تعاني سوريا منذ سنواتٍ ظروفًا اقتصاديةً واجتماعيةً صعبة، تتسم بانعدام الأمان الوظيفي وتردّي الحقوق القانونية والاجتماعية، وهو ما دفع آلاف السوريين إلى اللجوء للعمل المياوم (يومًا بيوم) لتأمين لقمة العيش ودعم أسرهم في ظل محدودية فرص العمل الملائمة لمؤهلاتهم وخبراتهم، أو غياب الشهادات التعليمية اللازمة، فضلًا عن الحاجة الملحّة لتغطية الاحتياجات اليومية.
ويضمّ هذا القطاع طيفًا واسعًا من المهن اليومية، إضافةً إلى أشخاصٍ من خلفياتٍ عمريةٍ ومهنيةٍ متنوعة، بما في ذلك موظفون لا تكفي رواتبهم لتغطية مصاريفهم، ويضطرون للعمل بشكلٍ إضافي.
ويتصف العمل المياوم بأجرٍ زهيدٍ غالبًا مقارنةً بالجهد المبذول وساعات العمل الطويلة، ويتنوع بين النجارة والخياطة والبناء والزراعة الموسمية والعمل في المحلات والمطاعم أو البيع المتجول ونقل البضائع، لكنه يفتقر في أغلب الأحيان إلى العقود الرسمية التي تضمن الحقوق الأساسية، مثل الإجازات المأجورة والتعويضات الصحية ومعاشات التقاعد، إضافةً إلى تحمّل نفقات التنقّل.
في ظلّ هذه الظروف يعيش العمال حالةً دائمةً من القلق والخوف من فقدان عملهم المفاجئ بسبب مرضٍ أو ظرفٍ شخصي، إذ يعني أي انقطاعٍ توقّف مصدر الدخل الوحيد لديهم، ما يعمّق هشاشتهم الاقتصادية ويجعلهم معرضين للطرد أو الاستبدال دون سابق إنذار أو تعويض.
وجوه العمال المياومين في المدن والقرى السورية
تتجلّى معاناة العمال المياومين في مختلف مناطق سوريا بصورٍ متعددة، توحّدها قسوة المعيشة وانعدام الأمان الوظيفي؛ فمن دمشق إلى حلب، ومن حمص وحماة ودرعا إلى الأرياف البعيدة، يبدو يوم هؤلاء العمال كسلسلةٍ متواصلةٍ من التحديات التي تتطلب صبرًا كبيرًا وقدرةً على التكيّف مع واقعٍ اقتصاديٍّ قاسٍ لا يرحم.
في ظلّ ظروف الحرب والاعتقال التي عانى منها السوريون، وجدت كثيرٌ من النساء أنفسهنّ مضطراتٍ للخروج إلى سوق العمل لتأمين لقمة العيش لأسرهنّ. تحاول أم خالد العمل يوميًا أو على الأقل خمسة أيام في الأسبوع، لتوفّر الطعام لأطفالها الأربعة، من خلال الذهاب إلى المنازل والمكاتب والمعامل والمدارس لتنظيفها. تقول وهي تنظّف أحد المكاتب: “كل يومٍ بدون عملٍ يجعلنا عاجزين عن تأمين لقمة العيش.. زوجي اعتقل قبل 10 سنوات، ولا أعلم عنه شيئًا”.
في مشهدٍ آخر، ينتظر أبو مازن مع عشرات العمال عند مدخل ساحة قدسيا من يطلبهم للعمل، فهو عامل نقل البلوك وأعمال البناء، ويعتمد على الحصول على فرصةٍ يوميةٍ لتأمين لقمة عيشه، فغيابه ليومٍ واحدٍ يعني خسارة مصدر رزقه الوحيد. يقول أبو مازن: “يشهد العمل هذه الأيام بعض الحركة بسبب عودة الناس لترميم بيوتهم، لكن الأجور ما زالت مجحفة، وساعات العمل طويلة، وغالبًا علينا تأمين الطعام بأنفسنا”.
الورش الصغيرة وخطر الإصابة
تنتشر ورش النجارة والحدادة الصغيرة في سوريا، وتعتمد على العمال بأجرٍ يوميٍّ، وفي كثيرٍ من الحالات يُستبدل أيّ عاملٍ يغيب عن العمل بشكلٍ فوريٍّ، دون أيّ حمايةٍ أو تأمينٍ صحيٍّ.
