يُعدّ الأدب المغربي، منذ الاستقلال، واحدًا من أكثر الحقول الثقافية التصاقًا بالتحولات الاجتماعية والسياسية التي عرفها البلد، فقد كان، بشقَّيه السردي والشعري، وسيلةً لتسجيل ما لم يُدوَّن في التاريخ الرسمي، وفضاءً لمساءلة السلطة وكشف هشاشة الواقع الاجتماعي، فتحوّل إلى مرآةٍ ومختبرٍ وذاكرةٍ تؤرشف أحاسيس الناس وتفاصيل حياتهم بطرقٍ لا تُبلورُها التقارير الرسمية.
وقد جعلت الانتفاضات التي شهدها المغرب، من أحداث الدار البيضاء سنة 1965 إلى انتفاضة 20 يونيو 1981، وما تلاها من اضطرابات خلال سنوات الجمر والرصاص، من الكلمة فعلًا مقاوِمًا ووسيلةً للتعبير عن الرفض والإدانة، وذلك من خلال أعمال روائية تُعيد الاعتبار وتمنح صوتًا للمهمّشين والبسطاء الذين غيّبهم التاريخ الرسمي.
الأدب كذاكرة مضادّة للتاريخ الرسمي
يتجاوز الأدب حدودَ التاريخ الرسمي وجموده، إذ لا يكتفي بتوثيق ما جرى وفق ما تسمح به السلطة، بل ينفذ إلى المناطق المعتمة والمنسيّة في الذاكرة الجماعية، كاشفًا المسكوتَ عنه في الوقائع التاريخية.
فالرواية، مثلًا، بما تمتلكه من حرية تخييلٍ، تكتب التاريخ الإنساني، لا من وجهة نظر المنتصرين، وإنما من زاوية المهمَّشين والمقصيّين. وفي هذا السياق، تلعب دورًا كبيرًا في استعادة ما أغفلته الوقائع الرسمية، ليغدو السرد الروائي مساحةً لإحياء ما مات في النصوص التاريخية، وتحرير الإنسان من اختزاله في الوقائع، إلى وجوده الكامل في التجربة الإنسانية.
فثمّة جانب من التاريخ ظلّ غائبًا عن السجلات التي دوّنها المؤرّخون، إذ لم تلتفت تلك الكتابات لتفاصيل الناس في حياتهم اليومية أو لأفراحهم البسيطة، وأوجاعهم الخفية، وأحلامهم الصغيرة التي لم تجد مكانًا في دفاتر الوقائع الكبرى. هنا تتقدّم الرواية لتسدّ هذا الفراغ، فلا تكتفي بإعادة سرد ما حدث، وإنما تحوّل التاريخ إلى حياةٍ متخيّلة، يُمنح فيها الصوت للفقراء والمقهورين والمنسيّين على هوامش الحكاية الرسمية.
من هذا المنطلق، اتّخذ الكتّاب المغاربة من نصوصهم فضاءاتٍ لقول المسكوت عنه، فكانت الكتابة فعلًا للمقاومة ضد النسيان، فلأن “سنوات الجمر والرصاص”، التي امتدّت من الستينيات إلى التسعينيات، كانت فترة مظلمة في تاريخ المغرب الحديث، وتميّزت بالقمع السياسي، والاعتقالات التعسفية، والتعذيب، والاختفاء القسري، لم يغفل الأدب المغربي عن هذه الحقبة القاسية، فحاول توثيقها وإدانتها وفضح ممارساتها.
حيث ظهرت أعمال أدبية، أغلبها في شكل سير ذاتية وروايات، كشفت عن فظاعة التجربة داخل السجون والمعتقلات، ومن أبرزها رواية “تزممارت الزنزانة رقم 10” لأحمد المرزوقي، التي توثّق سنوات قضاها في سجن تزممارت سيّئ السمعة، والسيرة الذاتية لمحمد الرايس “من الصخيرات إلى تازمامارت: تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم”، و”العريس” لصلاح الوديع… وهي أعمال، إلى جانب أخرى، تمثّل صرخة ضد الظلم، ومحاولةً لاستعادة الكرامة الإنسانية، وإعادة الاعتبار لضحايا تلك الفترة.
الرواية كأداة لتوثيق الانتفاضات
كانت الدار البيضاء، العاصمة الاقتصادية للمغرب، مسرحًا لانتفاضات شعبية بارزة خلال عامي 1965 و1981. هاتان الحادثتان، اللتان نشأتا كاستجابة للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الصعبة، وجدتا طريقهما إلى أعمال أدبية عديدة، حيث سلّطت بعض الروايات الضوء على الأسباب الكامنة وراءهما، وعلى تأثيرهما في المجتمع.
فعلى سبيل المثال، تُعتبر رواية “رجال الدار البيضاء” لأحمد المديني، التي صدرت في عام 2021، عملًا مهمًا يرصد تحوّلات المدينة في السبعينيات، مع تركيز خاص على انتفاضة 20 يونيو 1981. يصف المديني في روايته الأحداث الدامية التي شهدتها أكبر مدينة في المغرب، ويكشف عن حجم القمع والفقدان الإنساني الذي عانته على خلفية تلك الأحداث. وتعكس هذه الرواية حرفية الكاتب، إذ حوّل من خلالها أحمد المديني الحدث التاريخي إلى شهادة أدبية على فظاعة ما حدث في تلك الفترة.
وإلى جانب أحمد المديني، حاول عبد القادر الشاوي في روايته “مربع الغرباء – 1981” (2023) أن يعيد فتح أحد أكثر الجروح إيلامًا في التاريخ الاجتماعي للمغرب، مسترجعًا أجواء انتفاضة 20 يونيو، حيث اتخذ من تلك الفترة مدخلًا لسردٍ إنسانيّ يعرّي الخوف والعنف، ويحوّل المدينة إلى مسرحٍ للتصادم بين السلطة والمجتمع.
