من يملك الفاشر يملك دارفور، ومن يملك دارفور يحكم السودان” — مثلٌ قديم يلخّص في جملةٍ واحدة القيمةَ التاريخية والرمزية لمدينةٍ لم تكن يومًا مجرد بقعةٍ على الخارطة، بل قلب دارفور النابض وشريانها الاقتصادي المتدفق، وذاكرتها الضاربة في جذور الأصالة والسلطة.
منذ أكثر من ستمئة يوم، تعيش الفاشر — عاصمة شمال دارفور — موتًا بطيئًا يتبدّل وجهه كل يوم: مرةً برصاصٍ يتساقط على الأحياء، وأخرى بقنابل تمزّق البيوت، وثالثةً بجوعٍ يفتك بالأجساد المنهكة. أما من ينجح في الفرار، فغالبًا ما يلقى حتفه في صحارى البلاد الحارقة، حيث لا ظلّ ولا ماء ولا نجاة.
كانت الفاشر يومًا ما مقرّ السلطنة، وواحة رخاءٍ وتنميةٍ تمدّ شريان الحياة غرب السودان. منها خرجت كسوة الكعبة المشرفة نحو الحجاز قرابة قرنٍ من الزمان، رمزًا لعطاءٍ روحاني وثقافي تجاوز حدود المكان. واليوم، تلك المدينة نفسها تحوّلت إلى عاصمةٍ للجوع والموت، بؤرةٍ للأوبئة والنزوح، وجسدٍ ممزّقٍ تتنازعه القوى المتحاربة، يتقافز فوقه الجنرالات بحثًا عن سلطةٍ ونفوذٍ في بلدٍ ينهشه الانقسام.
عبر القرون، كانت الفاشر دائمًا مطمحًا ومطمعًا — موقعها الجيوسياسي جعلها بوابة دارفور ومفتاح غرب السودان، ومركزًا لكل من أراد السيطرة أو الاستقرار، لكنها، في المقابل، قدّمت درسًا خالدًا في الصمود والمقاومة، إذ ظلت على الدوام قلعةً للممانعة ومسرحًا لنضالٍ طويل ضد الاستعمار والتهميش.
من هنا لا يمكن النظر إلى الفاشر كمدينةٍ عابرة في سطور التاريخ السوداني، بل كـ حكايةٍ متجذّرة في وجدان الأمة — قصة مكانٍ صاغته القرون كما تصوغ النار الحديد، مدينةٍ تخلّقت من رماد الحروب، ودفعت أثمانًا باهظة كي تبقى شاهدة على معنى البقاء في وجه الفناء.
فالفاشر ليست مجرد مدينةٍ تحاصرها النيران اليوم، بل رمزٌ لوطنٍ يُعاد تشكيله بالدمّ والدمع، ومرآةٌ عاكسةٌ لتاريخ السودان نفسه، حين يُختصر في صراعٍ أبدي بين من يملك الأرض… ومن يستحقها.
فاشر السلطان
قبل نحو خمسة قرون، وعلى بُعد أكثر من ألف كيلومتر غرب الخرطوم، وفي منطقةٍ ترتفع قرابة سبعمئة متر فوق مستوى سطح البحر، وُلدت مدينة الفاشر؛ لتكون مقرًّا لحكم مملكة الفور، إحدى الممالك الثلاث التي شكّلت هوية السودان القديم، إلى جانب مملكة الفونج في سنار شرقًا، ومملكة تقلي في جبال النوبة جنوبًا.
تلك الممالك لم تكن كيانات سياسية فحسب، بل جسّدت معًا مثلثًا حضاريًا صنع ملامح السودان الأولى، وأسّس وعيًا دينيًا وثقافيًا واجتماعيًا متماسكًا، قبل أن تمتد يد محمد علي باشا في القرن التاسع عشر لتضمّها إلى مشروعه التوسّعي، مُخضِعًا دارفور والدولة السودانية الناشئة لنفوذه القادم من الشمال.
أما اسم الفاشر فقد تعددت الروايات حول أصله، فهناك من يرى أنه مشتق من كلمة تعني مجلس السلطان الذي تُدار فيه شؤون المملكة ويُتّخذ فيه القرار، بينما يروي آخرون أن الاسم يعود إلى ثورٍ يُدعى فاشر كان يذهب يوميًا إلى بركة ماء مجهولة المصدر، وحين تتبعه الناس واكتشفوا تلك البقعة الغنية بالمياه، أقاموا حولها وسَمّوها باسمه.
