بُعيد إعلان مكتب رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو رسميًا تكليف ديفيد زيني برئاسة جهاز الأمن العام الإسرائيلي “الشاباك”، انخرط الأخير مباشرةً في جلسات تقدير الموقف الحكومية، في واحدةٍ من أكثر المراحل حساسيةً في عمر الحكومة اليمينية الحالية، خصوصًا بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار الهش في قطاع غزة.
لم يكن تعيين زيني حدثًا عابرًا أو روتينيًا كما في تعيينات سابقيه من قادة الجهاز، بل جاء في لحظةٍ سياسيةٍ حرجةٍ يسعى فيها نتنياهو لاستثمار الصدمة التي أحدثها فشل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، والذي كشف عمق الإخفاق الأمني والعسكري والسياسي في إسرائيل. هذا الفشل فتح الباب أمام حكومة اليمين المتطرف لمحاولة إعادة هندسة بنية الدولة العميقة، التي تُشكّل المنظومة الأمنية-العسكرية أحد أذرعها الأكثر تأثيرًا.
في هذا السياق، يُنظر إلى زيني -الآتي من خارج المؤسسة التقليدية للشاباك، وصاحب الخلفية الصهيونية الدينية والسجل العسكري الدموي- كخيارٍ أيديولوجي بامتياز. فهو يجمع بين الولاء لمشروع نتنياهو السياسي واستعداده للعمل على جبهتين متوازيتين: الأولى، ملاحقة معارضي الحكومة من داخل المنظومة الإسرائيلية نفسها، والثانية، تشديد القبضة الأمنية على الفلسطينيين في كل أماكن تواجدهم، من الداخل المحتل إلى قطاع غزة، وصولًا إلى الضفة الغربية، التي كان أول قراراته الرمزية بشأنها إلغاء تسميتها الرسمية واستبدالها بمصطلح “يهودا والسامرة”.
أصوله ونشأته
وُلد ديفيد يوسف زيني في مطلع عام 1974 بمدينة القدس المحتلة، ونشأ في مدينة أسدود ضمن أسرةٍ يهوديةٍ متدينةٍ من أصولٍ فرنسية، تعود جذورها إلى الجالية اليهودية في الجزائر، فقد كان جده من أبرز حاخاماتها، بينما شغل والده منصب حاخام حيٍّ في أسدود، ما جعل البعد الديني حاضرًا بقوةٍ في تكوينه منذ الصغر.
ينتمي زيني إلى عائلةٍ تجمع بين الحضور الديني والنشاط العسكري، فعمه الحاخام إلياهو رحميم زيني يُعد من الشخصيات الدينية المعروفة في مدينة حيفا، أما شقيقه بتسلئيل فينشط في قضايا الهوية اليهودية، فيما يحمل شقيقه الآخر، إسحاق زيني، رتبة عقيدِ احتياطٍ في جيش الاحتلال، وقد حصل على وسامِ شرفٍ تقديرًا لدوره في عملية “السور الواقي” بالضفة الغربية عام 2002.
يعيش ديفيد زيني اليوم في مستوطنة “كيشت” بالجولان السوري المحتل مع زوجته وأطفاله الأحد عشر، في بيئةٍ تُجسد مزيجًا من النزعة الدينية القومية والتوجهات الاستيطانية التي تهيمن على التيار الصهيوني الديني.
تلقى زيني تعليمه في مؤسساتٍ دينيةٍ يهوديةٍ منذ مراحله الأولى، فبدأ دراسته في مدرسة “تلمود توراة مواشا” بالقدس، ثم انتقل إلى المدرسة الدينية الثانوية في الجولان المحتل، قبل أن يواصل تعليمه في المعهد التحضيري الديني “كشت يهودا” ومدرسة “شافي” الدينية في الخليل.
لاحقًا، اتجه إلى المجال الأكاديمي، فحصل على درجة البكالوريوس في التربية، ثم الماجستير في الأمن القومي والإدارة العامة من كلية الأمن القومي التابعة للجيش الإسرائيلي، كما أنه من خريجي برنامج “تشرشل” للأمن القومي في معهد أرغمان بالقدس المحتلة.
سجل عسكري حافل بالقتل والدماء
بدأ ديفيد زيني مسيرته العسكرية عام 1992 في صفوف وحدة “سييرت متكال”، إحدى أبرز وحدات النخبة الإسرائيلية المعروفة بعملياتها الخاصة والاستخبارية خلف خطوط الخصوم، قبل أن ينتقل إلى الكتيبة 12 في لواء غولاني، حيث تولى قيادة فصيلٍ ما بين عامي 2006 و2008. ومن هناك، بدأ صعوده السريع في هرم القيادة العسكرية الإسرائيلية.
