في بيتها الذي لم يعد موجودًا في تلّ الهوا، تركت زهرة صرصور (37 عامًا) عمرًا كاملاً من الذكريات، حين وصلها خبر تدميره وهي نازحة في جنوب غزة خلال نوفمبر/تشرين الثاني 2023. كانت تلك اللحظة، كما تصفها، أشبه بانكسار داخلي لا يُرمَّم.
تقول بصوتٍ تغلبه الحسرة: “اللحظة اللي فقدت فيها بيتي ما بقدر أنساها ولا أمحيها من ذاكرتي. هذا المكان تزوجت فيه، وأنجبت، وعشت فيه 13 سنة، هناك كل ما يشبهني”.
لكن خسارة البيت لم تكن سوى البداية، فبعد أيام قليلة، بدأت تفقد أقاربها وأصدقاءها واحدًا تلو الآخر، بينهم طبيبها الذي كانت تراجعه منذ سنوات. تتنهد وتضيف: “ما قدرت أودّع أي حدا منهم، راحوا فجأة.. وأكثر ما يؤلمني أني ما قلتلهم قديش بحبهم”.
في كل اسم يرحل، كانت زهرة تفقد جزءًا جديدًا من نفسها. تقول وهي تحاول وصف ما لا يُوصف: “الحزن ما بيخف، بس بيتغيّر شكله.. بيصير أهدأ، أكتر صمتًا، أكتر ثقلًا على القلب. والصور والأماكن بتوجعني، بتوقظ الذاكرة عندي، عشان هيك بتجنبها”.
كل زاوية كانت تذكّرها بضحكات، بمناسبات صغيرة، بتفاصيل جميلة لم تعد موجودة. وكأن المكان، وإن تهدّم، ما زال يعيش داخلها بكل ما فيه.
تحاول اليوم أن تعود تدريجيًا إلى الحياة من خلال التفاصيل الصغيرة: ترتيب خيمتها، إعداد الطعام، متابعة أطفالها الثلاثة. لكنها تعترف: “بحسّ في جزء مكسور بداخلي، بحاول أعيش، أبتسم، بس الإحساس بالجمود جوّاي ما بيروح أبدًا. الجزء اللي تهشّم جوايا ما التأم، وعايش معي، كظلّ ثقيل ما بفارقني”.
ورغم ثقل الفقد، تمنحها ضحكات أطفالها ما يشبه الأمل المؤقت، ومتنفسًا يخفف وجع الأيام. تقول بابتسامةٍ حزينة: “هم اللي بيخلّوني أقاوم مشاعري، الفرح بالنسبة إلي لحظة، ممكن تيجي بابتسامة أو موقف بسيط. لأن اللي رحلوا أكيد بدهم إلنا نعيش حياة حلوة”.
وفي ختام حديثها، تلخّص زهرة معنى الحداد كما تشعر به لا كما يُقال عنه، فتقول: “أنا ما بطّلت أعيش، بس صرت أعيش جنب الحزن.. أتعامل معاه كأنه جزء منّي، ما بفارقني ولا بحاول أهرب منه. هذا هو الحداد اللي ساكن جوّاي”.

حين يصبح الحزن عادة
من حيّ الصبرة في مدينة غزة، يستعيد الصحفي هاني أبو رزق (31 عامًا) الأيام الأولى للحرب، حين فقد ثلاثة من زملائه أثناء تغطيتهم القصف. يقول بصوتٍ يثقله الحنين: “كانت صدمة كبيرة، رغم إنه بعدها استُشهد كثير من الزملاء، بس أول مرة كانت الأوجع، بتضلّ عالقة بكل تفاصيلها، بوجوههم وكلماتهم الأخيرة”.
لم يتمكن من وداعهم بسبب الحصار وصعوبة التنقّل بين الشمال والجنوب، فاكتفى بأن يتواصل مع أقاربهم ويتذكرهم ويكتب عنهم. يقول: “هما راحوا بأجسادهم، بس أرواحهم باقية فينا وفي أعمالهم، ما بننساهم أبدًا”.
يرى هاني أن الحزن في غزة لم يعد كما كان، بل تحوّل إلى روتينٍ يوميٍّ يصعب الانفلات منه: “صرنا نتعوّد على الحزن، نحزن يومين على شخص، وبنرجع نكمّل حياتنا، لأن كل يوم في فقد جديد. يمكن هذا أصعب أنواع التعايش، لما يتحوّل الألم لعادة”.
كل شيء حوله يذكّره بما قبل السابع من أكتوبر: “المكان، الريحة، الصوت.. كل تفصيل بسيط بيعيدني للماضي، لأيام كنا نحلم فيها بأشياء صغيرة وبسيطة صارت اليوم بعيدة المنال”.
يتوقف لحظة ويكمل: “حتى الأشياء العادية صارت مؤلمة، الشوارع اللي كنا نمشي فيها، أصوات الضحك، وحتى رائحة القهوة في الصباح، كلها بتخلّيني أحس إن الزمن وقف عند تلك اللحظة وما عاد يتحرك”.

يؤمن هاني أن ما جرى لم يكن حربًا قصيرة ستُطوى صفحاتها بسهولة، بل جرحًا ممتدًّا في الذاكرة. “نحتاج عشرات السنين لنرجع لجزء من اللي كنا عليه. الحرب خلّصت، بس جوّانا لسه شغّالة. حرب التذكّر والفقد والنجاة اليومية من الذكريات”.