غير أن الرواية الأرجح، بحسب أغلب المؤرخين والباحثين، هي تلك التي تربط الاسم بمجلس الحكم نفسه، إذ كانت الفاشر مقرًّا لإدارة السلطنة ودارًا للسلطان ومستشاريه، ومن هذا المعنى نشأت تسمية “الفاشر أبو زكريا”، نسبةً إلى الأمير زكريا، والد السلطان علي دينار الذي جعل من المدينة لاحقًا واحدةً من أهم عواصم الملوك في السودان، وملاذًا للحكم والثقافة والدين، ومركز إشعاعٍ سياسي وروحي في قلب القارة.
درة تاج ممالك أفريقيا
مع مطلع القرن الخامس عشر، بسط السلطان سليمان سولونق نفوذه على الجبال والوديان الممتدة في غرب السودان، مؤسِّسًا بذلك سلطنة الفور التي ستصبح لاحقًا إحدى أهم الممالك في قلب إفريقيا، وخلال سنوات قليلة، استطاع السلطان أن يحوّل تلك الرقعة الوعرة القاحلة، التي كانت تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة، إلى كيانٍ سياسي متماسك، يفيض بالاستقرار والنظام، ومن رحم ذلك التحول، بدأت دارفور تكتسب مكانتها كقوةٍ سياسية وروحية مؤثرة في الإقليم، لها وزنها في موازين الحكم والتجارة والعلاقات القبلية.
وفي أواخر القرن الثامن عشر، دخلت الفاشر مرحلةً مفصلية في تاريخها حين قرّر السلطان عبدالرحمن الرشيد نقل عاصمة السلطنة إليها، بعدما كان في جبل مرة، كانت تلك الخطوة بمثابة ميلادٍ جديد للمدينة، إذ وضعت الفاشر أولى أقدامها على طريق الحضارة والتنمية، وبدأت تكتب صفحاتها الأولى في سجل التاريخ المشرق لدارفور.
لم تمضِ أعوام كثيرة حتى تحوّلت الفاشر إلى قبلةٍ للتجارة الإفريقية، وممرٍ رئيسٍ للقوافل القادمة من الشرق والغرب والشمال والجنوب، فقد كانت مركزًا لتجارة الصمغ العربي والذهب والعاج، تُصدَّر منها الثروات إلى مختلف أنحاء القارة، حتى غدت الفاشر مدينةً نابضة بالحركة، تضجّ بالأسواق والرحّالة والقصّاصين والتجّار. ومع هذا الازدهار، ترسخت مكانة المدينة كحاضرةٍ إفريقيةٍ مزدهرة في قلب القارة السمراء.
ومع بدايات القرن التاسع عشر، كانت الفاشر قد كرّست مكانتها كـ عاصمةٍ سياسية وروحية واقتصادية لدارفور، ومنارةٍ للعلم والسلطة في آنٍ واحد، قصدها الطلّاب والعلماء والتجّار من شتى الأنحاء، وازدهرت فيها المدارس التقليدية والزوايا الدينية، حتى غدت رمزًا للتنوع الثقافي والتفاعل الحضاري.
لكن العقد الثالث من القرن ذاته حمل رياح التغيير؛ إذ بدأ والي مصر، محمد علي باشا، حملاته العسكرية لضم السودان إلى دولته التوسعية، ورغم نجاحه في السيطرة على مدن الشمال والوسط، ظلّت الفاشر عصيّة على النفوذ المصري لأكثر من خمسة عقود، تحميها جبالها الصلبة وصلابة أهلها الذين رفضوا الخضوع، لتبقى رمزًا للسيادة المحلية ورايةً مرفوعة في وجه الطموحات الإمبراطورية.
بدايات المحلمة الدارفورية
مع توسع جيوش محمد علي باشا في شمال السودان ووسطه خلال القرن التاسع عشر، وجد سلاطين مملكة الفور أنفسهم في مواجهة واقع جديد لا يقبل التعايش. فالحكام القادمون من مصر وتركيا سعوا لفرض سيطرتهم على دارفور، غير أن سلاطينها أبوا الخضوع، ودخلوا معهم في معارك ضارية بقيادة السلطان إبراهيم قرض، الذي تمكن من إلحاق هزيمة قاسية بالجيوش الغازية في معركة منواشي عام 1874.