ومن خلال شخصياتها، قدّم الشاوي لوحةً نفسية وسياسية عن جيلٍ تعرّض للخذلان والقمع، فتتجاورُ في النص مشاهد الرصاص والمطاردات مع لحظات التأمل في مصير الإنسان المغربي، حين يجد نفسه محاصرًا بين قسوة الواقع الاجتماعي وسطوة الاستبداد. ويبرز هذا من خلال شخصية الصحافية “مارية”، التي تكشف، عبر تحقيق صحافي، عن المقبرة الجماعية التي دُفن فيها ضحايا الانتفاضة سرًّا، في مكانٍ طُمست معالمه بقراراتٍ رسمية.
لا تكتفي رواية “مربع الغرباء – 1981” باستحضار الماضي، بل تحاول أيضًا قراءة مرحلة “الإنصاف والمصالحة” بوصفها تسوية رمزية أكثر منها عدالة فعلية، إذ تُظهر كيف جرى التعامل مع الذاكرة الجماعية ببرودٍ إداريّ، لا بروح مساءلة أو اعتراف. فالكشف عن المقابر الجماعية يتمّ في الرواية كفعلٍ يُوازي الجريمة في قسوته، إذ تُنتهك رفات الضحايا من جديد حين تُستخرج دون تحقيق علمي أو تحديد للهويات، في إشارة إلى استمرار منطق السلطة الذي يفضّل دفن الأسئلة بدل الإجابة عنها.
هذه الأعمال، وغيرها، تُظهر قيمة الأدب المغربي كأداة توثيقية، لأنه يسمح لنا برؤية الانتفاضات من الداخل، لا كأرقام أو وقائع مجردة، بل كتتابع من الحالات النفسية والاجتماعية التي تؤدي إلى الانفجار. فقراءة انتفاضتَي 1965 و1981 من خلال الأدب تكشف قصص الناس البسطاء، ومعاناتهم قبل وأثناء وبعد الأحداث التي ما زالت تمثل جرحًا مفتوحًا في الذاكرة المغربية الحديثة. وإذا كان الغرض من التوثيق هو الحفاظ على فهم إنساني للتاريخ، فإن الأدب يظلّ، بلا منازع، من أقوى أدوات ذلك التوثيق.
سنوات الجمر والرصاص بين الشعر والمسرح
ارتبط الشعر المغربي ارتباطًا وثيقًا بهموم المغاربة، وبرز من بين الأصوات الشعرية التي تفاعلت بعمق مع “سنوات الجمر والرصاص” الشاعر محمد بنيس، الذي شكّلت كتاباته استجابة جمالية لتجربة سياسية قاسية. فقد جعل من الشعر فعلًا مقاومًا، وسيلة لإعادة الاعتبار للذات الإنسانية، عبر لغة تُعيد للإنسان كرامته وقدرته على الحلم وسط القمع والخذلان.
في السياق ذاته، تُعد التجربة المسرحية المغربية جزءًا محوريًا من الذاكرة الثقافية التي استحضرت تلك المرحلة، وتجسدت هذه الذاكرة بقوة في أعمال الشاعر والمثقف عبد اللطيف اللعبي، الذي واجه أهوال السجن والمنفى عبر الإبداع، فحوّل معاناته الشخصية إلى شهادة إبداعية تعبّر عن جيلٍ كامل. فقد قضى اللعبي أكثر من ثماني سنوات في السجن بين عامي 1972 و1980 بسبب انخراطه في صفوف اليسار المغربي، وجعل من تجربته مادة فنية مفعمة بالتأمل والتمرد.
انعكست ظلال السجن في ديوانه الشعري “أزهرت شجرة الحديد”، كما تجلّت بقوة في مسرحيته “تعميد ابن آوى” التي كتبها بالفرنسية سنة 1985 ونشرتها دار لارماتان عام 1987. هذه المسرحية لا تكتفي بتوثيق العنف والتعذيب، بل تسعى إلى إعادة بعث الذاكرة من داخل الجسد الإنساني المنتهَك، عبر لغة مسرحية تتجاوز التسجيل الوثائقي نحو التخييل الفني.
ما يميز معالجة اللعبي أنه لا يتكلم من موقع الضحية، بل من موقع المبدع الذي يُحوّل الألم إلى طاقة فكرية وجمالية. فاستعادة تلك المرحلة، بالنسبة له، لا تكون عبر السيرة الذاتية فقط، بل عبر خلق متخيّل مسرحي يعيد تأويل الماضي بلغة الفن، ويفتح الباب أمام الذاكرة الجماعية كي تواجه نفسها.
إن الأدب المغربي، كما يتجلى في أعمال شعرية ومسرحية مثل هذه، استطاع أن يحوّل التجربة السياسية إلى تجربة إنسانية وثقافية ذات بُعد كوني. ليصبح بذلك سجلًّا موازيًا للتاريخ الرسمي، لكنه أكثر صدقًا ودفئًا، لأنه يُكتب من داخل المعاناة، لا من فوقها. بعض الكُتّاب عاش تلك المآسي داخل الزنازين، وآخرون ساءلوا الماضي لفهم الحاضر، ومع ذلك فإن الذاكرة لا تزال مفتوحة. فالرواية المغربية المعاصرة ما زالت مثقلة بأسئلة الماضي، ليس باعتباره زمنًا انقضى، بل كجراحٍ مفتوحة تتفاعل مع الحاضر وتستشرف المستقبل.