يستلم توفيق سعر النقل فقط.
خطر التفتيش
تزداد جدوى هذه العمليات مع كثرة التنقلات اليومية بين الضفة الغربية وإسرائيل. فعادةً لا يبقى العمال أكثر من شهر إلى ثلاثة أشهر متتالية في إسرائيل، قبل أن يعودوا إلى الضفة، لتجنب خطر ضبطهم خلال التفتيش ولتوصيل الأموال إلى عائلاتهم. تعتبر العودة سهلة نسبيًا، إذ يتم المرور عبر الطريق الرئيسي ونقطة التفتيش الرئيسة في قلنديا، حيث تمر الحركة بسلاسة في هذا الاتجاه كون الجنود الإسرائيليين لا يراقبونها، بينما تصبح طويلة ومعقدة في الاتجاه المعاكس عند محاولة الدخول إلى إسرائيل من الأراضي الفلسطينية.
بدلاً من المخاطرة بحياتهم عند عبور الجدار، يلجأ بعض العمال الى استخدام الطريق البري مع وثائق مزورة، رغم المخاطر الكبيرة التي يحملها هذا الخيار. كان تصريح “صفر صفر” مهملًا ومهمشًا لفترة طويلة، لكنه اكتسب اليوم أهمية متزايدة. يوضح عسّاف عديف: “هذا التصريح لا يمنح حق العمل، بل يتيح لحامله حرية التنقل فقط، شريطة أن يتعاون مع أجهزة الأمن. اليوم، صار لهذا التصريح قيمة كبيرة جدًا في السوق السوداء”.
في قرية بيت سوريك الصغيرة، على بعد 12 كيلومترًا شمال القدس، كان 95 بالمئة من الرجال يعملون قانونيًا في إسرائيل قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. مثل كثيرين غيره كان محمود، البالغ من العمر 44 عامًا وأب لسبعة أطفال، يقطع الطريق يوميًا: يغادر منزله عند الساعة الرابعة فجرًا، يصل إلى نقطة التفتيش عند الساعة الخامسة، ثم يركب الحافلة على الساعة السابعة ونصف، ويعمل في موقع البناء حتى الثالثة ظهرا، ليعود إلى المنزل في الخامسة مساء. يقول محمود: “أعمل في إسرائيل بتصريح منذ أن كنت في الرابعة عشرة من عمري. عملت في كل شيء في البناء والكهرباء وزرت جميع الأماكن”. ومع مرور الوقت، تعلّم اللغة العبرية للتواصل في مواقع العمل.
في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، فقد محمود موطن عمله. يقول في هذا الصدد: “كان يوم سبت، كنّا في المنزل. وفي اليوم التالي، أصبح كل شيء مغلقًا. ظننت مثلي مثل الآخرين أن الوضع سيستمر لشهر، ربما شهرين. ثم تحدثنا مع وسيطنا، ذو الجنسية العربية، فقال لنا: “المدير لا يريد رؤيتكم بعد الآن”. وها قد مضى على ذلك عامان كاملان”.
رغم الانتظار، تغيّر موقف محمود عندما رأى تصريح عمله على هاتفه الذكي، الذي كان من المفترض أن يظل ساريا حتى تموز/ يوليو 2025، وقد وُسِم عليه مسبقًا بعبارة “لم يعد صالحًا”. عندها، قرر محمود المخاطرة بحياته وعبور الجدار بنفسه.
يقول محمود: “مكثت هناك شهرًا واحدًا، كنت أعمل في الطلاء والكهرباء والتشطيبات. كنت أنام في الموقع على شرفة أحد المباني إلى أن تم توقيفي خلال عملية تفتيش. كبّلوا يديّ وقدميّ وعصبوا عينيّ وأخذوا بصماتي وعينة الحمض النووي من فمي”.
نال محمود حريته بعد فترة وجيزة، إذ كان جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي الشاباك، المسؤول عن تصاريح العمل، يعرف كل تفاصيله مسبقًا. لكنه تلقّى تحذيرًا صارمًا: “في المرة القادمة، سيكون السجن مصيرك”. ومنذ ذلك اليوم، لم يحاول محمود المجازفة مجددًا. يقول بنبرة متعبة: “نعيش اليوم على ما تبقّى من مدخراتنا، لكن البقاء بلا عمل ليس أمرًا سهلًا… كثير من الأسر تتفكك بسبب هذا الوضع”.
أما أحمد، المهندس الشاب البالغ من العمر 26 عامًا، الذي فشل فجرًا في عبور الجدار عند بلدة الرام، فقد أصرّ على المحاولة مرة أخرى. وفي نهاية اليوم، أرسل صورة له من شاطئ يافا، الميناء الفلسطيني القديم الذي ضُمّ إلى تل أبيب، مرفقة برسالة قصيرة قال فيها: “لقد عبرت”.
المصدر: لوموند