لكن، وكما يقول المثل الشعبي: “الكثرة تغلب الشجاعة“، لم تصمد المقاومة طويلًا أمام التفوق العددي والعسكري لجيوش الخديوي، فسقطت الفاشر في قبضة المصريين، ودُمجت دارفور رسميًا في كيان السودان المصري في عهد الخديوي إسماعيل، ومع هذا السقوط، دخلت عاصمة السلطنة مرحلةً قاتمة من تاريخها، اتسمت بالتبعية وفقدان السيادة لصالح القوى الوافدة من الشمال.
غير أن رياح التمرد لم تهدأ طويلًا، فمع اندلاع الثورة المهدية عام 1883م، وجدت الفاشر نفسها مجددًا في قلب الصراع، وبعد حصار دام أسبوعًا كاملًا، سقطت المدينة بيد قوات الإمام محمد أحمد المهدي، لتبدأ دارفور فصلاً جديدًا من التقلب بين الولاء للحكم المهدوي والتمرد عليه، وخلال تلك الفترة، سلّم الحاكم النمساوي رودولف فون سلاطين –المعيَّن من قبل الإدارة التركية-المصرية– المدينة لقوات المهدي، لينتهي بذلك عهدٌ من السيطرة الأجنبية ويبدأ عهدٌ آخر لا يخلو من الاضطراب.
وفي خضم تلك التحولات المتقلبة، بزغ اسمٌ سيغيّر مسار التاريخ لاحقًا، السلطان علي دينار (1856-1916 وآخر سلاطين الفور، وهو ابن السلطان زكريا بن السلطان محمد الفضل) الذي نشأ في زمنٍ كانت فيه دارفور تبحث عن ذاتها بين الاستعمار والتمرد، وبعد مقتل عمه أبي الخيرات في ثورة أبي جميزة قرب زالنجي عام 1888، أصبح علي دينار الوريث الشرعي لعرش دارفور، وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره.
وتروي الروايات الشعبية أن لقبه “دينار” مشتق من العبارة المحلية “دي نار” أي “هذه نار“، في إشارة إلى شجاعته وبأسه منذ صغره، حين كان يُضرب به المثل في القوة والإقدام، أما نسبه، فيُرجَّح –بحسب ما رواه حفيده الحسين عبد الرحمن علي دينار– أنه يعود إلى الهلاليين الذين وفدوا إلى السودان قادمين من تونس، حاملين معهم تراث الفروسية والمجد العربي القديم.
من رمز السلطنة إلى أيقونة المقاومة
مع سقوط الدولة المهدية وبداية الاحتلال البريطاني للسودان عام 1898، بدأت صفحة جديدة في تاريخ دارفور. فقد أدرك السلطان علي دينار، الشاب الطموح ووريث المجد الدارفوري، أن اللحظة التاريخية تتطلب أكثر من مجرد حكمٍ محلي؛ كانت تتطلب بعثًا للروح القديمة التي صاغت دارفور ككيان مستقلٍّ وفاعلٍ في محيطه الإقليمي، ومن هنا، شرع في رسم مشروعٍ طموح يهدف إلى إحياء سلطنة الفور واستعادة استقلالها من براثن الاستعمار.
لم يكن الطريق سهلاً، فقد واجه السلطان صراعاتٍ عنيفة مع القبائل المتحالفة مع البريطانيين مثل الرزيقات وبني هلبة والزيادية، وهي مواجهات جسّدت صراعًا بين إرادة التحرر من جهة، ومنظومة الهيمنة الجديدة من جهة أخرى، لكن وسط هذا الاضطراب، نهضت الفاشر من جديد، لتصبح رمزًا للمقاومة والسيادة الوطنية، وواجهة لروح التحدي التي لم تفارق دارفور عبر العصور.