يحكي بلال عن تجربته قائلاً: “أعمل في ورشة تعليب، ولكن بلا أي ضمانات، وقد سبق أن عملت في معمل نسيج واضطررت للغياب بسبب مرض والدي وضرورة اصطحابه عدة أيام إلى المستشفى. عند عودتي فوجئت بأنه تم استبدالي مباشرة، أما صديقي الذي أُصيب في المعمل، فقد منحه صاحب العمل مبلغًا زهيدًا للعلاج، لكنه فقد إصبعه نتيجة الحادث”.
أما بالنسبة للعاملين في الحصاد والزراعة، فرغم ظروف عملهم الصعبة وشدّتها، إلا أن هذه السنة شهدت تراجعًا واضحًا في فرص العمل بسبب قلة المواسم الزراعية والحصاد، ما قلل دخلهم وأثّر على قدرتهم على تأمين لقمة العيش لأسرهم. يوضح الحاج خالد تجربته قائلاً: “أعمل بمبلغ 40 ألف ليرة، وأجرة الساعة 10 آلاف ليرة، لكن العمل غير متوفر يوميًا، وحتى ربطة الخبز لا تكفي، ولدينا عوائل نعيلها، ولا نملك أيّ تأمينٍ أو مصدر رزقٍ آخر”.
بين النص القانوني وغياب الضمانات الاجتماعية
في حديثه لموقع “نون بوست”، أوضح المحامي أديب جطبي، مدير شركة حطبي للمحاماة، أن قانون العمل السوري رقم 17 لعام 2010 يحتوي على ثغراتٍ جوهريةٍ تجعل عمال المياومة خارج نطاق الحماية القانونية والاجتماعية، إذ يفتقر القانون إلى تعريفٍ واضحٍ للعامل المياوم، ولا يُلزم أصحاب العمل بتوثيق العقود المؤقتة، مما يصعّب على العاملين إثبات العلاقة التعاقدية عند حدوث النزاع.
ويرى حطبي أن ضعف الرقابة على القطاع الخاص، وغياب حدٍّ أدنى خاصٍّ للأجور اليومية، يكرّسان حالة الاستغلال والهشاشة الاقتصادية التي يعيشها العاملون بالمياومة.
كما أكّد أن العمال المياومين يُحرَمون فعليًا من التأمينات الاجتماعية والتعويضات والإجازات المدفوعة والاستقرار الوظيفي، مما يجعلهم عرضةً للفصل التعسفي والحرمان من حقوقهم الأساسية والتقاعدية. ويرى أن الحل يكمن في تعديل قانون العمل، وتوسيع مظلة التأمينات الاجتماعية لتشمل العمال غير النظاميين عبر آلياتٍ مرنةٍ تتناسب مع طبيعة عملهم اليومية.
وأضاف أن القانون السوري يتيح للعامل المياوم، في حال غياب عقد العمل، إثبات العلاقة العمالية أمام القضاء بجميع وسائل الإثبات الممكنة، مثل الشهادة، والإيصالات، والرسائل النصية أو الإلكترونية، وسجلات الدوام، لافتًا إلى أن القضاء السوري غالبًا ما يميل إلى حماية العامل بوصفه الطرف الأضعف متى ما قدّم أدلةً متماسكةً.
وأشار المحامي إلى أن دور النقابات والهيئات المدنية في حماية هذه الفئة لا يزال محدودًا بسبب غياب الاستقلالية وضعف التمكين القانوني، رغم قدرتها على أداء دورٍ محوريٍّ في توثيق الانتهاكات، وتقديم الدعم القانوني، وتنظيم حملات التوعية، وإنشاء قواعد بيانات وطنية خاصة بالعمال المياومين.
تجارب دولية: دروس يمكن لسوريا الاستفادة منها
يتسم العمل اليومي بشروطٍ قاسيةٍ وضعفٍ في الضمانات القانونية والاجتماعية في الكثير من البلدان، حيث يعتمد العمال المياومون غالبًا على عقودٍ قصيرة الأجل أو نظام الساعات، وتحاول الدول ذات الاقتصادات القوية، مثل ألمانيا واليابان والولايات المتحدة، سدّ الثغرات في قوانين العمل لتشمل فئات العمال المياومين والموسميين ضمن مظلة الحماية الاجتماعية.
وتعمل التشريعات في هذه الدول على توسيع نطاق التأمينات الاجتماعية والتقاعدية وتعويضات إصابات العمل لتشمل العاملين بعقودٍ قصيرة الأجل أو بنظام الساعات، بما يوفّر لهم حمايةً قانونيةً وماليةً أساسيةً، ويحدّ من آثار تذبذب الدخل الموسمي.
كما تفرض هذه الدول على أصحاب العمل الالتزام بالحدّ الأدنى للأجور وضمان الإجازات المأجورة في معظم القطاعات، بهدف تعزيز إدماج العمال المؤقتين في الاقتصاد النظامي وتقليل الفوارق بينهم وبين العمال الدائمين.