قاد زيني الكتيبة 51 ضمن اللواء نفسه، ثم تولى رئاسة وحدة “إيغوز” الخاصة التابعة للواء الكوماندوز بين عامي 2008 و2010، وهي وحدةٌ تشتهر بتنفيذ عمليات اغتيالٍ وتصفيةٍ ضد المقاومين الفلسطينيين واللبنانيين، ما أكسبه سمعةً دمويّةً داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية.
وفي السنوات التالية، تدرج زيني في مواقعَ أكثر تأثيرًا، فتولى قيادة لواء ألكسندروني التابع لفرقة الجليل بين عامي 2011 و2014، وتزامن ذلك مع إشرافه على مركزِ التدريب على إطلاق النار في قاعدة تساليم، كما تولى منصبَ ضابطِ العمليات في قيادة المنطقة الوسطى، ثم عُيِّن لاحقًا قائدًا لفرقة “عيدان”، وهي من أبرز فرق المناورة في الجيش الإسرائيلي.
برز اسمه خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2014 (عملية الجرف الصامد)، عندما تم استدعاؤه لقيادة لواء غولاني ميدانيًا بعد إصابة قائده غسان عليان في معارك حيّ الشجاعية شرقي مدينة غزة، وهي واحدةٌ من أكثر المعارك دمويةً في تلك الحرب، حيث قُتل وأُصيب العشرات من جنود اللواء في مواجهة المقاومة الفلسطينية.
وفي عام 2015، أُوكلت إليه مهمةُ تأسيسِ لواء “عوز” للكوماندوز، ليصبح أولَ قادته حتى أغسطس/ آب 2017، وقد جمع اللواء تحت مظلته وحداتِ النخبة مثل “إيغوز” و”مغلان” و”دوفدفان” و”ريمون”، بهدف تعزيز القدرات الهجومية للجيش الإسرائيلي وتنفيذ عملياتٍ خاصةٍ ومعقدةٍ خلف الحدود.
عاد زيني لاحقًا لقيادة لواء عيدان مجددًا بين عامي 2018 و2020، قبل أن يُعيَّن قائدًا لمركز التدريب العام في الجيش الإسرائيلي بين عامي 2020 و2022، وهو منصبٌ يُعد من أكثر المواقع تأثيرًا في صياغة العقيدة القتالية للجيش.
في مايو/ أيار 2023، أعدّ زيني تقييمًا شاملًا للجهوزية العسكرية على حدود قطاع غزة، حذّر فيه من سيناريو محتملٍ يتضمن تسللًا منسقًا من عدة محاور في ظل مفاجأةٍ استخبارية، وهي الرؤية التي تحققت فعليًا بعد أشهرٍ قليلةٍ، في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول من العام نفسه.

ورغم مكانته العسكرية، واجه زيني رفضًا واسعًا في أوساط اليهود الحريديم (الأرثوذكس المتشددين)، بعد قيادته مشروعَ تأسيسِ كتيبة “الحشمونائيم” الهادفة إلى تجنيد الحريديم في صفوف الجيش الإسرائيلي، ما أثار موجةَ غضبٍ في صفوفهم.
وبلغ التوتر ذروته في يوليو/ تموز 2024، عندما تعرض زيني، إلى جانب العميد شاي طيب، لهجومٍ من حشدٍ من الحريديم في مدينة بني براك قرب تل أبيب، حيث حاصروا سيارتهما ورشقوها بالزجاجات، قبل أن تتدخل الشرطة لإنهاء الحادثة.
بهذا المسار العسكري الطويل، راكم زيني سجلًا دمويًا جعله من أكثر الضباط الإسرائيليين ارتباطًا بعمليات القتل والاقتحام، ومن أكثرهم قربًا من العقيدة العسكرية التي ترى في القوة المفرطة وسيلةً لتحقيق الردع والسيطرة.
تعيين مثير للجدل
في 22 مايو/ أيار 2025، أعلن رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو تعيين الجنرال ديفيد زيني رئيسًا جديدًا لجهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك)، خلفًا لرونين بار، وذلك بعد قرارٍ مثيرٍ للجدل بإقالة الأخير، رغم أن المحكمة العليا الإسرائيلية اعتبرت الإقالة “غير قانونية”.
