بين ركام البيوت المُهدَّمة، ووسط صمتٍ عالميٍّ مُطبق، ما زالت آلاف الجثامين الفلسطينية مطمورة تحت الأنقاض في قطاع غزة، تنتظر من ينتشلها، لا من يُشيِّعها. وبينما تئنّ الأمهات تحت وطأة الفقد، ويُبكي الركامُ قصصَ الأطفال الذين قضوا دون وداع، تتسابق فرق دولية للبحث عن جثث جنود الاحتلال، وكأنّ الإنسانية باتت تُقاس بالجنسية لا بالمأساة.
ومنذ بدء اتفاق وقف إطلاق النار في العاشر من أكتوبر، ظهرت تحرّكات دولية عاجلة – ليس لرفع الركام عن الضحايا المدنيين، ولا لمدّ يد العون لعائلات باتت بلا مأوى – بل للمساهمة في استعادة جثث جنود إسرائيليين قتلهم جيشهم في غزة، وفي المقابل، تبقى جثامين أكثر من عشرة آلاف شهيد فلسطيني مفقودة، يطويها الصمت تحت البيوت المُهدَّمة، وبعضها يُحتجز منذ أكثر من عامين دون أن يُحرِّك العالم ساكنًا.
معاناة لا صوت لها
تقول رواء عمر، وهي شاهدة على مأساة انهيار برج “التاج مول” في مخيم اليرموك بغزة، إنّ شقيقتها ما زالت تحت الأنقاض منذ عامين، إلى جانب 12 شخصًا، دون أن تُبذل أي جهود حقيقية لانتشال جثامينهم أو التحقّق من مصيرهم. وتُضيف رواء في شهادتها لـ”نون بوست”: “شقيقتي استُشهدت في 16/10/2023 داخل برج التاج، ولم نستطع دفنها ولا حتى وداعها، الركام ما زال كما هو، والإمكانيات معدومة، ولا أحد يتحرك لإنقاذ أو إخراج من تبقّى تحت الأنقاض”.
تصف شعورها بالحزن والخذلان العميق، مشيرةً إلى المفارقة المؤلمة في تعامل العالم مع الضحايا، وتقول: “العالم كله يرسل المعدات والفرق المختصة إلى غزة للمساعدة في إخراج الجثث الإسرائيلية في إطار صفقات تبادل، بينما نحن، منذ سنوات، نُطلق النداءات دون أن يُصغي إلينا أحد، وكأننا لسنا بشرًا”.
وتتابع: “نحن لا نطلب أكثر من دفن كرامة، إخراج موتانا من تحت الركام، ومعرفة مصيرهم، هو أقلّ حقوق الإنسان”. تختم رواء شهادتها بنداء أخير للمنظمات الإنسانية والدولية: “لا تتركونا وحدنا، لا نريد أن يطوي النسيانُ من نحبّ، صمتُ العالم قاتلٌ مثل الأنقاض”.
في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، وبعد مرور أكثر من شهر على اندلاع الحرب، تعرّضت منطقة الزيتون لقصفٍ مدمّر أودى بحياة نحو سبعين شهيدًا، بينهم ما يقارب أربعين طفلًا، إلى جانب نساء ورجال. شهدت المنطقة نزوحًا كبيرًا، حيث لجأ إليها نازحون من مناطق أخرى مهدَّدة، ليزداد عدد الضحايا والمصابين، يقول محمود ملكة لـ”نون بوست”.
ويشير ملكة إلى أنه على مدار ثلاث سنوات، ونحن نعيش معاناةً لا تنتهي؛ دفنّا خلالها نحو عشرين شهيدًا فقط على أطراف الحوادث، بعد هدنةٍ مؤقتة هدّأت الأوضاع قليلًا. لكن ما زالت هناك أكثر من خمسين جثة تحت الأنقاض، وسط تحديات كبيرة في انتشالها بسبب انهيار المباني المتعدّدة الطوابق.

وصف المشهد قائلًا: “البيوت هنا مدمّرة بشكل كامل، طوابق متراكمة فوق بعضها البعض، والجثث تحت الركام في أوضاع مأساوية. نحن نعرف أماكن سقوط البعض، حتى بجانب منزل أخي، لكن الأمانة لم تُنفَّذ بعد، ما زلنا ننتظر استخراج ما تبقّى من الشهداء، بينهم أطفال ونساء ورجال”.
