في ليلة حالكة السواد على مدينة رفح، سرعان ما اخترقت الصواريخ والشظايا الإسرائيلية هَدْأَةَ الليل، فيما أذناي صفاء العمصي، تطنَّان من أصوات الانفجارات المتتابعة التي أجبرتها وأسرتها على النزوح قسرًا والهروب بأرواحهم من بيت عائلتها الذي احتضنها طيلة أيام الحرب، وسرق جنود الاحتلال رُكَامه بعد نزوحهم.
تفتح صفاء جروح قلبها دفعةً واحدةً، فيما تتشكّل خيوط الغضب على قسمات وجهها، وتطغى على نبرة صوتها في حديثها: “بيت العُمْرِ الذي بناه والدي الشهيد خالد العمصي قبل ثلاثين عامًا، والذي ضم ذكرياتنا بضحكة أشقائي التي خطفت حرب الإبادة الإسرائيلية، روح شقيقي الأكبر المحامي محمد من بين أحضان طفلاته الأربعة”. تصمت لثانية وتُطلق تنهيدة: “لم يكتفِ الاحتلال الإسرائيلي بإزهاق أرواحنا بالفقد والهدم للبيت، إنما وصلت بشاعته إلى سرقة رُكَام البيت من الحجارة، والإسمنت، والحديد!”.

منذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية، شهد قطاع غزَّة، وبالتحديد المناطق الشرقية والشمالية والجنوبية، حملة هدم واسعة قادتها قوات الاحتلال الإسرائيلي، عبر استقطاب أفراد وشركات المعدات الثقيلة للمشاركة في أوسع حملة هدم وثّقتها ونقلتها عبر منصات التواصل الاجتماعي.
تُحدّثنا الأم الثلاثينية، وعيناها مشتّتتان تراقبان أطفالها: “يقع بيتنا في شمال مدينة رفح، وخلفه عشر دونمات زراعية مزروعة بكافة أنواع الخضراوات من الباذنجان والبندورة والخيار والأشجار المعمّرة من الزيتون والجوافة والبرتقال. يتميز بيتنا بموقعه الاستراتيجي حيث يبعد عن الحدود المصرية مسافة كيلو ونصف جنوبًا، وعن نقطة محور موراغ مسافة اثنين كيلو، مما حوّله الاجتياح البري لقوات الاحتلال الإسرائيلي إلى نقمة علينا”.
تعود العمصي بذاكرتها للنزوح الأول الذي تركت فيه بيت عائلتها، وتقول: “نزحتُ وعائلتي بسرعة جنونية تحت هدير القذائف الإسرائيلية التي كانت تتساقط على بيوتنا والأراضي الزراعية، وباتت الخيمة في مدينة دير البلح بيتنا ومسكننا لعدة أشهر. وبعد دخول الهدنة الأولى حيّز التنفيذ، عُدنا إلى مدينة رفح، فوجدنا بيتًا بطوابقه الثلاثة كومة من الركام والحجارة، وحيالها قمنا بنصب خيمة بجوار ركامه”.
تتحجّر دمعةٌ في عيني صفاء البندقيّتين، وتُجيب “نون بوست”: “دائمًا كنتُ حريصة على تصفح ومتابعة الأخبار على منصة تلغرام، بعد هربنا بأرواحنا من اجتياح مدينة رفح التي لم نَعُد لها حتى اللحظة، لكن، قبل عدّة أشهر، أثناء تصفّحي لصفحة أحد النشطاء الاجتماعيين المختصين بنشر الصور الجوية لمدينة رفح، تفاجأت وصُعقت حين لم أشاهد معالم حارتنا وبيوتنا وأراضينا الزراعية. جلّ ما شاهدته صور لصحراء قاحلة جرداء بلا أي ركام، يكسوها الرمل الأصفر فقط!”.
حوّل جيش الاحتلال قطاع غزَّة إلى تلال كبيرة من الركام يُقدَّر وزنها، حسب تقرير البنك الدولي لعام 2025، بنحو 41–47 مليون طن، تتكدس في جغرافيا صغيرة ومحاصَرة، وهو أضعاف مجموع ما خلّفته حرب الموصل بالعراق بين عامي 2016–2017، والتي بلغت نحو 11 مليون طن، وما خلفه زلزال هايتي من ركام عام 2010، والذي بلغ نحو 13–15 مليون طن.
تفكّ صفاء أناملها المتشابكة ببعضها البعض، وتمسح دمعتها عن خدّها الأيمن، وتقول: “فور مشاهدتي الصور ومعرفة المنطقة، قمتُ بتكبيرها، وصُعقتُ حين لم أشاهد منها أي معلم. حتى الركام تم سرقته! وكنت أشاهد مقاطع الفيديو على منصّتَي X وTikTok لجنود الاحتلال وهم يتفاخرون ويلتذّون بتحطيم بيوتنا وإزهاق أرواحنا على بيوت العمر التي بنيناها بكدّنا وتعبنا”.
