منذ استيلاء عبد الفتاح السيسي على السلطة، شهدت مصر حملة توسع غير مسبوقة في بناء السجون، إذ أُنشئ أكثر من خمسة وأربعين سجنًا جديدًا خلال عقد واحد، ما مثل تحولًا جوهريًا في بنية الدولة الأمنية بعد انقلاب 2013.
غير أن هذا التوسع في بناء السجون لم يكن مجرد أداة للعقاب أو استجابةً لازدياد أعداد المعتقلين فحسب، بل تطور ليصبح مشروعًا اقتصاديًا منظمًا يدر دخلًا ثابتًا للنظام وأجهزته الأمنية. فقد تحول السجن إلى مؤسسة إنتاجية تُغذي الاقتصاد الأمني المغلق، وتمنح الأجهزة الأمنية قدرةً أكبر على تمويل ذاتها وإعادة إنتاج منظومة القمع بصورةٍ مستدامة.
تجلى ذلك في شبكة معقدة من المصالح تجمع بين وزارة الداخلية وضباطها وشركات المقاولات والخدمات التابعة للجيش، فكل عملية بناء أو توسعة أو إدارة داخل السجون تحولت إلى فرصة استثمارية مربحة، سواء عبر عقود الإمداد الغذائي، أو من خلال استنزاف أموال عائلات المعتقلين عبر الرسوم وتكاليف الزيارات والابتزاز المستمر مقابل أبسط الحقوق.
ومع ترسخ هذه المنظومة، تكرس منطق جديد يقوم على “الطلب على القمع”، إذ أصبح اتساع شبكة السجون وتزايد أعداد المعتقلين يعني زيادة مباشرة في الأرباح، وبهذا المعنى، تحول القمع ذاته إلى مشروع ربحي مستدام، وغدت السجون بعد عام 2013 مصدرًا خفيًا لتوليد الربح.
كما تشكل سوق مغلق تُعاد فيه تدوير الأموال عبر عقود وتوريدات وامتيازات حصرية للنخب العسكرية والأمنية، فمشروعات البناء والتوسعة كمجمعات المنيا ووادي النطرون وبدر هي بالأساس فرص اقتصادية مغلقة تغذي شبكات النفوذ داخل المؤسسة الأمنية والعسكرية بعوائد ثابتة ومضمونة.
كيف أصبح السجن مشروعًا اقتصاديًا مغلقًا؟
منذ عام 2014، شهدت منظومة السجون في مصر تحولًا جذريًا في طبيعتها ووظيفتها داخل بنية الدولة، فبعد أن كانت تُقدم رسميًا كمراكز للإصلاح والتأهيل، أصبحت ركيزة أساسية لترسيخ الحكم العسكري–الأمني. ومع تضخم أعداد المعتقلين، ازداد بناء السجون بوتيرة غير مسبوقة، حتى صار افتتاحها حدثًا دوريًا، ما يعكس تحولها من مرفق عقابي إلى مؤسسة مركزية في منظومة الحكم.
لكن هذا التوسع لم يكن أمنيًا فحسب، بل حمل أبعادًا اقتصاديًا متنامية، إذ تحولت السجون إلى مراكز استثمارية مغلقة تدر أرباحًا مباشرة وغير مباشرة على الأجهزة الأمنية، فقد أُسنِدت عقود البناء والإمداد والتوريد إلى شركات تابعة للجيش ووزارة الداخلية، فيما أصبحت معاناة المعتقلين وعائلاتهم مصدر دخل دائم من خلال الرسوم المفروضة، والزيارات، والمشتريات من الكانتين، والرشاوى اليومية.
ومع تزايد أعداد المعتقلين بعد 2013، نشأ ما يمكن وصفه باقتصاد الظل الأمني، وهو اقتصاد موازٍ يعمل خارج منظومة الشفافية والمحاسبة، إذ سمح غياب الرقابة المستقلة والسرية المفروضة على إدارة السجون بتحويلها إلى حقول مالية مغلقة تُدار بعقلية الجباية والربح.
وفي هذه البيئة، تبلورت شبكات مصالح متشابكة ومتعددة المستويات، فعلى المستوى الداخلي، يُمارس ابتزاز مالي ممنهج على المعتقلين وعائلاتهم مقابل أبسط الحقوق كالزيارة أو العلاج أو الحصول على الدواء. وعلى المستوى الإداري، تُبرم عقود التوريد والتموين في السجن مع شركات مرتبطة بمسؤولين أمنيين، كما يُستغل بعض السجناء في أعمال قسرية ضمن مشاريع غير معلنة العوائد.