أحدث القرار صدمةً داخل إسرائيل، ليس فقط لأنه جاء في توقيتٍ سياسيٍّ وأمنيٍّ حساس، بل لأنه كسر تقليدًا راسخًا يقضي بتعيين رئيس الشاباك من داخل الجهاز نفسه، وليس من خارجه. إذ أعربت المستشارةُ القضائيةُ للحكومة والمدعيةُ العامة غالي بهاراف-ميارا عن تحفظاتها العلنية على القرار، مؤكدةً أن نتنياهو تجاوز الصلاحيات القانونية ولم ينتظر استكمال المراجعة المطلوبة لقرار الإقالة.
وبحسب هيئة البث الإسرائيلية (كان)، فقد تفاجأت قيادة الجيش الإسرائيلي بالقرار، إذ لم يُبلّغ رئيسُ الأركان إيال زامير به إلا قبل دقائق من صدور البيان الصحفي الرسمي لمكتب نتنياهو، ولم يكن طرفًا في عملية اتخاذ القرار أو مشاوراتها. وقد استدعى زامير زيني لاحقًا لـ”محادثة توضيح”، في خطوةٍ عكست عمق التوتر بين المؤسستين السياسية والعسكرية.
ترددت أنباءٌ لاحقةٌ عن إقالة زيني من صفوف الجيش على خلفية هذا التعيين، غير أن المتحدثَ باسم الجيش نفى الأمر، مؤكدًا أن “الجنرال ديفيد زيني لم يُفصل من الجيش الإسرائيلي، وإنما تم الاتفاق على تقاعده في ضوء تعيينه رئيسًا لجهاز الأمن العام”، واصفًا إياه بأنه “ضابطٌ محترمٌ يتمتع بامتيازاتٍ عديدة”.
وجاء هذا التعيين بعد يومٍ واحدٍ فقط من قرار المدعية العامة بهاراف-ميارا منع نتنياهو من تعيين رئيسٍ جديدٍ للشاباك قبل استكمال الفحص القانوني لقرار الإقالة، معتبرةً أن خطوة نتنياهو تمثل “تضاربًا في المصالح”، وأن “عملية التعيين يشوبها خللٌ قانونيٌّ واضح”.
وزادت الشبهات تعقيدًا بعدما كشفت تقاريرٌ عبريةٌ أن الشاباك يجري تحقيقًا مع مكتب نتنياهو حول علاقاتٍ ماليةٍ مزعومةٍ مع مسؤولين قطريين في قضيةٍ عُرفت باسم “قطر غيت“، ما جعل من القرار مثارَ تساؤلٍ حول نواياه الحقيقية.
في المقابل، واجه التعيين هجومًا واسعًا من المعارضة الإسرائيلية. إذ دعا يائير لابيد، زعيمُ المعارضة، زيني إلى رفض المنصب “طالما لم تبت المحكمة العليا في قانونية الإقالة والتعيين”. كما أعلنت منظمة “الحركة من أجل جودة الحكم في إسرائيل” نيتَها التوجه إلى القضاء لإبطال التعيين، فيما أشارت صحيفة “يديعوت أحرونوت” إلى أن لجنة غرونيس، المسؤولة عن المصادقة على التعيينات، تلقت أكثر من 10 آلاف التماسٍ ضد تعيين زيني، وهو رقمٌ غير مسبوقٍ في تاريخ الجهاز.
وبعد جدلٍ استمر عدةَ أشهر، صادقت الحكومةُ الإسرائيلية مطلعَ أكتوبر/ تشرين الأول 2025 بالإجماع على تعيين زيني رسميًا رئيسًا للشاباك، لتُغلق صفحةً من الخلافات القانونية والسياسية التي رافقت القرار منذ لحظاته الأولى.
ويُعد جهاز الشاباك أحد الأذرع الثلاثة الرئيسية للاستخبارات الإسرائيلية، إلى جانب الاستخبارات العسكرية (أمان) والاستخبارات الخارجية (الموساد)، وهو الجهاز المعني بالأمن الداخلي ومكافحة التهديدات من الداخل الفلسطيني، ويخضع مباشرةً لسلطة رئيس الحكومة، ما يمنحه أهميةً استثنائيةً في موازين القوة داخل النظام الإسرائيلي.
“فشل جنوني” ورغبة في الحسم
لم يكن جهاز الشاباك يومًا بعيدًا عن ملاحقة الفلسطينيين واستهدافهم في تفاصيل حياتهم اليومية، إذ يقع جوهر عمله في مراقبة المجتمع الفلسطيني وتفكيكه من الداخل عبر أدواتٍ متعددةٍ تشمل التجنيدَ والاختراقَ والهندسةَ الاجتماعيةَ والسياسيةَ والاقتصادية.