ويؤكّد أن جهود العالم لم تكن متساوية، ففي الوقت الذي سُاعدت فيه إسرائيل على انتشال جثث جنودها بآلياتٍ ومعدّات حديثة، تُرك الفلسطينيون يعانون وحدهم، دون دعمٍ حقيقي لإخراج أبنائهم من تحت الأنقاض، مضيفًا: “لدينا فقط في عائلتنا أكثر من خمسين شهيدًا مفقودًا، وهناك آلاف آخرون في أنحاء قطاع غزة، نعيش في ظلّ هذا الظلم المستمر”.
وينهي حديثه بنداءٍ موجع: “العالم اليوم ظالم، يدّعي حقوق الإنسان والديمقراطية والمساواة، لكننا نرى واقعًا مليئًا بالكذب والظلم. نريد فقط إنسانيةً وعدالةً لأهلنا الذين فقدناهم تحت الركام، ونطالب المجتمع الدولي أن يتدخّل فورًا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ورفع معاناة شعبنا”.
انتظار الوداع
في قلب حيّ الشجاعية المنكوب، تقف آية جندية تحمل على كتفيها وجعًا لا يُحتمل، فقدت اثنين من أشقائها خلال العدوان الأخير على غزة؛ الأول استُشهد داخل عمارة سكنية في المنطقة، أما الثاني فما زالت العائلة لا تعلم أين أو كيف استُشهد، وكلّ ما يعرفونه أنه كان مع مجموعة من الشبان حين انقطعت أخبارهم في الثاني من مارس/ آذار 2025.
تصف جندية شعورها قائلةً لـ”نون بوست”: “وجعنا كبير، لما الدول أرسلت معدات لانتشال جثامين الإسرائيليين، ما حدا فكّر يطلّع أولادنا من تحت الركام. إحنا نفسنا ندفنهم ونرتاح، نفسي يكون إلهم قبور تزورهم أمي وتعرف إنهم بخير عند ربهم”.
تستذكر لحظة علم والدتها باستشهاد ابنها الأول، فتقول: “أمي، لما عرفت، راحت بنفسها على العمارة تدور عليه بين الركام، كانت مصمّمة تطلّعه بإيدها، بس ما قدرت، ومن يومها وهي تنتظر خبر عن التاني”.
تعيش العائلة، منذ ذلك اليوم، بين الأمل واليأس، تتشبّث بذكرى أبنائها وتنتظر أن يُرفع الركام عن أجسادهم، لتُمنح لهم فرصة الوداع الأخيرة.
ازدواجية المعايير
رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني (حشد)، د. صلاح عبد العاطي، أكّد أن لدينا في قطاع غزة أكثر من عشرة آلاف جثمان تحت الركام، وهؤلاء يحتاجون إلى معدّات لانتشالهم، وطواقم من الدفاع المدني للمساعدة في عملية انتشالهم والبحث عنهم.
وأشار عبد العاطي لـ”نون بوست” إلى أنه في ظلّ شُحّ الإمكانيات وعرقلة وصول المساعدات الإنسانية والمعدّات الثقيلة ودخولها من قبل الاحتلال الإسرائيلي، تواجه هذه العملية عراقيل حقيقية، حيث يلجأ الدفاع المدني لمحاولة انتشال بعض الجثامين بإمكانات محدودة جدًا، وبوسائل بدائية، بينما دول العالم أبدت استعدادها لإدخال معدّات لاستخراج جثامين ورفات أسرى الجنود لدى المقاومة الفلسطينية من الإسرائيليين.
وشدّد على أن هذا يُظهر إلى أيّ مدى هناك ازدواجية في المعايير وانتقائية في إنفاذ الجوانب الإنسانية، وبالتالي، لا بد من وقف هذه الازدواجية، وضمان فتح المعابر لإدخال المعدّات الثقيلة، وفِرَق الدفاع المدني، والمساعدات الإنسانية، للمساعدة في انتشال جثامين الشهداء، ووقف هذه المعاناة، ومساعدة قطاع غزة على التعافي من حرب الإبادة الجماعية وتداعياتها التي استمرت عامين.