من جماعات قبلية مهمَّشة جرى استدعاؤها لمواجهة حركات التمرّد في دارفور غرب السودان، إلى قوة عسكرية سياسية متجذّرة في قلب المشهد السوداني، هكذا تحوّلت مليشيا الجنجويد – التي أعيد تسويقها لاحقًا باسم قوات الدعم السريع – من مجموعات مرتزقة تبحث عن موطئ قدم في مسرح صراعات الآخرين، إلى تنظيم مسلح منظّم يفرض إرادته بقوة السلاح، ويغرق البلاد في حربٍ مفتوحة ضد المدنيين، متبنيًا أجندات إقليمية ودولية، حولته إلى ذراع حرب بالوكالة.
وبينما يرفع قادتها شعارات الديمقراطية والمواطنة والاستقرار، تتهاوى تلك الشعارات الجوفاء أمام واقع الجرائم والانتهاكات التي ارتكبوها، وتم توثيقها محليًا ودوليًا قتلٌ ممنهج، تدميرٌ للمدن والقرى، ونهبٌ للثروات، ونزوح لأبناء الوطن، حتى تحوّل السودان – البلد الغني بموارده – إلى أرضٍ قاحلة تنزف حياة قبل الدم.
لقد نجحت هذه المليشيا، ببراغماتيتها المفرطة، في اللعب على جميع الحبال، تارةً تُعلن ولاءها للنظام القائم حتى عششت داخل مفاصله، وأخرى تتقرب من الشارع الثائر، مصدرة نفسها كـ “حامي حمى” الثورة، وثالثة تخضع لمطامع قائدها محمد حمدان دقلو (حميدتي)، تاجر الإبل الذي أصبح أحد أبرز الوجوه في مشهدٍ سوداني مثقلٍ بالدم والدمار.
نشأة قبلية ميليشاوية
حتى عام 2003، لم يكن الشارع السوداني يعرف شيئًا عن تشكيل يُدعى “قوات الدعم السريع”؛ إذ لم تكن حينها سوى مجموعات مسلحة تُعرف باسم “الجنجويد”، تتكوّن من ميليشيات قبلية متعددة يغلب عليها الطابع العربي، وفقًا للعديد من المصادر.
يُعزى تأسيس تلك الميليشيات إلى عشيرة المحاميد المنحدرة من قبيلة الزريقات العربية، وكان زعيمها موسى هلال، وهو ابن عم محمد حمدان دقلو (حميدتي)
مع اندلاع التمرّد في إقليم دارفور عام 2003، وجد النظام السوداني نفسه أمام أزمة عسكرية، بعد أن فشل الجيش في التعامل المباشر مع التمرد أو تحفظ على أسلوب المواجهة. في هذا الفراغ، عرضت ميليشيات الجنجويد خدماتها على الحكومة للمساعدة في قمع التمرد، وبالفعل شاركت بقوة، لكنها ارتكبت خلال تلك العمليات جرائم مروّعة من قتلٍ وحرقٍ ونهبٍ وسلب، ما أثار انتقادات دولية واسعة.
وفي عام 2004، أصدر مجلس الأمن الدولي قراره رقم 1556، الذي طالب الحكومة السودانية بنزع سلاح الجنجويد ومحاكمة قادتها، وعلى رأسهم موسى هلال، الذي وُضع على قائمة المشتبه بهم في جرائم حرب بدارفور. كما اتهمه المجلس في عام 2006 بعرقلة عملية السلام، فُفرض عليه حظر سفر دولي وجُمّدت ممتلكاته.
بحلول عام 2007، أعلن حميدتي – الذي كان آنذاك أحد قادة الجنجويد – تمرده على الحكومة السودانية، متذرعًا بعدم دفع مستحقات قواته لعدة أشهر، تطورت الأزمة إلى مواجهات مسلحة مع الجيش أودت بحياة العديد من الجنود.
لكن بدلًا من محاسبته، اختار الرئيس السوداني – آنذاك- عمر البشير في خطوة مثيرة للجدل استمالة حميدتي، فعرض عليه العودة إلى صفوف الحكومة، مقابل دفع الرواتب المتأخرة بأثر رجعي، وترقية قادته إلى رتب ضباط، ومنحه هو شخصيًا رتبة عميد.