لكن مع وصول الجنرال ديفيد زيني إلى رئاسة الجهاز، يبدو أن الشاباك مقبلٌ على مرحلةٍ جديدةٍ أكثر تطرفًا وعدوانية، في ظل رؤيةٍ أمنيةٍ صِداميةٍ تتعامل مع الفلسطينيين كتهديدٍ وجوديٍّ لا يمكن احتواؤه إلا بالقوة.
يمثل تعيين زيني، القادمِ من خارج الجهاز، تحولًا غير مسبوقٍ في مسار الشاباك، خصوصًا أن سيرته العسكرية الطويلة في وحدات النخبة مثل “غولاني” و”إيغوز” أكسبته سمعةَ الميداني الميالِ إلى الحسمِ العنيف، فيما تكتسب شخصيته بعدًا إضافيًا بسبب خلفيته الصهيونيةِ الدينيةِ وارتباطه بالمؤسسات التعليميةِ العسكريةِ ذاتِ النزعة العقائدية، ما يجعل من توليه المنصبَ حدثًا ذا رمزيةٍ سياسيةٍ وأيديولوجيةٍ تتجاوز البعدَ المهني.
ينتمي زيني إلى التيار القومي-الديني الذي يؤمن بفكرة “أرض إسرائيل الكبرى”، وهو تيارٌ يشكل اليوم العمودَ الفقريَّ للحكومة الإسرائيلية. وبالتالي، فإن توليه قيادة الشاباك يأتي في انسجامٍ تامٍّ مع العقيدةِ اليمينيةِ الحاكمة، التي تضع الأمنَ والقوةَ فوق أيِّ مسارٍ سياسيٍّ.
اختيار نتنياهو لزيني لم يكن مصادفة، فالرجل يجمع بين الولاءِ للمؤسسة الأمنية والانتماءِ الأيديولوجي لليمين الصهيوني، ما يجعله خيارًا مثاليًا لضمان “انسجامٍ تامٍّ” بين الجهازِ الأمنيِّ الداخلي وخطِّ الحكومةِ المتشدد، خاصةً في مرحلة ما بعد الحرب على غزة، التي تتجه فيها إسرائيل نحو فرض “واقعٍ أمنيٍّ دائمٍ” بدلَ أيِّ صيغةِ تسويةٍ سياسية.
في تسجيلٍ مسرّبٍ خلال لقائه بمستوطنين قرب غزة، وصف زيني ما جرى في 7 أكتوبر/ تشرين الأول بأنه “فشلٌ جنونيٌّ، أسوأ من حرب يوم الغفران”، مضيفًا أن “المعركة لم تنتهِ بعد، ولدينا طريقٌ طويلةٌ حتى القضاء على حماس”، في تصريحٍ يعكس بوضوح عقليته العسكريةَ الحسميةَ التي ترى في الحربِ خيارًا مفتوحًا لا يُغلق إلا بالانتصارِ الكامل، ويؤشر إلى أن عهده في الشاباك سيكون عنوانُه المواجهةُ لا الاحتواء.
هذا التوجه يُكرّس أيضًا تحولًا داخليًا في بنية الشاباك، الذي كان – في مراحل سابقة – يتبنى مقاربةً مزدوجةً تجمع بين السيطرةِ الميدانية والتنسيقِ الأمنيِّ والسياسي. أما اليوم، فكلُّ المؤشرات تدل على أن الجهاز سيواصل الانزياحَ نحو تشديدِ القبضةِ الأمنيةِ في الضفةِ الغربية، وتوسيعِ نطاقِ عملياته في الداخل الفلسطيني، مع رفعِ مستوى التنسيقِ الأمني إلى حدودٍ غيرِ مسبوقةٍ تحت شعار “إخماد أيِّ تهديدٍ مبكرًا”.
وتبدو الساحات الفلسطينية في عهد زيني ماضيةً نحو مزيدٍ من التصعيد. ففي الضفة الغربية، يُتوقَّع أن تتزايد الاعتقالاتُ والملاحقاتُ الميدانيةُ تحت عنوان “الوقاية الأمنية”، خاصةً بعد أن أصدر زيني أولى تعليماته بمنع استخدامِ مصطلح “الضفة الغربية” واستبداله بـ”يهودا والسامرة” في وثائق الشاباك، في خطوةٍ رمزيةٍ تعكس تبنيه للروايةِ التوراتيةِ الصهيونية.