تجلى هذا التحول في مشروعات ضخمة مثل مجمعي سجن وادي النطرون وبدر، اللذين قدمهما النظام كنماذج إنسانية حديثة، بينما كانا في الواقع واجهات استثمارية تُدار من قبل شركات تابعة للمؤسسة العسكرية ووزارة الداخلية، فقد أُسنِدت عقود البناء والتجهيز إلى هذه الشركات عبر الإسناد المباشر دون مناقصات علنية، ما ضمن لها أرباحًا ثابتة وجعل من كل سجن مشروعًا ماليًا مغلقًا داخل الدائرة الأمنية.

يُمول بناء السجون من الميزانية العامة أو القروض الحكومية، لكن إدارتها تجري بمنطق تجاري مغلق يُعيد تدوير الأموال داخل المنظومة الأمنية نفسها، بعيدًا عن أي رقابة مالية أو تشريعية، والعديد من السجون المصرية بُنيت بموجب عقود بناء غامضة، وغالبًا ما تُنتزع مساحات واسعة من الأراضي العامة أو الزراعية بقرارات سيادية تُنقل ملكيتها إلى وزارتي الداخلية أو الدفاع، لتتحول لاحقًا إلى مشروعات مغلقة تدر أرباحًا مستمرة عبر مراحل البناء والتوريد.
بالتوازي مع ذلك، تمدد الاقتصاد الموازي داخل المنظومة الأمنية ليشمل القطاع الخاص، لم تعد الدولة تحتكر إدارة السجون أو إمداداتها، بل فوضت جزءًا من هذه المهام إلى شركات خاصة مرتبطة مباشرة بالأجهزة العسكرية والأمنية، فتحولت السجون إلى سوق مغلقة لتداول العقود والصفقات.
تُمنح عقود الغذاء والملابس والمعدات والخدمات اللوجستية لشركات محددة، وغالبًا ما تكون واجهات لمؤسسات أمنية أو لرجال أعمال مقربين من النظام. كما توسعت شركات الأمن المرتبطة بأجهزة الأمن في توريد أنظمة المراقبة والكاميرات والتقنيات الرقمية داخل السجون الجديدة.
تقوم العلاقة بين وزارة الداخلية وهذه الشركات على نموذج تعاقدي مغلق يفتقر إلى الشفافية، ما يحول المال العام إلى مصدر ربح ضمن شبكة مصالح تضم ضباطًا متقاعدين ومسؤولين حاليين ورجال أعمال أمنيين، وغالبًا ما يُكافأ الضباط المتقاعدون بمناصب إدارية في تلك الشركات لتثبيت نموذج الاقتصاد الأمني القائم على تبادل الولاء مقابل الامتيازات.
وفي عام 2018، عزز “قانون التعاقد” رقم 182 هذا النمط من الاقتصاد المغلق، إذ سمح للجيش والشركات العسكرية بإبرام العقود بشكل مباشر تحت ذريعة “حماية الأمن القومي”، مع إعفائها من الرقابة والمحاسبة، وقد كرس هذا القانون مبدأ السرية المطلقة في التعاقد والبيع والشراء.
ومع مرور الوقت، أصبح القمع مشروعًا اقتصاديًا مستدامًا، فكل توسع في السجون أو تشريع أمني أو زيادة في الرقابة التقنية يعني تدفقًا ماليًا جديدًا لشبكة المستفيدين، الأجهزة الأمنية التي تحصل على أموال متزايدة، والشركات التي تبني وتورد، والبيروقراطيين وحراس السجون الذين يجنون أرباحهم من الإتاوات والرشاوى.
وهكذا نشأ ما يمكن تسميته باقتصاد المعاناة، حيث تتحول معاناة المعتقلين إلى سلعة تدر أرباحًا لمنظومة كاملة، ومع اتساع نطاق الاعتقال والجباية، ازدادت الإيرادات المتدفقة إلى هذه القنوات، وتحول انتهاك الحقوق الإنسانية إلى آلية تمويل ذاتي لمنظومة القمع.
والربح الناتج عن اقتصاد القمع لا يعود إلى خزينة الدولة، بل يُوزع ضمن شبكات مصالح مغلقة تشمل الداخلية، الجيش، شركات الأمن الخاصة، وبذلك تولدت حوافز قوية لاستدامة القمع، إذ أصبح استمرار الاعتقال والتوسع في السجون مصدر دخل ثابت للنظام وأجهزته.
وفي هذا السياق، تستثمر الدولة في السجن مرتين، مرةً كأداة لترسيخ الخوف والسيطرة على المجال العام، ومرةً كمصدر مالي يغذي شبكات الولاء داخل الجهاز الأمني. وفي المحصلة، تُظهر تجربة السجون المصرية بعد 2013 أن السجون لم تعد عبئًا على الدولة، بل أصبحت رافعة مالية تستمد منها الأجهزة الأمنية مواردها ونفوذها، ليغدو الخوف ذاته سلعة، والمعاناة موردًا، والسجن استثمارًا طويل الأمد.