ويبدو أن البشير لم ينسَ دور الجنجويد في إخماد تمرد دارفور، إذ أصدر في عام 2013 مرسومًا رئاسيًا منح هذه الميليشيات الشرعية الرسمية تحت اسم “قوات الدعم السريع”، لتصبح تابعة لـ جهاز الأمن والمخابرات الوطني.
غير أن هذا القرار أثار خلافًا داخل المؤسسة العسكرية؛ إذ رفضت رئاسة الأركان في ذلك الوقت تبعية قوات الدعم السريع لجهاز الأمن بدلاً من القوات المسلحة. ولحسم هذا الجدل، أصدر البرلمان السوداني عام 2017 قانونًا جديدًا نصّ على أن “قوات الدعم السريع قوات عسكرية قومية التكوين، تتقيد بالمبادئ العامة للقوات المسلحة السودانية”، وجعلها رسميًا تابعة للقوات المسلحة.
لكن في عام 2019، جرى تعديل القانون بحذف المادة التي تُخضع قوات الدعم السريع لأحكام القوات المسلحة، مما منحها استقلالية قانونية وتنظيمية واسعة. ومنذ ذلك الحين، أصبحت تُعرّف نفسها بأنها “قوات عسكرية قومية التكوين تعمل تحت إمرة القائد العام، وتهدف لإعلاء قيم الولاء لله والوطن، وتتقيد بالمبادئ العامة للقوات المسلحة السودانية”، رغم أن الواقع الميداني أثبت أنها باتت قوة منفصلة ذات نفوذ سياسي وأمني متصاعد.
القوة التسليحية
من حيث القوة والعتاد العسكري، تمثل قوات الدعم السريع اليوم أحد أبرز مراكز النفوذ المسلح في السودان، رغم غياب الإحصاءات الرسمية الدقيقة حول حجمها الحقيقي، وتشير تقديرات غير رسمية إلى أن تعداد عناصرها يتراوح بين 60 ألفًا و100 ألف مقاتل، من جنود وضباط وضباط صف، ينتشرون في مناطق متعددة داخل البلاد، ما يمنحها حضورًا واسعًا وقدرة على التأثير الميداني في مجريات الصراع.
وتستند هذه القوة إلى ترسانة كبيرة من العتاد المتحرك، إذ تمتلك – وفق التقارير – ما يقارب 10 آلاف سيارة رباعية الدفع مصفحة، مزوّدة برشاشات خفيفة ومتوسطة، إضافة إلى مضادات للطائرات، وهو ما يوفّر لها تفوقًا تكتيكيًا في سرعة الانتشار والمناورة، خصوصًا في المناطق الصحراوية الواسعة التي تشكّل مسرح عملياتها التقليدي. كما تضم وحدات من المدرعات الخفيفة من طراز BTR، تُستخدم لتأمين الأرتال والمواقع الحساسة.
أما من حيث الانتشار الجغرافي، فقد استطاعت الميليشيا ترسيخ وجودها في معظم المدن السودانية، وعلى رأسها العاصمة الخرطوم، مع اتخاذها من إقليم دارفور وغرب السودان مركزًا رئيسيًا لعملياتها وإمدادها. كما أن تمركزها على الحدود مع ليبيا وإريتريا يمنحها عمقًا استراتيجيًا يسمح لها بالتحرك والتزود عبر طرق غير تقليدية، ويمكّنها من الحفاظ على خطوط دعم خارج سيطرة الدولة المركزية.
مصادر التمويل
تعتمد قوات الدعم السريع على شبكة تمويل متعددة المصادر، ترتكز أساسًا على عوائد الذهب السوداني، إلى جانب الدعم الخارجي الناتج عن أدوارها الإقليمية والدولية، ما جعلها تتحول من ميليشيا محلية محدودة الإمكانات إلى كيان اقتصادي–عسكري يمتلك استقلالية مالية ونفوذًا سياسيًا متصاعدًا.
أولًا: الذهب كمصدر رئيسي للتمويل.. منذ منتصف العقد الماضي، أحكمت قوات الدعم السريع قبضتها على عدد من مناجم الذهب في دارفور وجبال النوبة وشمال السودان، لتصبح هذه المناطق شريانها المالي الأهم، وتشير تقارير غير رسمية إلى أن إيرادات الذهب المستخرج من المناجم الخاضعة لسيطرتها بين عامي 2014 و2016 بلغت نحو 123 مليون دولار، في حين قدّرت لجنة تابعة للأمم المتحدة أن الذهب الذي تم تهريبه إلى الإمارات بين عامي 2010 و2014 تجاوزت قيمته 4.5 مليارات دولار.
