يُعدّ ملف المقاتلين الأجانب في سوريا من أبرز التحديات التي تواجه الحكومة السورية الجديدة بعد سقوط نظام الأسد، إذ يضم آلاف المقاتلين الذين دخلوا البلاد من عشرات الدول خلال سنوات الحرب، وانخرطوا في القتال إلى جانب أطراف مختلفة.
تتداخل في هذا الملف قضايا أمنية وقانونية وإنسانية، تتعلق بكيفية التعامل مع هؤلاء بعد انتهاء الصراع، سواء من حيث محاسبة المتورطين بجرائم، أو إعادة من يمكن إعادتهم إلى دولهم الأصلية، أو دمج من استقر في البلاد ضمن المجتمع السوري. كما يثير الملف اهتمامًا دوليًا واسعًا بسبب ارتباطه بمخاوف من عودة التطرف وانتقاله عبر الحدود، ما يجعله أحد أكثر القضايا حساسية في مرحلة ما بعد الحرب. فهؤلاء المقاتلون ليسوا كتلة واحدة، بل ينتمون إلى اتجاهات وقوى مختلفة، وتتناول قضاياهم أبعادًا أمنية وقانونية وسياسية متشعبة، ترتبط كذلك بعلاقة سوريا مع المجتمع الدولي ودولهم الأصلية.
ليسوا صنفًا ولا جهة واحدة
يُقسم المقاتلون الأجانب في سوريا إلى أصناف، إذ ينقسم المقاتلون الأجانب في سوريا إلى أربعة أصناف أساسية حسب الجهات التي قاتلوا معها وظروف بقائهم:
الصنف الأول: قاتل في صفوف الفصائل المعارضة للأسد حتى انتصارها وبقي في سوريا، وكان مقدمهم إلى البلاد بدوافع التعاطف والدعم للشعب السوري، ويبلغ عددهم آلافًا من آسيا الوسطى ودول عربية وتركيا والبلقان وأوروبا. وهؤلاء تتجه الحكومة الجديدة لمنحهم تسهيلات أو حتى الجنسية مقابل مشاركتهم في إسقاط النظام السابق، وسط جدل داخلي ودولي حول هذا المسار، مع التأكيد الرسمي على عدم تشكيلهم خطرًا خارجيًا، وأن دمجهم في المجتمع السوري ممكن.
وقد ظهرت قبل سقوط نظام الأسد بعض الحالات التي شهدت صراعًا بين هيئة تحرير الشام، وبعض الفصائل التي قوامها مقاتلون أجانب مثل الحزب التركستاني، أو المقاتلون الفرنسيون بقيادة الفرنسي السنغالي عمر أومسن، والتي تجددت مؤخرًا تحت ذرائع مختلفة وانتهت باتفاق بين جهاز الأمن العام والمقاتلين الفرنسيين بوساطة من شخصيات سورية وأجنبية.
الصنف الثاني: مقاتلون أجانب قاتلوا في صفوف النظام السابق، غالبًا كأعضاء في المليشيات الإيرانية (لواء فاطميون، الحشد الشعبي)، وهم قادمون من إيران وأفغانستان والعراق ودول أخرى.
قد يكون بقي بعضهم في البلاد أو اندمج في المجتمع المحلي بعد تغيير النظام دون معرفتهم. وهؤلاء معظمهم ارتكب جرائم بحق السوريين، ولا بدّ من إثارة ملفهم في حال وجود أحدٍ منهم في سوريا حتى اللحظة، خاصةً المليشيات العراقية أو ميليشيا القوميين العرب، وبعض العناصر العربية والفلسطينية والعراقية التي قاتلت إلى جانب النظام السوري.
الصنف الثالث: مقاتلون ضمن تنظيم داعش ومعتقلون حاليًا في سجون التحالف، والتي تسيطر عليها قسد، وهم الأكثر إثارة للخوف الدولي بسبب ارتباطهم بالإرهاب العابر للحدود. أعدادهم بالآلاف، من أكثر من مئة دولة، وتركوا آثارًا دموية وتحالفات متطرفة، ويُشكّلون معضلة قانونية سواء في سوريا أو في البلدان التي قدموا منها، فهناك من يُطالب بطردهم أو محاكمتهم محليًا مع رفض دولهم استقبالهم.