وحتى اليوم يواصل النظام سياسة التوسع في بناء السجون وتحديثها، ويجري حاليًا العمل على إقامة مجمع سجون جديد في سيناء، يُضاف إلى المجمعات الضخمة التي أُنشئت خلال العقد الماضي. وهكذا تصبح عملية التوسع في السجون نفسها جزءًا من دورة اقتصادية مغلقة تُعيد إنتاج القمع كمصدر دائم للعائدات.
بعد عام 2013، تحولت السجون المصرية إلى منظومة قمعية–اقتصادية مزدوجة، تجاوزت وظيفتها العقابية لتصبح أداة استنزاف مالي ممنهج للمعتقلين وعائلاتهم، فكل معتقل صار محور دورة مالية قسرية تربط أسرته بجهاز القمع عبر إنفاق متكرر يشمل الرسوم، والكانتين، والنقل، والمحامين، والرشاوى اليومية مقابل أبسط الحقوق.
ومع توسع بناء السجون الجديدة في عهد السيسي، بدأت الأجهزة الأمنية بإعادة تشكيل اقتصادها الداخلي، فصار السجن مشروعًا ربحيًا مغلقًا تديره إدارات أمنية مرتبطون بالجيش ووزارة الداخلية. لم يعد الهدف السيطرة السياسية فقط، بل تحويل معاناة المعتقلين إلى مورد مالي دائم يضمن تدفق الأرباح واستقلال الأجهزة الأمنية ماليًا.
الكانتين: السوق المغلقة داخل السجن
منذ عام 2013، تحول “الكانتين” في السجون المصرية إلى سوق مغلقة تُدار باحتكار كامل، وأصبح من أبرز أدوات الجباية واستنزاف المعتقلين وأسرهم، تُباع السلع داخل الكانتين بأسعار مضاعفة تفوق قيمتها الحقيقية في السوق، فيما يُمنع السجناء من الحصول على احتياجاتهم من خارج السجن، ما يضمن تدفق أرباح يومية للجهات المشغلة ويحول أبسط متطلبات الحياة إلى مورد دائم للربح.
ومع مرور الوقت، تطور “الكانتين” ليغدو مؤسسة اقتصادية راسخة داخل منظومة اقتصاد القمع، تُجبر المعتقلين على الاعتماد الكامل على منتجاته، وتحول احتياجاتهم الأساسية إلى جزء من اقتصاد السجن نفسه.
وقد وصف السجين السابق أحمد ناجي “الكانتين” بأنه “كيان اقتصادي متكامل” تُضخ فيه الأموال يوميًا عبر شاحنات البضائع وحركة البيع المستمرة، حيث يعتمد المعتقلون عليه لشراء الطعام والاحتياجات الأساسية بدلًا من طعام السجن الرديء.
وغالبًا ما يُمنع الأهالي من إدخال الطعام إلى ذويهم، وهي خطوة تبدو عقابية، لكنها تحمل بعدًا اقتصاديًا واضحًا، إذ يُجبر السجناء على شراء احتياجاتهم من الكانتين التابع لإدارة السجن بأسعار مرتفعة مقارنة بأسعارها خارج السجن.
وهكذا يتحول الطعام إلى وسيلة ابتزاز مالي ممنهج، تدر أرباحًا على الأجهزة الأمنية، وتزيد من معاناة الأسر التي تُثقلها التكاليف أصلًا، ومن المهم ملاحظة أن هذه المعاملات المالية لشراء الأغراض من الكانتين أو كافيتريا السجن لا ينظمها القانون المصري، ولا يوجد في لوائح السجون المصرية حتى مجرد ذكر للكانتين.
ابتزاز الأسر وتحويل الزيارات إلى جباية
زيارات السجون التي يُفترض أن تكون وسيلة إنسانية للتواصل، تحولت إلى منفذ رئيسي للجباية، إذ يجبر عائلات المعتقلين على دفع رشاوى للحراس لضمان إدخال بعض الأغراض أو السماح بالزيارة نفسها.
ومع نقل السجون إلى مناطق نائية مثل بدر ووادي النطرون، ارتفعت تكاليف التنقل والوقت بشكل كبير، حتى غدا كل لقاء بين الأب ونجله أو الزوج وزوجته عبئًا ماليًا ونفسيًا ثقيلًا تستنزف فيه الأسر مواردها وكرامتها معًا. هذا التنظيم القسري للزيارات لا يبدو هدفه الإدارة بقدر ما يشكل أداة للعقاب الجماعي خارج أسوار السجن، تُنهك ذوي المعتقلين اقتصاديًا وتزيد من معاناتهم المستمرة.