يحاول أن يقاوم ثقل هذا الشعور عبر الأمل الصغير الذي تخلّفه كلمات الناس ودعوات والدته. “كلام الناس الإيجابي ودعوات أمي هم اللي بيخلّوني أستمر حتى في أحلك الظروف. يمكن هذا الإيمان البسيط بالحياة هو اللي بيحمينا من الانهيار التام”.
وعندما يُسأل عن معنى الحداد بالنسبة له، لا يحتاج إلى تفكير طويل. يبتسم بمرارة ويقول: “الحداد؟ هو وجع.. بس وجع مستمر، ما إله نهاية”.
عيد ميلاد تحوّل إلى ذكرى استشهاد
بينما تختلف أشكال الفقد من شخصٍ لآخر، يبقى وجعه واحدًا في كل بيتٍ غزّي. خسرت رشا كحيل (29 عامًا) أمانها في لحظة واحدة، حين تحوّل يوم ميلادها إلى يوم فقد والدها.
في التاسع عشر من ديسمبر 2023، قنصت قنّاصة إسرائيلية والدها بثلاث طلقات في رأسه. تتذكّر تلك اللحظة بارتجاف: “كنا محاصرين، ما قدرت أوصل لمكان استشهاده. اضطرينا نكسر حيطان الجيران وننط من بيت لبيت، ولما وصلنا كانوا الرجال مكفّنينه بسرعة تحت نيران الكواد كابتر، ودفنوه بدون ما أودّعه أو ألمسه”.
منذ ذلك اليوم، صار الغياب جزءًا من تفاصيل حياتها. تقول: “كل مرة بشوف شخص فقد أبوه، بحس إن بابا استشهد من جديد. على سفرة الأكل، في كل قرار كان لازم أرجعله فيه. ريحته بعدها بملابسه اللي احتفظنا فيها، وخلّينا طاقيته اللي كان لابسها وقت استشهاده، عليها دمه الطاهر وريحته فيها”.
الحزن عند رشا لم يختفِ، بل تبدّل شكله مع الوقت، فتقول: “الحياة بتستمر غصب عن الواحد، بس كل شي ناقص. بالبداية كنت فاقدة الشهية للأكل والكلام، كنت حاسة إني متت مع بابا. بس أول مرة زرت قبره حسّيت بجوع غريب، وقتها عرفت إن بابا ما برضى أشوف نفسي بهالطريقة”.
تصف الحداد بكلمات موجعة تختصر تجربتها: “الحداد هو حياة بدون حياة”. تقولها بنبرة هادئة تحمل استسلامًا أكثر من الحزن، كأنها اعتادت وجوده إلى جوارها كظلٍّ دائم يرافقها أينما ذهبت.
ورغم قسوة الفقد، تؤمن أن الاستمرار واجب الإيمان لا رفاهية الشعور: “التعافي بتنجبري عليه، مش قرار ولا لحظة وعي، هو إنك تمشي غصبًا عنك. وإذا ضليت واقفة عند لحظة الفقد، رح توصلي لنقطة سودة. بس كل محاولة، حتى لو صغيرة، المؤمن مأجور عليها”.
حداد غزة الجماعي
من جهته، يؤكد الدكتور أحمد العرابيد، أستاذ علم الاجتماع في جامعة الأقصى، أن حالة الحداد الجماعي التي يعيشها المجتمع الغزّي اليوم تُعدّ أمرًا طبيعيًا بعد هذا الكمّ الهائل من الفقد والألم، إذ لم يسلم أحد من آثار الحرب.
يقول: “البلاء عمّ الجميع، والحداد أصبح تجربة جماعية لا خيار فيها، بل فترة مفروضة على الناس لا مفر منها”. ويضيف أن غزة تعيش حاليًا نوعًا من التهدئة، لكنها لا تعني عودة الحياة إلى طبيعتها الكاملة، بل إلى روتين يساعد الناس على البقاء على قيد الحياة.
ويرى أن مرحلة الحداد تبدأ بالانفكاك التدريجي حين يبدأ المجتمع باستعادة بعض ملامح الاستقرار، فكلّما تحسّن الوضع العام، انعكس ذلك على الحالة النفسية للأفراد وعودتهم إلى الحياة الطبيعية.
ويشدّد العرابيد على أن المجتمع بأكمله بحاجة إلى تأهيل شامل بعد ما عاشه من صدمات تتجاوز قدرة الفرد على الاحتمال، إذ انعكست الحرب على الصحة النفسية والجسدية للناس.
ويضيف: “من المفترض أن الحرب جعلت منّا أشخاصًا أكثر صلابة نفسيًا، لكن لا يمكن تجاهل الفروق الفردية بين الناس في قدرتهم على التعافي، فكلٌّ يتعامل مع الفقد والحزن بطريقته الخاصة”.
ويشير إلى أن الإيمان والوازع الديني يلعبان دورًا مهمًا في تقبّل الواقع والتعامل معه، كما تؤثر البيئة الأسرية والاجتماعية في تعزيز صلابة الفرد النفسية.
ويختم بالقول: “الإنسان بطبيعته قادر على التعافي من الأزمات والصدمات، لكن ذلك يحتاج إلى دعمٍ نفسي حقيقي من الأسرة والبيئة المحيطة والمختصين، إضافةً إلى استقرارٍ معيشي يوفّر له الأمان. كما لا بدّ من تنفيذ برامج لإعادة تأهيل الفئات الأكثر هشاشة في هذه المرحلة”.