كما كشفت تقارير أن شركة “كالوتي” الإماراتية حصلت عبرها على أكثر من 117 طنًا من الذهب السوداني بين عامي 2012 و2019. هذه الشبكة من التهريب والتجارة غير الرسمية سمحت للدعم السريع بتأسيس اقتصاد موازٍ بعيد عن الرقابة الحكومية، وتُعد شركة “الجنيد”، التي أسسها عبد الرحيم دقلو – شقيق حميدتي – أحد أهم أذرع هذا النشاط الاقتصادي.
ثانيًا: عوائد حرب اليمن.. بعد سقوط نظام عمر البشير، أودع حميدتي نحو 225 مليون دولار في حساب خاص ببنك السودان، قال إنها من عوائد مصانع الذهب ورواتب قواته المشاركة في حرب اليمن، إذ ساهمت مشاركة ميليشياته في حرب اليمن إلى جانب التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات في تعزيز قدراتها المالية والعسكرية، فالتقارير تشير إلى أن الدعم الإماراتي تحديدًا لعب دورًا محوريًا في زيادة التجنيد والتسليح، بما في ذلك شراء المركبات والمعدات الحديثة التي استخدمتها لاحقًا في معارك داخل السودان نفسه.
ثالثًا: عوائد مكافحة الهجرة.. لم يقتصر نفوذ الدعم السريع على الجانب العسكري فحسب، بل امتد إلى الملفات الأمنية العابرة للحدود، إذ شاركت في جهود مكافحة الهجرة غير الشرعية بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي ضمن ما عُرف بـ “عملية الخرطوم”. هذا الدور منحها غطاءً سياسيًا ودعمًا ماليًا غير مباشر.
حرب اليمن وتقديم أوراق الاعتماد
قدّم (حميدتي) أوراق اعتماده لدى الدول الخليجية عبر مشاركته في حرب اليمن عام 2015 إلى جانب التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات ضد جماعة الحوثيين، وقد شكّلت هذه المشاركة نقطة تحول محورية في مسيرة قوات الدعم السريع، إذ تم إرسال نحو 30 ألف مقاتل – معظمهم من عناصر الدعم السريع – للقتال في الأراضي اليمنية ضمن مهام متعددة.
تشير تقارير متعددة إلى أن مشاركة قوات الدعم السريع في حرب اليمن لم تكن فقط بقرار سياسي سوداني، بل جاءت أيضًا في إطار صفقة منفصلة بين حميدتي والإمارات، نصّت على تقديم تمويل إماراتي مباشر مقابل إشراك قواته في العمليات العسكرية، هذا التمويل ساهم في رفع معدلات التجنيد والتسليح داخل صفوف الميليشيا، ما عزّز من قوتها التنظيمية واللوجستية.
في المقابل، كشف تقرير لصحيفة نيويورك تايمز أن ما يقارب 40% من عناصر قوات الدعم السريع المشاركة في حرب اليمن كانوا من الأطفال، تتراوح أعمارهم بين 14 و17 عامًا، وهو ما أثار انتقادات واسعة بشأن انتهاك القوانين الدولية المتعلقة بتجنيد الأطفال واستخدامهم في النزاعات المسلحة.
كما قُسّمت القوات المرسلة إلى اليمن إلى وحدات صغيرة يتراوح عدد أفرادها بين 500 و750 مقاتلًا، وتوزعت مهامهم في مناطق متعددة، ويتقاضون رواتب شهرية تتراوح بين 480 و530 دولارًا، تختلف حسب العمر والرتبة.
الإطاحة بنظام البشير
عندما اندلعت الثورة الشعبية في ديسمبر/كانون الأول 2018، وجد الرئيس السوداني عمر البشير نفسه أمام موجة احتجاج غير مسبوقة هددت بقاء نظامه، وكعادته في مواجهة الأزمات، حاول استدعاء حميدتي وميليشيات قوات الدعم السريع لإنقاذ حكمه، تمامًا كما فعل في مواجهات دارفور أعوام 2003 و2014. غير أن الظروف هذه المرة كانت مختلفة؛ فقد أدرك تاجر الإبل الأسبق أن الشارع تجاوز مرحلة الخوف، وأن النظام يترنح أمام قوة الغضب الشعبي.