استلهم علي دينار في مشروعه تجربة الناصر صلاح الدين الأيوبي، فاستعاد مفهوم الدولة المنظمة القائمة على العدل والمشورة، أعاد ترتيب الدواوين والخدمات، نظّم القضاء والضرائب، وشكّل مجلس شورى يضم زعماء القبائل بهدف توحيد الجبهة الداخلية وصهر الانتماءات القبلية في مشروع وطني واحد، كانت تلك الإدارة بمثابة نواة لدولة حديثة، قائمة على الانضباط والمشاركة، لا على الولاءات الضيقة.
إلى جانب ذلك، انتهج السلطان دبلوماسية براغماتية هادئة، سعى من خلالها إلى كسر عزلة دارفور وفتحها على العالم الإسلامي والإفريقي، فوطّد علاقاته مع الخلافة العثمانية في إسطنبول ومع الحركة السنوسية في ليبيا، وأقام علاقات روحانية وسياسية جعلت من الفاشر مركزًا دينيًا مؤثرًا في الإسلام الإفريقي، كما أدار بحكمةٍ خلافاته الحدودية مع فرنسا، ليصل معها إلى اتفاق تهدئة عام 1910، ما عزز موقعه الإقليمي كحاكمٍ متزن يوازن بين السيف والدبلوماسية.
لكن مع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، بدا أن دارفور تتجه إلى مواجهةٍ حتمية مع الإمبراطورية البريطانية، فقد أعلن السلطان ولاءه للخلافة العثمانية ورفض الخضوع لبريطانيا، رافضًا دفع الجزية المفروضة على سلطته، وصكّ عملةً محليةً مستقلة، وبعث برسالةٍ إلى وزير الحربية العثماني أنور باشا يؤكد فيها أن “دارفور لن تخضع للكفار، وأنها ماضية في نصرة الإسلام والدفاع عن استقلالها.”
كان هذا التحدي المباشر كافيًا لإدراجه ضمن قائمة “أعداء الإمبراطورية البريطانية، فأطلقت لندن حملةً عسكرية كبرى على دارفور عام 1916 بقيادة الرائد إدلسون، استخدمت فيها الطائرات للمرة الأولى في تاريخ السودان، في إشارة إلى حجم القلق الذي أثارته سلطنة صغيرة لكنها عصيّة على الإخضاع.
قاتل السلطان بشجاعةٍ نادرة، وواجه جيشًا يفوقه عدةً وعتادًا في معركة برنجيه الشهيرة في نوفمبر/تشرين الثاني 1916، وهناك، سقط السلطان علي دينار شهيدًا ومعه نخبة من قادته، لتطوى بدمائهم صفحة آخر الكيانات الإسلامية المستقلة في إفريقيا الغربية، غير أن استشهاده لم يكن نهاية الحكاية، بل بدايةً لإرثٍ طويل من المقاومة والإصرار على الكرامة والسيادة.
فعلى امتداد القرن اللاحق، واصلت الفاشر مسيرة النضال في وجه كل أشكال التهميش والسيطرة، ففي الخمسينيات كانت من أوائل المدن التي طالبت باستقلال السودان عن الحكم الثنائي، وفي العقود اللاحقة أصبحت مركزًا للحركات الثورية التي نادت بالعدالة والمساواة، مثل حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة. وبين استقلال الأمس وثورات اليوم، ظلت الفاشر ضمير دارفور النابض، ومرآةً لصراع السودان الطويل مع فكرة السلطة المركزية.
كسوة الكعبة وسُرّة الحرم
كانت مدينة الفاشر خلال عهد سلطنة الفور محطةً رئيسيةً على طريق الحج، تؤوي قوافل الحجيج المتجهين إلى البيت الحرام عبر طرق إفريقيا الغربية، وكانت القوافل تتوقف فيها للاستراحة والتزوّد بالمؤن قبل مواصلة الرحلة الطويلة إلى مكة المكرمة، حاملةً معها الهدايا والكسوة الرمزية للكعبة المشرفة، في مشهدٍ يعكس عمق الارتباط الروحي بين دارفور والحجاز منذ قرون.
وفي أواخر القرن التاسع عشر، عزز السلطان علي دينار هذا الإرث الديني حين أنشأ في الفاشر مصنعًا لصناعة كسوة الكعبة، وظلّ يرسلها بانتظام إلى مكة المكرمة لما يقارب عشرين عامًا، كما كان يبعث القوافل المحمّلة بما يُعرف بـ “سُرّة الحرم” – صناديق الذهب والقمح والتمور – دعمًا للحرمين الشريفين، وأمر جنوده بتأمين قوافل الحجيج القادمة من غرب إفريقيا عبر أراضي دارفور، في تجسيدٍ فريدٍ للتكافل الإسلامي ووحدة المقاصد الروحية.