وفق شهادات فلسطينيين تواصلت معهم “نون بوست”، كانوا يتواجدون خلال حرب الإبادة في أقرب نقطة حدودية تربط الداخل الفلسطيني المحتل بشمال غزّة، حيث أدلوا بشهاداتهم بأنهم كانوا يسمعون ويشاهدون نسف الاحتلال الإسرائيلي للبيوت السكنية في شمال القطاع، بالتحديد في منطقة بيت حانون وبيت لاهيا، وكانوا يشاهدون معدات ثقيلة وشاحنات إسرائيلية تدخل القطاع، تعود محمّلة بركام البيوت، وتخرج من قطاع غزَّة.
وهو ما أكدته وتداولته صحيفة “هآرتس” العبرية، بأن “جيش الاحتلال الإسرائيلي استعان بشركات إسرائيلية، وبمقاولين، وكل مقاول خاص كان يتقاضى مبلغ 5 آلاف شيكل (نحو 1474 دولارًا) عن كل منزل يهدمه في قطاع غزَّة”، ونقلت الصحيفة عن أحد الجنود الإسرائيليين الذين دخلوا القطاع، قوله: “إن كل مقاول خاص كان يعمل في غزَّة باستخدام معدات هندسية، يتقاضى 5 آلاف شيكل عن كل بيت يهدمه. إنهم يجنون الكثير من المال”.
وأشار الجندي، ضمن تقرير موسّع للصحيفة، إلى أن “كل وقت لا يهدمون (المقاولون) فيه بيوتًا هو خسارة مالية، والقوات (الإسرائيلية) تؤمّن أعمالهم”. ولم يكتفِ الاحتلال الإسرائيلي بجعل الهدم نشاطًا عسكريًا أو سوقًا مفتوحًا للعمالة والشركات، بل صاغ له سردية بطولية خاصة، وقدّمتهم وسائل إعلام الاحتلال على أنهم “أبطال” و”رموز وطنية”.
תיעוד מתוך דחפור D9 זהו הלוחם הרב זרביב במסר ליום השואה מרפיח. pic.twitter.com/n35cN7eCsP
— מה חדש. What’s new❓ (@Gloz111) April 24, 2025
الحاخام أفراهام زرفيف، جندي الاحتياط الذي تحول إلى ما تسميه وسائل الإعلام العبرية “بطل التدمير”.
وفقًا للمادة (33) من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، والمادة (47) من لائحة لاهاي لعام 1907، يُحظر النهب تمامًا، سواء كان يتعلق بالأموال العامة أو الخاصة. كما أن المادة (8/2/ب/16) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية تُصنّف النهب ضمن جرائم الحرب.
يقول د. صلاح عبد العاطي، رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني “حشد”: ما قامت به سلطات الاحتلال الإسرائيلي من سرقة الركام والأنقاض الناتجة عن تدمير آلاف المنازل والمباني المدنية في رفح وشمال قطاع غزَّة، ونقلها إلى داخل الأراضي المحتلة عام 1948 لاستخدامها في مشاريع إنشائية أو صناعية، يُعدّ جريمة مركّبة تنطوي على أبعاد قانونية وإنسانية وبيئية خطيرة، لكونها ليست مجرد عملية نهب مادي، بل استمرارًا لسياسة التدمير الممنهج وسلب الممتلكات الفلسطينية حتى بعد تسويتها بالأرض، بما يعكس نمطًا استعماريًا إحلاليًا يهدف إلى محو معالم الوجود الفلسطيني المادي والرمزي.
يتابع رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني: “نقل الركام من غزة إلى إسرائيل يُعد انتهاكًا للسيادة الفلسطينية، وحرمانًا للشعب الفلسطيني من إعادة إعمار بلاده بمواردها المحلية، إذ إن هذا الركام يُعد مادة أساسية لإعادة التدوير والبناء مستقبلًا”.
ويضيف عبد العاطي: “بأن إزالة الاحتلال للركام بشكل منهجي، قد يُقصد بها إخفاء الأدلة المادية على جرائم الحرب والإبادة الجماعية، ما يشكّل عرقلةً للعدالة الدولية، وانتهاكًا لواجب التعاون مع لجان التحقيق الأممية”.
وحمل المحامي والناشط القانوني سلطات الاحتلال الإسرائيلي المسؤولية الدولية الكاملة عن هذه الأفعال، بصفتها قوة احتلال ملزَمة وفق القانون الدولي الإنساني بالمحافظة على الممتلكات والبنى التحتية في الأراضي المحتلة.
وعن سؤال “نون بوست” ما إذا كان يمكن ملاحقة ومحاكمة قادة جيش الاحتلال الإسرائيلي على ما افتعلوه؟، يجيب المحامي: “يمكن ملاحقة قادة الجيش والشركات الإسرائيلية المشاركة في عمليات النقل والاستغلال أمام المحكمة الجنائية الدولية، كونها تشارك في استغلال غير مشروع لممتلكات تحت الاحتلال”.
ويؤكد المحامي والناشط القانوني: “بأن سرقة الركام ليست تفصيلًا هامشيًا، بل حلقة جديدة في مشروع الاحتلال لتجريد الفلسطينيين من الأرض، والذاكرة، والمكان، مما يستوجب تحركًا حقوقيًا ودبلوماسيًا عاجلًا لمساءلة إسرائيل، ومنعها من تحويل رماد غزَّة إلى مواد بناء لمستعمراتها”.