بعضهم محتجز حتى اليوم في مخيمات ومعتقلات داخل سوريا، ويُشكّل هؤلاء معضلة دولية وليست محلية فقط في كيفية التعامل معهم، خاصة في ظل وجود أبناء مجهولي الجنسية لهؤلاء، لا يحملون أي جنسية في ظل غياب وعدم معرفة آبائهم وأمهاتهم أو أحدهم على الأقل.
الصنف الرابع: مقاتلون في صفوف قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وبينهم أجانب قدموا للقتال مع قسد أو لمصالح أخرى، وخاصة من أوروبا أو تركيا، بل إنّ عماد قوات قسد هو في قياداتها غير السورية والمتمثلة بقيادات حزب العمال الكردستاني. وهؤلاء يحتاجون إلى توافق إقليمي ودولي لإيجاد حل لهم، في ظل ما حصل في تركيا من إلقائهم السلاح.
وقد يواجه هؤلاء إشكاليات في العودة أو في دمجهم مستقبلًا، ويرتبط ذلك بطبيعة الحل بين الحكومة السورية وقسد، وما ينتج عنه من توافقات، أبرزها ملف المقاتلين الأجانب في صفوفها.
تخوف الدول الأصلية وضرورات التشريع
ترفض معظم الدول الأصلية للمقاتلين الأجانب في سوريا استعادة مواطنيها، خاصةً من قاتل في صفوف داعش، هذا الرفض يرتبط بمخاوف أمنية حيال عودة التطرّف وامتلاكهم خبرات قتالية، وتمكينهم من تشكيل خلايا إرهابية، إضافةً إلى صعوبة ملاحقتهم قانونيًا عند العودة بسبب ضعف الأدلة المرتكبة خارج الحدود.
على سبيل المثال، فرنسا وسويسرا ودول أوروبية عديدة تفضّل محاكمتهم محليًا في سوريا أو العراق، وتطالب الحكومة السورية بضبط المقاتلين المتواجدين معها على الأرض السورية بحسب الأفعال المرتكبة، مع ضمان عدم تولّيهم مناصب قيادية جديدة في الإدارة السورية أو الجيش.
كذلك، تطلب الدول الأوروبية التعاون في جمع الأدلة وتبادل المعلومات لمنع تكرار المخاطر عند العودة إلى الدول الأصلية، وتطوير قوانين جديدة تهدف إلى محاكمة العائدين بفعالية، وتفادي الثغرات القانونية التي تتيح لهم الهروب من المحاسبة. كما تعمل الدول على ملفات مثل إعادة الأطفال والأسر المرتبطة بالمقاتلين عبر قوانين واضحة، تضمن حماية الحقوق وعدم التسرع في إعادتهم دون فحص أمني.
التجارب الدولية
هناك عدة تجارب دولية بما يتعلق بالمقاتلين الأجانب، لعل أبرزها تجارب (البوسنة، الأفغان، الشيشان)، حيث شهدت البوسنة والهرسك، أفغانستان، والشيشان تجارب مهمة بشأن المقاتلين الأجانب.
ففي البوسنة والهرسك (1992–1995)، انضم آلاف المقاتلين الأجانب (المجاهدين البوسنيين) لدعم البوشناق المسلمين ضد القوات الصربية والكرواتية، وتم تجنيس بعضهم لاحقًا ودمج عدد محدود في المجتمع، لكن التجربة لم تكن ناجحة بشكل كبير، إذ كشفت عن خطورة بقاء مقاتلين ذوي توجهات أيديولوجية، وعدم تكاملهم بالكامل مع بيئة جديدة، وهو ما سبّب لاحقًا مشاكل أمنية وقانونية.
في أفغانستان والشيشان، أدّت مشاركة أعداد هائلة من المقاتلين الأجانب إلى تفشّي الجماعات الجهادية، وانتشار “الإرهاب الدولي” حسب التعبير المستخدم، بعد عودتهم إلى دولهم الأصلية. وهذا دفع معظم الحكومات لتشديد قوانين العودة ورفض استقبال هؤلاء المقاتلين دون محاكمات صارمة أو برامج تأهيل دقيقة، وهي دروس ضرورية لسوريا في بناء استراتيجيات فعالة ومستدامة.
