تتحرك الولايات المتحدة بفعالية غير مسبوقة لتثبيت اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، والمضي بخطى متسارعة نحو “المرحلة الثانية” من الاتفاق، وهي المرحلة الأكثر حساسية وخطورة، لما تتضمنه من بنود خلافية على مختلف المستويات، وتحمل في طياتها ما قد يُحدّد مستقبل المنطقة والقضية الفلسطينية برمتها.
يأتي هذا التحرك المحموم من الإدارة الأمريكية في وقت تميل فيه معظم التقديرات إلى التشاؤم بشأن إمكانية استدامة الهدوء الحالي، إذ لم يُعالج الاتفاق كثيرًا من القضايا الجوهرية، وعلى رأسها الانسحاب الإسرائيلي من أراضي قطاع غزة، وضمان الوصول الكامل للمساعدات الإنسانية، والبدء في إزالة المفاعيل الكارثية لحرب الإبادة التي أنهكت أكثر من مليونيّ فلسطينيّ محاصرين بين الركام والجوع والمرض والموت اليوميّ. وفي المقابل، يؤكد قادة الاحتلال يوميًا، بالقول والفعل، أن العدوان على غزة لم ينتهِ بعد، وأن الحرب ستستمر حتى تحقيق “أهدافها”.
وفي ظل هذا الواقع، سارعت واشنطن إلى الإعلان عن تشكيل مركز التنسيق المدنيّ العسكريّ، المفترض أن يتولى الإشراف على تنفيذ الاتفاق ومعالجة أي عقبات قد تعترضه. ورغم أن هذه الخطوة جاءت قبل التوافق على عضوية المركز والدول المشاركة فيه، أو طبيعة القوة المفترضة ضمنه، إلا أن التحرك الأمريكي يعكس رغبة واضحة في فرض تنفيذ الاتفاق وفق الرؤية الأمريكية، بمعزل عن أي مقاربات موازية قد تُعرقل المسار أو تُبطئه.
واستكمالًا لهذه الخطوات، أعلنت الإدارة الأمريكية بعد افتتاح المركز عن تعيين القائد المدنيّ للمركز، الذي سيُناط به التنسيق بين المكونات العسكرية والمدنية، والتواصل مع مختلف الأطراف لضمان استمرار الاتفاق وتطبيق بنوده.
دبلوماسي مخضرم في الشرق الأوسط
يُعدّ السفير ستيفن فاجن أحد أبرز الدبلوماسيين الأمريكيين العاملين في الشرق الأوسط، بخبرة تمتدّ لأكثر من ربع قرن في السلك الدبلوماسي. وُلد فاجن في مدينة نيويورك، ونشأ في ولاية نيوجيرسي، ويقيم حاليًا في واشنطن العاصمة. حصل على بكالوريوس الآداب من كلية ويليامز، وماجستير الآداب من جامعة ميشيغان، كما التحق بكلية الحقوق في جامعة هارفارد، وكان طالبَ تبادلٍ في جامعة ولاية تبليسي بجورجيا.
تقديرًا لمسيرته المهنية، نال فاجن عددًا من الجوائز العليا، بينها جوائز الأداء المتميّز، وجائزتان رئاسيتان للاستحقاق العالي. منذ انضمامه إلى السلك الدبلوماسي الأمريكي عام 1997، تنقّل فاجن بين عدد من البعثات في الخارج، من بينها بروكسل، وإسلام آباد، وأستانا، وموستار في البوسنة والهرسك، ومينسك، وتبليسي، والقاهرة. كما شغل في وزارة الخارجية الأمريكية مناصب بارزة، بينها مسؤول عن ملف باكستان، ومساعد خاص لوكيل الوزارة للشؤون السياسية آنذاك نيك بيرنز.
وتشير وزارة الخارجية الأمريكية إلى أن فاجن يشغل منذ 1 يونيو/ حزيران 2022 منصب سفير الولايات المتحدة لدى اليمن في عدن، بعد أن عمل نائبًا لرئيس البعثة الأمريكية في بغداد (2020–2021)، ومسؤولًا رئيسيًا في القنصلية العامة في أربيل (2018–2020)، ومديرًا لمكتب الشؤون الإيرانية بوزارة الخارجية (2015–2018). كما تولّى أيضًا منصب مدير مكتب الشؤون الإقليمية في مكتب جنوب ووسط آسيا بين عامي 2013 و2015.
مهامه ومسؤولياته
بحسب ما أعلنه وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، فإن السفير ستيفن فاجن سيعمل بمثابة النظير الدبلوماسي لقائد القيادة المركزية الأمريكية (سنتكوم) الجنرال براد كوبر، في إطار الجهود الرامية إلى تثبيت اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة.
وقال روبيو، قبيل مغادرته “إسرائيل”، إن الوزارة تعتزم تعيين “مسؤولٍ مخضرمٍ في الخدمة الخارجية يحظى بتقدير كبير”، مشددًا على أن “الأسابيع القليلة المقبلة ستكون حاسمة للحفاظ على وقف إطلاق النار والمضيّ قدمًا في تنفيذه”. وأضاف: “لا يزال هناك المزيد من العمل الذي يتعيّن القيام به، ونحن نعلم ذلك جيدًا”.