أما في قطاع غزة، فمن المرجح أن يسعى إلى تشديدِ الخناقِ الاستخباراتيِّ ومراقبةِ مفاصلِ الحياةِ اليومية، ضمن سياسة “منع تعافي المقاومة”، بينما في الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، قد يتجه إلى تعزيزِ القمعِ السياسيِّ ضد الحراكِ الوطنيِّ والاجتماعي، والقبولِ بمطالبِ وزيرِ الأمنِ القومي إيتمار بن غفير بانخراطٍ أكثرَ للشاباك في ملاحقةِ فلسطينيي الداخل، انسجامًا مع رؤيته التي تعتبر الفلسطينيين في الداخل المحتل “تهديدًا بنيويًا للأمن القومي الإسرائيلي”.
جنوح المؤسسات المستمر نحو اليمين
تُضاف حلقةُ التغيير في جهاز الشاباك إلى سلسلةِ التغييرات التي يُجريها بنيامين نتنياهو على رأس مؤسساتِ الدولةِ الإسرائيلية، في إطار مسعاه لتطويع أجهزةِ الحكمِ والأمنِ لخدمة مشروعه السياسي، ودفعِها أكثرَ نحو اليمينيةِ المتطرفة، المرتبطةِ به شخصيًا وبنهجه الذي بات يمكن تسميتُه بـ”النتنياهوية”.
يُشكل الشاباك في هذا السياق ركنًا أساسيًا في استراتيجيةِ نتنياهو لإعادة تشكيل الدولةِ العميقةِ في إسرائيل، لكونه الجهازَ الذي يتقاطع مع الملفاتِ الأكثر حساسيةً: الأمنِ الداخلي، والعلاقاتِ السياسية، والتحقيقاتِ التي تطال مكتبَ رئيسِ الحكومة نفسه.
فنتنياهو يسعى، من جهة، إلى تحييدِ الجهازِ عن ملاحقةِ قضاياه الشخصية، بما في ذلك التحقيقاتُ المفتوحةُ بشأنِ شبهاتِ فسادٍ وعلاقاتٍ ماليةٍ مشبوهة. ومن جهةٍ أخرى، يريد تسخيرَ قدراتِ الشاباك في ملاحقةِ معارضيه وإخمادِ الحراكِ الداخليِّ المتصاعد ضده، ولا سيما في ظل تفاقمِ الانقسامِ المجتمعيِّ والسياسيِّ الذي يشهده مجتمعُ الاحتلالِ منذ سنوات.
كما أن طبيعةَ التقييماتِ الأمنيةِ التي يُقدمها الشاباك للمستوى السياسي تمنح الجهازَ تأثيرًا كبيرًا على مسارِ القرارِ الإسرائيلي. لذلك، يُصر نتنياهو على أن تكون هذه التقييماتُ منسجمةً مع توجهاته، سواء اتجهت نحو التصعيد أو التهدئة، بحيث تبقى خاضعةً لحساباته السياسية الخاصة ومصلحته في البقاء في الحكم، أكثر من كونها نابعةً من تقديراتٍ مهنيةٍ مستقلة.
حتى الآن، يبدو ديفيد زيني متناغمًا تمامًا مع هذا التوجه، فهو يمثل نموذجَ الضابطِ العقائديِّ الذي يجمع بين الولاءِ الأمني والانتماءِ الأيديولوجيِّ لليمين. لكن التجاربَ السابقة، لا سيما تجربةُ إيال زامير في رئاسةِ أركانِ الجيش، تُظهر أن حتى أكثرَ الجنرالاتِ حرصًا على التماهي مع المستوى السياسي قد يجدون أنفسَهم عاجلًا أو آجلًا في صدامٍ مع نتنياهو عندما تتعارض التقييماتُ المهنيةُ مع رغباته السياسية.

في نهاية المطاف، يبقى الفلسطينيون الطرفَ الأكثر تضررًا من هذا التحولِ البنيويِّ في مؤسساتِ الاحتلال، إذ تُرحّل إسرائيل دائمًا أزماتها الداخليةَ وصراعاتِها السياسيةَ إلى الساحة الفلسطينية. فكلما ازداد التوترُ داخل الكيان، كانت النتيجةُ مزيدًا من التصعيدِ الميدانيِّ والدماءِ الفلسطينيةِ المسفوكة، في دورةِ عنفٍ تتغذى على الأزماتِ الإسرائيليةِ نفسها.