وبخبث سياسي وبراغماتية مفرطة، قرأ حميدتي المشهد بعينٍ واقعية، فاختار الانحياز إلى الثورة بدلًا من الدفاع عن سلطة آيلة للسقوط. لم يكن قراره مدفوعًا باعتبارات أخلاقية أو قناعات ديمقراطية، بل بحسابات دقيقة للربح والخسارة، فالميل إلى جانب الثوار كان في نظره استثمارًا سياسيًا أكثر منه انحيازًا مبدئيًا، يهدف إلى تأمين موقعه في النظام الجديد الذي قد ينبثق عن سقوط البشير.
وبالفعل، جاءت النتائج كما خطط لها؛ إذ كان حميدتي أحد أبرز المستفيدين من الإطاحة بالبشير في أبريل/نيسان 2019، بعد أن شاركت قواته في تأمين المقرات الحكومية واحتواء المشهد الأمني، ومكافأةً لدوره، جرى تعيينه نائبًا لرئيس مجلس السيادة الانتقالي، ليصبح أحد أقوى الرجال في السودان، ممسكًا بزمام السلطة والسلاح معًا، ليتحوّل في غمضة عين من قائد ميليشيا هامشية إلى رجل دولة نافذ.
مجزرة فض اعتصام القيادة العامة
بعد سقوط نظام البشير، دخلت العلاقة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع مرحلة من المصالحة البراغماتية، قوامها تبادل المصالح لا الثقة، فقد أدرك الطرفان أن الحفاظ على نفوذهما في المشهد السياسي يقتضي التنسيق المؤقت، ولو على قاعدة توازن هش.
وفي هذا السياق، أقدم رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان على تعديل قانون الدعم السريع، مانحًا إياها مزيدًا من الاستقلالية والصلاحيات، في خطوة عكست محاولة استيعاب حميدتي داخل الإطار العسكري الرسمي، مع الإبقاء على خطوط النفوذ مفتوحة لكل طرف.
لكن هذا التحالف سرعان ما كشف عن وجهه القمعي في يونيو/حزيران 2019، حين شاركت قوات الدعم السريع إلى جانب الجيش في فضّ اعتصام القيادة العامة في الخرطوم، الذي كان يضم آلاف المدنيين من مختلف التيارات السياسية المطالبة بمدنية الدولة والانتقال الديمقراطي، وقد تحوّل الاعتصام إلى مجزرة مروعة، قُتل خلالها عشرات المحتجين وأصيب المئات، فيما فُقد العشرات في واحدة من أكثر الأحداث دموية في تاريخ السودان الحديث.
عقب المجزرة، واجه حميدتي وميليشياته اتهامات مباشرة بالضلوع في التخطيط والتنفيذ، وخرجت مطالبات واسعة من الشارع بضرورة محاسبة المتورطين وتقديمهم للعدالة، غير أن تلك المطالبات وُوجِهت بتجاهل رسمي، ما أكد أن المنظومة العسكرية بشقيها – الجيش والدعم السريع – لا تزال متمسكة بالسلطة، وترى في أي انتقال مدني خطرًا وجوديًا على مصالحها المشتركة، الأمر الذي مهد لاحقًا لتصاعد التوتر مجددًا بين الطرفين أنفسهم.
الانقلاب على حمدوك وحكومته
في الوقت الذي كان فيه عبدالله حمدوك، رئيس الحكومة الانتقالية التي أعقبت الثورة، يسعى لترسيخ مسار انتقال سياسي سلمي يفضي إلى حكم مدني كامل، كانت المؤسسة العسكرية تسير في اتجاه مغاير تمامًا، فقد حاول حمدوك إعادة الجيش وقوات الدعم السريع إلى أدوارهما الطبيعية داخل الثكنات، وإبعادها عن دوائر القرار السياسي، إلا أن هذا التوجه اصطدم برفض العسكر الذين رأوا في مشروعه تهديدًا مباشرًا لنفوذهم ومصالحهم.
في هذا السياق، شارك حميدتي وقواته إلى جانب البرهان في الانقلاب العسكري الذي وقع في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، حيث تم اعتقال حمدوك وأعضاء حكومته وعدد من المسؤولين والإعلاميين، في خطوة فجّرت غضب الشارع السوداني وأعادت البلاد إلى مربع المواجهة بين العسكر والقوى المدنية، وقد مثّل الانقلاب لحظة حاسمة أنهت عمليًا المرحلة الانتقالية وأجهضت آمال بناء دولة مدنية كانت الثورة قد وعدت بها.