وسيُكلّف فاجن، بصفته القائد المدنيّ لمركز التنسيق المدنيّ العسكريّ، بالإشراف على عمل الفرق المدنية والعسكرية الأمريكية المتمركزة في المركز، الذي أُنشئ عقب الاتفاق على وقف إطلاق النار وإطلاق الأسرى، ليكون منصة لتنسيق العمليات الإنسانية واللوجستية والأمنية، ومراقبة الالتزام ببنود الهدنة.
ووفق بيان القيادة المركزية الأمريكية (CENTCOM)، يضم مركز التنسيق نحو 200 عنصرٍ عسكريّ أمريكيّ من ذوي الخبرة في النقل والتخطيط والأمن والخدمات اللوجستية والهندسة. ويهدف إلى دعم جهود تحقيق الاستقرار في غزة، مع التأكيد على أنه لن يتم نشر قوات أمريكية داخل القطاع، بل سيقتصر دورهم على تسهيل تدفّق المساعدات الإنسانية والعمليات اللوجستية والأمنية بالتعاون مع الشركاء الدوليين.
وأكّد المتحدث باسم القيادة المركزية، الكولونيل تيم هوكينز، أن المركز يشكّل “آلية أساسية لضمان انتقال غزة نحو الاستقرار والحكم المدني بصورة آمنة ومستدامة”، مشيرًا إلى أنه سيصل إلى كامل جاهزيته التشغيلية خلال الأسبوعين المقبلين، مع انضمام شركاء دوليين جدد.
ورغم أن واشنطن لم تُحدّد بعد الدول التي قد تشارك بقوات أو كوادر في هذا الجهد، فإن المسؤولين الأمريكيين أشاروا إلى وجود اهتمام متزايد من عدد من الدول بالمشاركة، سواء من خلال الدعم العسكري، أو عبر الأذرع الإنسانية واللوجستية.
وأوضح هوكينز أن المركز “ليس تحالفًا عسكريًا بالمعنى التقليدي”، بل إطار واسع للتنسيق الدولي يضمّ جيوشًا ومنظمات إنسانية وفاعلين من القطاع الخاص يعملون معًا لتأمين المرحلة الانتقالية في غزة.
دور محوري في واقع مُعقّد
تُعدّ المهمة التي كُلِّف بها السفير ستيفن فاجن من أكثر المهام حساسيةً في المشهد السياسي الراهن، إذ تأتي في قلب واقع فلسطينيّ وإقليميّ شديد التعقيد. فالاتفاق الذي أنهى الحرب، المعروف إعلاميًا باسم “اتفاق ترامب”، لم يُعالج القضايا الجوهرية المتعلقة بمستقبل الأوضاع في الأراضي الفلسطينية، كما أن بنوده العشرين بدت عامة وفضفاضة، تحتمل تأويلات متناقضة وتفتقر إلى آليات واضحة للتنفيذ.
وفي حين لم تحظَ تلك البنود بموافقة الفصائل الفلسطينية، فإنها أيضًا لم تكن النسخة ذاتها التي ناقشها الرئيس الأمريكي مع قادة ثماني دول عربية وإسلامية. إذ أكدت الشواهد أنّ النسخة المعلنة هي الصيغة الإسرائيلية المعدّلة من العرض الأصلي، ما يجعل الالتباس والشكوك سمة بارزة في المشهد التفاوضي والسياسي الراهن.
على الجانب الآخر، يواجه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ضغوطًا متعددة؛ فهو لا يُبدي رغبة حقيقية في إنهاء حرب الإبادة، ويجد نفسه مُكبَّلًا بتحالفه مع اليمين الدينيّ المتطرّف الذي يتمسك بخيار الحرب المفتوحة ذات البعد الأيديولوجي، الرامية إلى طرد الفلسطينيين واستئناف الاستيطان والضم في كلٍّ من قطاع غزة والضفة الغربية. يُضاف إلى ذلك تصاعد الانتقادات الداخلية في “إسرائيل” ضد نتنياهو، بسبب التدخل الأمريكي المتزايد في تفاصيل ما بعد الاتفاق، الأمر الذي يُحدّ من قدرته على المناورة السياسية.
الأيام الأخيرة شهدت حراكًا أمريكيًا مكثفًا في الأراضي المحتلة، بدأ بوصول المبعوث الخاص ستيف ويتكوف برفقة جاريد كوشنر، تلاه نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس، قبل أن يختتمه وزير الخارجية مايك روبيو بزيارة تهدف – كما يبدو – إلى تنسيق الإيقاع بين الرؤية الأمريكية والتصورات الإسرائيلية حيال المرحلة المقبلة، خاصة مع الإصرار الأمريكي على المضيّ في تنفيذ المرحلة الثانية من الاتفاق.
ورغم أن هذا الحراك يعكس رغبة واشنطن في تثبيت الانسجام مع إسرائيل، فإنه يُظهر في الوقت ذاته حرصًا أمريكيًا على منع انهيار الاتفاق أو انفجار الوضع الميدانيّ لأسباب يمكن احتواؤها، فضلًا عن سعيها لتقييد الاندفاعة الإسرائيلية نحو استئناف الهجوم الشامل.