وتُروى في كتب التاريخ روايات تنسب إلى السلطان علي دينار حفر “آبار علي” – ميقات أهل المدينة المنورة – وتجديد مسجد ذي الحليفة القريب من المدينة، وهي روايات لم تحسمها الوثائق التاريخية بعد، لكنها تظلّ شاهدة على مكانته في الذاكرة الدينية الممتدة من السودان إلى الحجاز، ودليلاً على الدور الذي لعبته الفاشر في وصل إفريقيا بروح الإسلام وعالمه المقدّس.
شريان دارفور ووريدها الاقتصادي
تُعد الفاشر منظومة اقتصادية متكاملة، حيث يعتمد سكانها على مزيج من الزراعة والتجارة والرعي، ما جعلها قلب دارفور النابض عبر قرون طويلة، في سهولها تُزرع محاصيل مثل الدخن والفول والسمسم، وتُعد أسواقها القديمة مركزًا لتجارة المحاصيل والمواشي، حيث تتقاطع فيها قوافل الإبل والأبقار والأغنام القادمة من عمق الصحراء، وكانت تاريخيًا محطة انطلاق للقوافل التجارية التي ربطت شمال إفريقيا بوسطها، ما منحها مكانةً كبرى في تبادل السلع والثقافات، وجعلها نموذجًا حيًا للاقتصاد التقليدي المتكامل مع البيئة المحيطة.
تضم المدينة اليوم ثلاثة أسواق رئيسية هي: السوق الكبير، وسوق أم دفسو، وسوق المواشي، وتحيط بها أراضٍ صحراوية وشبه صحراوية تتخللها تلال منخفضة وكثبان رملية، تمتد على مساحة نحو 24 ألف كلم²، وتنقسم إداريًا إلى أربع وحدات: الفاشر، وريفي الفاشر، ودار السلام، وكروما. ويمنح موقعها الجغرافي الفريد — بين ليبيا وتشاد وجنوب السودان وأواسط إفريقيا — أهميتها التاريخية باعتبارها حلقة وصل بين شمال القارة وغربها، ما يعكس دورها الاستراتيجي عبر الزمن.
في قلب المدينة يقف قصر السلطان علي دينار، الذي شُيّد عام 1912 تحت إشراف مهندس تركي من بغداد، بمشاركة مهندسين مصريين ونجارين يونانيين. بُنيت جدرانه من الطوب الحراري وسُقفت أخشابه بأشجار السافانا، ليصبح اليوم متحفًا يضم مقتنيات السلطان وأسلحته، شاهدًا حيًا على مجدٍ لم يندثر، وفي الجانب الآخر، يتربع مسجد الفاشر العتيق، أقدم مساجد دارفور وأول مركز لتدريس القرآن وعلومه.
وعلى بعد نحو خمسة كيلومترات من مركز المدينة، يمتد مطار الفاشر الذي يربطها ببقية مناطق السودان من الخرطوم إلى نيالا، وفي قلب المدينة، قرب السوق الكبير، تقع آبار “حجر قدو”، التي تقول الروايات إن السلطان علي دينار أمر بحفرها بنفسه.
تُقدّر الأمم المتحدة عدد سكان مدينة الفاشر بنحو مليونٍ ونصف المليون نسمة، من بينهم ما يقارب 800 ألف نازح وفدوا إليها من مختلف مناطق ولاية شمال دارفور، هربًا من دوامة النزاع المسلح الذي يعصف بالإقليم منذ عام 2003، وفقًا لتصريحات توبي هاروارد، نائب منسق الشؤون الإنسانية في السودان (مايو/أيار 2024)
تحتضن المدينة اليوم ثلاثة معسكرات رئيسية للنازحين، تحوّلت مع مرور الوقت إلى مجتمعاتٍ قائمة بذاتها، تعكس حجم المعاناة الإنسانية التي عاشها الإقليم لأكثر من عقدين. ورغم هذه الجراح، ما تزال الفاشر تنبض بروح التنوع؛ إذ تجمع في نسيجها الاجتماعي قبائل ذات أصولٍ إفريقيةٍ وعربية، من أبرزها البرتي والفور والزغاوة، ما يجعلها مرآةً مصغّرة لتركيبة دارفور الغنية والمعقدة في آنٍ واحد.