ومع مرور الوقت، بدأت التصدعات تظهر داخل المعسكر العسكري نفسه، فبعد أن حقق الانقلاب أهدافه الأولية، عبّر قائد ميليشيا الدعم لاحقًا عن ندمه لمشاركته في تلك الخطوة، معتبرًا أنها كانت “خطأً سياسياً” أعاد السودان إلى الوراء، غير أن هذا الاعتراف البرغماتي المتأخر لم يكن كافيًا لتصحيح المسار، بل عمّق الخلاف بينه وبين البرهان، ومهّد لتحوّل العلاقة بين الطرفين من شراكة مؤقتة إلى صراع مفتوح على السلطة والنفوذ.
تصاعد الخلاف بين الجيش والدعم
لم تكن العلاقات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع تسير في أجواء مثالية، رغم ما بدا من توافق شكلي في العلن، فخلف هذا الهدوء الظاهري كانت البراغماتية هي التي تحكم العلاقة بين الطرفين، فيما كانت نيران الخلاف الكامن تتقد تحت الرماد بانتظار لحظة الانفجار. ومع مرور الوقت، بدأت بوادر الصراع على السلطة والنفوذ تظهر إلى السطح، إذ سعى كل طرف إلى تعزيز موقعه السياسي والعسكري وحشد دعم إقليمي ودولي يضمن له الغلبة في أي مواجهة محتملة.
وجاء توقيع ما عُرف بـ “الاتفاق الإطاري” ليكشف عمق تلك التصدعات، فقد كان الاتفاق يهدف إلى تأسيس مرحلة انتقالية لمدة عامين تنتهي بتشكيل حكومة مدنية في يوليو/تموز 2023، إلا أن الخلاف احتدم حول نقطة دمج قوات الدعم السريع في الجيش النظامي وتوحيد القيادة العسكرية، حيث رفض حميدتي هذا البند بشكل قاطع، معتبرًا أن الدمج يهدد وجود قواته واستقلالها، بينما أصر الجيش على أن توحيد السلاح والقيادة شرط أساسي لبناء دولة مستقرة.
ومع تصاعد التوتر، دخلت قوى إقليمية ودولية على خط الأزمة في محاولة لاحتواء الموقف ومنع الانزلاق إلى حرب شاملة، وأجريت مباحثات في مارس/آذار 2023 بين الطرفين بوساطة دولية، لكنها انتهت دون نتائج ملموسة أو اتفاقات نهائية.
وفي الوقت الذي فشلت فيه الدبلوماسية في نزع فتيل الأزمة، كانت التحضيرات الميدانية تتسارع بصمت، مؤذنةً بانفجارٍ وشيك، وهو ما حدث لاحقًا حين تحوّل الخلاف السياسي إلى صدام عسكري شامل هزّ السودان بأكمله.
حرب الجنرالات
تجاوز الصراع بين الجيش وقوات الدعم كل الحدود التقليدية، متخليًا عن الشعارات الوطنية والاستقرار والدفاع عن الشعب التي طالما رددها حميدتي وميليشياته، تحوّل النزاع إلى صدام مسلح مباشر حين شنت قوات الدعم هجمات على مقار الجيش في الخرطوم وعدد من المدن الأخرى، مستهدفة السيطرة على مواقع استراتيجية وتوسيع نفوذها العسكري.
وقد نجحت بالفعل في السيطرة على عشرات المقار العسكرية، لتدخل البلاد مرحلة جديدة من الصراع المسلح التي دفع الشعب السوداني ثمنها الباهظ، مع مقتل عشرات الآلاف وإصابة المئات، ونزوح ملايين داخليًا وخارجيًا.
ولعب التمويل الخارجي، خصوصًا من الإمارات, دورًا محورياً في إبقاء ميليشيا الدعم قادرة على الصمود في مواجهة الجيش، الذي كان من المتوقع أن يحسم المعركة لصالحه في البداية، فقد وفرت الإمدادات الإماراتية المتواصلة دعمًا لوجستيًا وماليًا دام أكثر من عامين، مما منح حميدتي القدرة على تحويل قواته إلى ند قوي ومتوازن أمام الجيش النظامي، وساعد هذا الدعم المكثف تلك الميليشيا على الحفاظ على توازن القوى رغم التفوق العددي والتقليدي للجيش في بعض المناطق.