هذا التوجّه الأمريكي، وإنْ ظلّ حتى الآن ضمن الإطار العام للرؤية الإسرائيلية، إلا أنه يفتح الباب أمام تفكيك احتكار حكومة نتنياهو للسرديّة السياسية حول مستقبل غزة، ويُظهر بوادر لتقييد حركته التكتيكية وقدرته على تطويع مسار الأحداث لخدمة طموحاته الشخصية والسياسية.
في هذا السياق، تزداد حساسية الدور المُوكَل للقائد المدنيّ لمركز التنسيق، فالسفير فاجن، الدبلوماسيّ المخضرم في الشرق الأوسط، يتميّز عن كثير من نظرائه بغيابه عن المشهد الإعلاميّ، وعدم إعلانه مواقف مؤيدة لإسرائيل.
ورغم أن حركته ستكون منضبطة بإطار السياسات الرسمية للبيت الأبيض، فإن النهج الشخصيّ للدبلوماسيين الأمريكيين يؤثر أحيانًا في توجيه المسار، كما تُظهر حالة السفير الأمريكي لدى الاحتلال مايك هاكابي، المعروف بانحيازه الصريح لليمين الصهيونيّ، حتى على حساب الخط الرسميّ لواشنطن.
ومن المرجّح أن تكشف الأسابيع المقبلة عن طبيعة الدور الذي سيؤدّيه فاجن في موقعه الجديد، إذ سيجد نفسه أمام ملفٍّ ملغوم بالتعقيدات السياسية والأمنية والإنسانية، يتطلّب مواقف أكثر علنية، وحراكًا أكثر فعالية، في سبيل تطبيق اتفاقٍ ما زالت تفاصيله الجوهرية محلّ جدلٍ واسع على المستويين المحليّ والإقليميّ، وقد يترتب على نتائجه الكثير في رسم ملامح مستقبل القضية الفلسطينية.
محاولات للإنجاز أم إعادة إنتاج الفشل؟
يبدو أن التحرك الأمريكي الراهن يسعى إلى تقديم نموذج إنهاء الحرب في قطاع غزة باعتباره إنجازًا دبلوماسيًا مرتقبًا، يمكن أن يُعوّض إخفاقات إدارة ترامب السابقة في ملفات السياسة الخارجية، إذ لم تنجح حتى الآن في تحقيق اختراق حقيقيّ في أيٍّ من بؤر التوتر العالميّ التي وعد الرئيس الأمريكيّ بمعالجتها فور دخوله المكتب البيضاوي.
ورغم إدراك واشنطن أن الملف الفلسطينيّ هو أحد أكثر الملفات تعقيدًا وتشابكًا في العالم، إلا أن مسارها الحالي يُظهر ميلًا واضحًا إلى فرض الوقائع على الأرض، وصوغ مسار قسريّ لا يقوم على مشاورات فاعلة مع الأطراف ذات الصلة، مع الحفاظ – كالعادة – على الخصوصية الإسرائيلية، ومراعاة مصالحها الأمنية ومنظورها الاستراتيجيّ في المنطقة.
وفي ضوء ذلك، يمكن القول إنّ صلاحيات ودور مركز التنسيق المدنيّ العسكريّ ستبقى مرتبطة بالكامل بالإدارة الأمريكية، فيما سيقتصر تمثيل الدول الأخرى على حضور رمزيّ أو هامشيّ لا يمتلك تأثيرًا حقيقيًا في متابعة الأوضاع داخل الأراضي الفلسطينية، ولا سيما في قطاع غزة.
أما الاحتلال الإسرائيلي، فسيظلّ يحتفظ عمليًا بـحقّ الفيتو لتعطيل أيّ توجّه لا يتوافق مع مصالحه، وهو ما تجلّى في اعتراضاته المتكرّرة على هويّة الدول التي طُرحت للمشاركة في أعمال المركز أو إرسال قوات إلى الميدان.
ويُراد من هذه المقاربة – في جوهرها – إبقاء السيطرة الإسرائيلية على مفاصل القرار الميدانيّ والسياسيّ، وضمان استمرار تداعيات الإبادة، وخلق ظروف تدفع سكان القطاع إلى الهجرة القسريّة بعد تدمير مقوّمات الحياة فيه.
فيما يبقى السؤال المفتوح: هل تمضي هذه الخطوات الأمريكية، بما فيها تعيين القائد المدنيّ لمركز التنسيق، في الطريق ذاته الذي سلكته خطوات الإدارات الأمريكية القائمة على الرمزيّة الشكليّة دون الخوض في جوهر القضايا؟
وهل ستتحوّل هذه المبادرة إلى نموذج جديد من الفشل الأمريكي في المعالجات الميدانية، شبيه بمشروع الميناء الأمريكي العائم الذي لم يُفلح في إيصال أيّ مساعدات، أو بتجارب مراكز المساعدات الأمريكية التي تحوّلت إلى مصائد موت بدلًا من أن تكون بواباتٍ للإغاثة؟