ويتحدث سكانها مزيجًا من اللهجات المحلية إلى جانب العربية السودانية العامية، في تناغمٍ لغوي يعكس عمق التعايش التاريخي بين المجموعات المختلفة، رغم ما مرّت به من صراعات وانقسامات فرضها الواقع السياسي والعسكري.
كارثة إنسانية وأوضاع مأساوية
تحيا مدينة الفاشر منذ تصاعد الصراع حول السيطرة عليها من قبل طرفي الصراع، في مايو/أيار 2024، أوضاعًا مأساوية غاية في الكارثية، لاسيما بعدما فرضت ميليشيا الدعم السريع حصارًا مشددًا على المدينة، مانعة دخول المساعدات الإنسانية، ما أدى إلى أزمة غذائية طاحنة وعجز في توفير المياه والرعاية الصحية لسكان المدينة، الذين يقدر عددهم بنحو 250 ألف نسمة.
تعيش المدينة اليوم تحت حصار خانق واشتباكات مسلحة مستمرة، أسفر عن كارثة إنسانية متفاقمة، شملت تفشي الجوع بين السكان، وانهيار شبه كامل في القطاع الصحي، وارتفاع أعداد الضحايا نتيجة القصف العشوائي المستمر، وقد اضطر آلاف من الأسر إلى ترك منازلهم والفرار بحثًا عن ملاذ آمن بعيدًا عن دائرة العنف.
كما تعرضت لهجمات مدفعية ومتكررة بالطائرات المسيرة، طالت أحياءً سكنية ومخيمات نزوح، ما تسبب في مقتل وإصابة مئات المدنيين، كما شهدت المدينة انهيارًا شبه كامل للخدمات الإنسانية، حيث توقفت المطابخ الخيرية (التكايا)، وتضررت أغلب المستشفيات نتيجة القصف، مع نقص حاد في الأدوية والمستلزمات الطبية الأساسية.
تشير بيانات الأمم المتحدة إلى أن أكثر من مليون شخص فروا من المدينة منذ بدء الحصار المستمر لما يقارب 18 شهرًا، فيما يقدر عدد المدنيين الذين لا يزالون فيها بحوالي ربع مليون نسمة، وسط هذه الأزمة، تبقى الفاشر رمزًا لصمود المدنيين الذين يكافحون للبقاء على قيد الحياة في مواجهة الحصار والعنف اليومي.
وهكذا تحوّلت الفاشر من قلبٍ نابض في غرب إفريقيا، مركز للتجارة والتعليم والروحانية، ومدينة أرسلت كسوة الكعبة وقوافل “سُرّة الحرم” لما يقارب عقدين، إلى مدينة تواجه الموت البطيء تحت وطأة النزاع والحصار، ومن سلطنة كانت تحتضن الأسواق المزدحمة والقوافل العابرة، إلى أرض قاحلة تتسول لقمة العيش، وتختبئ بين أنقاضها عائلات تبحث عن الماء والغذاء والنجاة.
وبعد عقود من الصمود والاستبسال في مواجهة المستعمر، صارت الفاشر اليوم مسرحًا لتصفية الحسابات، وساحة صراع بين الجنرالات الباحثين عن النفوذ، بينما المدنيون هم ضحايا بلا خيار، عاجزون عن مقاومة الموت اليومي أو الانتهاكات التي تحيط بهم من كل جانب.
في الأخير.. لم تكن الفاشر يومًا مجرد نقطة على الخريطة؛ كانت رمزًا للسيادة والصمود، وملتقى للتجارة والثقافة والدين، وقد صنعت مجدها بعرق أجيالها، لكنها اليوم ومع استمرار الحصار والمعارك، باتت مرآة لتاريخ السودان نفسه؛ صراع أبدي بين من يسعى للسيطرة ومن ينفذ اجندات على حساب أشلاء بني وطنه، بين إرثٍ حضاري ممتد وواقعٍ مأساوي يفرضه النزاع المستمر.