ومع دخول الصراع مرحلة مفتوحة، باتت الكفة تكاد تتساوى بين جيش محدود القدرات، مكبل بالعقوبات الدولية، ومتواضع تسليحيًا، وميليشيا مدعومة خارجيًا من الإمارات وروسيا، هذا التوازن القسري أدى إلى إطالة أمد الحرب، وجعل الوصول إلى أي حل مستقر أو نهاية حاسمة غير ممكنة في ظل الظروف الحالية، مع استمرار تدهور الأوضاع الإنسانية والسياسية في البلاد.
مجزرة الفاشر
في إطار مساعيه لتوسيع نفوذ ميليشياته، لم يتردد حميدتي وعصابته في فرض سيطرتهم بالقوة على حساب أرواح المدنيين وأمان أسرهم، مرتكبين واحدة من أبشع الكوارث الإنسانية في السنوات الأخيرة في الفاشر، عاصمة إقليم دارفور غرب السودان، المدينة، التي كانت مأوى لحياة طبيعية هادئة، تحولت بفعل هذه العمليات إلى مسرح لعنف لا يرحم، حيث صار المدنيون هدفًا مباشرًا في صراع القوى على الأرض.
مع الهزائم التي تكبدتها قواته في الخرطوم ومناطق أخرى، حاول راعي الإبل الأسبق تعويض خسائره عبر استغلال المدنيين بعد وصول الإمدادات الإماراتية إليه، وكانت مدينة الفاشر هي المسرح الرئيسي لهذا الاستغلال، إذ دخلت منذ مايو/أيار 2024 في كارثة إنسانية متصاعدة، فرضت فيها ميليشيا الدعم حصارًا خانقًا على المدينة، مانعة دخول المساعدات الإنسانية، ما أدى إلى أزمة غذائية حادة ونقص حاد في المياه والرعاية الصحية لسكانها الذين يقدر عددهم بنحو 250 ألف نسمة.
اليوم، تعيش المدينة تحت حصار خانق واشتباكات مستمرة، ما أدى إلى تفشي الجوع وانهيار شبه كامل للقطاع الصحي، وارتفاع أعداد الضحايا نتيجة القصف العشوائي، اضطر آلاف الأسر إلى ترك منازلهم والفرار بحثًا عن ملاذ آمن بعيدًا عن دائرة العنف، بينما تتزايد المعاناة الإنسانية يومًا بعد يوم مع استمرار الصراع المسلح وعدم قدرة أي طرف على توفير حماية أو خدمات أساسية للسكان.
من خلال هذا الاستعراض التاريخي يبرز الدور الإجرامي لميليشيا الدعم السريع كعامل أساسي في تعميق الكارثة الإنسانية في السودان، حيث تحولت مصالح القوة والطموحات الشخصية لقائدها وأجندات العسكر إلى مصائد موت للمدنيين الأبرياء.
تلك الميليشيا التي حولت المدن السودانية إلى ساحات للدمار، وارتكبت خلال سنوات قليلة مجازر وجرائم ممنهجة ضد الشعب، من دارفور إلى الخرطوم والفاشر، ما أدخل السودان في دوامة من النزوح والجوع والفقر والألم.
عمليًا لا يمكن التعاطي مع الدعم كقوة محلية مسلحة، بل أصبحت ذراع حرب بالوكالة، تستثمر الدعم الخارجي لتحقيق أهدافها وتوسيع نفوذها على حساب حياة المواطنين، في حين بقيت الدولة عاجزة عن حماية شعبها أو فرض القانون، في الوقت الذي يدفع فيه السودانيون الثمن الثقيل، آلاف القتلى والمصابين، ملايين النازحين داخليًا وخارجيًا، انهيار شبه كامل للخدمات الأساسية، وأطفال محرومون من التعليم والصحة.
في الأخير.. ما يجري في السودان اليوم ليس مجرد صراع على السلطة بين أطراف عسكرية، بل هو تجسيد لمأساة وطن بأكمله، تحولت مدنه وقراه إلى ساحات دم، دُفن فيها الحلم السوداني في الانتقال الديمقراطي، بينما يقف المدنيون كضحايا أبرياء أمام حسابات سياسية وعسكرية لا تعرف الرحمة، وسط خذلان إقليمي ودولي فاضح، وضمير إنساني ميت لا يُرجى استفاقته.