وتتفاوت درجة هذا الدمج من دولةٍ إلى أخرى؛ فبينما تُخضع ألمانيا العمال الموسميين للتأمينات الاجتماعية وتفرض عليهم الحدّ الأدنى للأجور، تركّز اليابان على مبدأ “الأجر المتساوي مقابل العمل المتساوي” لضمان العدالة بين العمال المؤقتين والدائمين، في حين يقدّم التشريع الأمريكي، عبر قانون حماية العمال الزراعيين الموسميين (MSPA)، إطارًا قانونيًا ينظم الأجور والسكن وظروف العمل لهذه الفئة.
كما بدأت السلطات في عددٍ من الدول ذات الاقتصادات المتوسطة باتخاذ خطواتٍ تدريجيةٍ لمعالجة التحديات التي تواجه العمال المياومين والموسميين، عبر تطوير تشريعاتٍ تهدف إلى توسيع نطاق الحماية الاجتماعية وتقليص الفجوة بينهم وبين العمال النظاميين. على سبيل المثال، وسّعت الهند مظلة التأمين الصحي لتشمل العمال المؤقتين والموسميين، فيما طبّقت البرازيل برامج لدعم العمال في القطاعات غير الرسمية بعقودٍ قصيرة الأجل.
وتشير تقارير منظمة العمل الدولية (ILO) إلى أن نسبةً كبيرةً من القوة العاملة في هذه الدول لا تزال تعمل في قطاعاتٍ غير رسمية، مما يحدّ من استفادتها من التأمينات الاجتماعية والتقاعدية وتعويضات إصابات العمل.
وقد تبنّت بعض الحكومات سياساتٍ لتصحيح هذا الخلل، مثل فرض حدٍّ أدنى للأجور للعقود اليومية أو الموسمية، غير أن التنفيذ غالبًا ما يصطدم بضعف البنية المؤسسية والقدرة الرقابية، إضافةً إلى مقاومة بعض أصحاب العمل، ما يجعل الحماية الاجتماعية ما تزال جزئيةً وغير كافية.
تمكين الأضعف.. مفتاح إعادة بناء الاقتصاد
يمثّل الاستثمار في الفئات الضعيفة، ولا سيما العمال المياومين، أحد المفاتيح الأساسية لإعادة بناء الاقتصاد السوري على أسسٍ أكثر عدالة، فهذه الفئة تشكّل شريحةً كبيرةً من القوة العاملة، لكنها تعمل خارج أي إطار قانوني أو حماية اجتماعية، مما يجعلها من أكثر الفئات هشاشةً رغم دورها الحيوي في الحياة اليومية.
كما أنّ تحسين أوضاعهم لا يقتصر على البعد الإنساني، بل يحمل بعدًا اقتصاديًا مباشرًا، إذ يتيح تحويلهم من قوةٍ مهملةٍ إلى طاقةٍ منتجةٍ قادرةٍ على الإسهام في تنشيط الاقتصاد المحلي ورفع معدلات التشغيل. ويمكن تحقيق ذلك من خلال سياساتٍ واقعيةٍ تشمل توسيع مظلة التأمينات الاجتماعية لتستوعب العمال غير النظاميين عبر آلياتٍ مرنة، وتطوير برامج تدريبٍ مهنيٍّ تمكّنهم من اكتساب مهاراتٍ ترفع من فرصهم في العمل المنتظم.
كما يقتضي الإصلاح الاقتصادي دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي يمكن أن تشكّل بيئة تشغيل طبيعية لهؤلاء العمال، عبر توفير قروضٍ ميسّرةٍ وضمانات تمويلٍ اجتماعيٍّ تعزّز استقرارهم المعيشي، وفي الوقت نفسه، يجب تفعيل دور النقابات والهيئات المدنية لتوثيق أوضاعهم ومراقبة ظروف عملهم وتمكينهم من الوصول إلى العدالة القانونية.
إنّ النهوض الحقيقي بالاقتصاد السوري يبدأ من القاعدة الاجتماعية الأكثر هشاشة، فتمكين العمال المياومين ليس عملًا خيريًا، بل استثمارٌ وطنيٌّ يعيد توزيع الثروة ويعزّز الاستقرار. فكل خطوةٍ تُتخذ لضمان حقوقهم وتوفير بيئة عملٍ عادلة، هي خطوةٌ نحو اقتصادٍ أكثر توازنًا ومجتمعٍ أكثر إنصافًا وقدرةٍ على التعافي المستدام.