التعامل مع المقاتلين الأجانب في سوريا؟
على السياسة السورية العمل على إعادة أو احتواء المقاتلين الأجانب، حيث يجب وضع إطار قانوني دقيق يوازن بين المتطلبات الأمنية وحقوق الإنسان والتوافق الدولي، ولعلنا نذكر أبرز النقاط القانونية للتعامل مع المقاتلين الأجانب بحسب قراءة ملفات وتجارب الدول الأخرى التي استطاعت التعامل مع هذه الملفات، وهي كالتالي:
التجنيس: يتم توفير إطار لتجنيس المقاتلين الأجانب ممن قاتلوا مع الثورة وفق شروط واضحة (الزواج من مواطنات سوريات، سلوكيات غير إجرامية)، مع عدم تمكينهم من تولّي مناصب عسكرية أو أمنية حساسة في الإدارة الجديدة خلال الفترة الانتقالية على الاقل.
التسوية: آلية التسوية أو الإخراج بشكل منسق: في حالة رفض الاندماج، يجب إخراجهم بصورة منظّمة قانونياً وبالتنسيق مع المنظمات الدولية حتى لا يتعرضوا لخطر أثناء تسليمهم لدولهم الأصلية، أو يُعاد دمجهم في مجتمعات بديلة بعيداً عن مناطق النزاع.
المحاكمات: إجراءات محاكمة أو تأهيل محاكمة من تورّط بجرائم ضد الإنسانية أو بحق مدنيين وفق القانون السوري وتحت رقابة دولية في حال أرادت الدول المنبع (التي قدم منها هؤلاء)، ولا يُسلَّم المقاتل الأجنبي لدولته دون تسوية أوضاعه القانونية وللتأكد من عدم وجود قضايا انتقامية سياسية.
إعادة التأهيل والدمج: يجب أن تكون هناك عملية إعادة تأهيل ودمج منهجي من خلال توفير برامج رسمية لإعادة تأهيل المقاتلين المُدمجين، تشمل الرقابة الأمنية، والدعم النفسي والاجتماعي، وضمانات بعدم العودة للتنظيمات المتطرفة.
التعاون الدولي: من المهم جدا التعاون الدولي مع الدول المرتبطة بهذه الملفات والتوافق التشريعي والالتزام بالشفافية في نقل المعلومات حول المقاتلين، وتبادل الأدلة والقضايا مع الدول الأصلية لتفادي الثغرات القانونية.
التشريعات: تطوير نظام تشريعي خاص يتيح التعامل مع الحالات غير المُجنسة أو عديمي الجنسية، وتسهيل إجراءات الإدماج أو الخروج حسب الحالة الفردية لكل مقاتل وأسرته.
عدم تكرار الاخطاء: منع تكرار نماذج الأفغان العرب والشيشان من خلال اعتماد قوانين تمنع إنتاج جماعات جديدة يكون ولاؤها عابر للحدود وتخضع لمراقبة الدولة حصراً.
يؤكد الأستاذ فضل عبد الغني، مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان في حديث لـ “نون بوست”، أنّ الملف “معقد للغاية”، و”يشمل أطرافًا مختلفة”، ويشدد على “التمييز بين مقاتلين دخلوا بدعوة من الحكومات، وبين تنظيمات مسلحة أجنبية”. ويُفضّل عبد الغني “دمج من قاتل إلى جانب السوريين ضمن المجتمع، دون تولّي مناصب قيادية، والتعامل معهم كأفراد خاضعين للقوانين المحلية”.
كما يمكن “التعامل مع برامج الأمم المتحدة والتجارب الدولية السابقة لتطوير معايير التأهيل النفسي والاجتماعي” و”تنفيذ برامج تهذيبية وعلاجية، وتعليم وتدريب مهني، ومعالجة الأسباب النفسية والاجتماعية للتطرف”.
وتشمل معايير الاندماج تشمل التكيّف مع القيم والقوانين المجتمعية، وإدماج المقاتل كمواطن ملتزم ضمن بيئة متماسكة إضافة للدعم التربوي والاجتماعي لمنع العودة إلى السلوكيات الخطرة.
كما يمكن إعادة النظر بمعايير الرقابة والمتابعة من خلال تقييم دوري باستخدام أدوات متخصصة، وإشراف أمني وقانوني مستمر.
وفي النهاية، يبقى ملف المقاتلين الأجانب في سوريا عقدة شديدة التعقيد، تتطلب سياسات رشيدة تجمع بين العدالة والأمن وإعادة الاندماج، وأن تستفيد سوريا من التجارب الدولية في التشريع والإدماج. كما تفرض هذه المعضلة على المجتمع الدولي تطوير إطار قانوني واضح وشامل يضمن معالجة عادلة تحمي الدول والسكان المحليين من المخاطر المستقبلية.