اقتصاد الرشاوى والخدمات الموازية
داخل السجون تعمل شبكات سمسرة غير معلنة، تُحول أبسط الخدمات إلى سلع مدفوعة: إدخال الدواء، البطانيات، المكالمات، وحتى المعاملة الإنسانية، يتقاسم الأرباح ضباط وعساكر وسجناء موالون، في سلسلة هرمية تبدأ من أصغر حارس وصولًا إلى مسؤولي السجون.
إحدى الشهادات تشير إلى أن عائلة معتقل كانت تدفع ما بين 250 و300 جنيه للحراس أسبوعيًا لمجرد السماح بوصول الأدوية، وبحسب أحد المعتقلين فإن عائلته وحدها تُساهم بما يقارب ضعف الراتب الشهري لثلاثة ضباط في السجن.
حتى التحرش والاعتداء الجسدي لعائلات المعتقلين أثناء الزيارات باتا يُتجنبان بالدفع المسبق، إذ أفادت زوجات معتقلين بأنهن اضطررن إلى دفع مبالغ مالية لتفادي المضايقات أو الاعتداءات من قِبل بعض حراس الأمن. ويُعد هذا جزءًا من منظومة أوسع من الابتزاز، حيث يطلب الحراس والمسؤولون الإداريون بانتظام رشاوى مالية من المعتقلين وأسرهم مقابل أبسط الحقوق.
الرعاية الطبية والابتزاز الدوائي
ضعف الرعاية الصحية الرسمية داخل السجون أوجد سوقًا سوداء موازية للأدوية، يُجبر أهالي المعتقلين على دفع الرشاوى لضمان وصول الدواء، أو شرائه بأسعار مضاعفة من وسطاء داخليين، بذلك تحولت المعاناة الصحية إلى سلعة تُباع وتُشترى داخل منظومة القهر.
🚨موجة وفيات في السجون المصرية.. “علامة تحذير” على سوء الأوضاع🚨
ذكرت منظمات حقوقية أن ما لا يقل عن اثني عشر معتقلًا لقوا حتفهم في السجون المصرية هذه السنة في ظل تدهور أوضاعهم. نقرأ في هذا التقرير عن الإهمال الطبي وسوء المعاملة والانتحار في سجون #مصر.
🔗 https://t.co/olHrzo2PS4 pic.twitter.com/4uwop7kDyI— نون بوست (@NoonPost) April 24, 2025
من المهم الإشارة إلى أن الرعاية الصحية داخل السجون المصرية لا تخضع لإشراف وزارة الصحة، بل تتبع إداريًا وأمنيًا لوزارة الداخلية عبر قطاع مصلحة السجون. ويعني ذلك أن إدارة الخدمات الطبية، وتعيين الأطباء، وتوفير الأدوية والمستلزمات، جميعها تتم ضمن المنظومة الأمنية نفسها، ما يجعل الرعاية الصحية جزءًا من أدوات السيطرة والابتزاز المادي، ويُضعف الرقابة المدنية والمساءلة الطبية، ويحول دون حصول المعتقلين على حقهم في علاج مستقل ومحايد.
النزيف المالي خارج الأسوار
تمتد دورة الاستنزاف إلى خارج السجون، حيث يتعامل الأهالي مع محامين ووسطاء مرتبطين بإدارات السجون لتسهيل الزيارات أو إدخال الأغراض، مقابل مبالغ نقدية متزايدة. كما يؤدي طول الحبس الاحتياطي –الذي أصبح بلا سقف زمني– إلى نزيف مالي متواصل على المحامين والإجراءات القانونية، يلتهم أموال الأسر ويدفعها إلى الاستدانة.
في جوهرها، تقوم هذه المنظومة على استثمار هشاشة المعتقلين ومعاناة أسرهم لتغذية شبكة مصالح متشابكة تمتد من أصغر ضابط إلى قمة الهرم الأمني، لقد غدا السجن أداة للإفقار المنهجي، تُحول كل أسرة معتقل إلى وحدة اقتصادية.
وعلى مستوى أوسع، صار الخوف من الاعتقال نفسه موردًا للسلطة، إذ راكمت التجارب الجماعية من التعذيب والحبس والانهيار المادي شعورًا عامًا بأن السجن ليس مجرد فقدانٍ للحرية، بل مسار شامل للفقد والإذلال والإفقار.
من العقاب إلى الاستثمار: العمل القسري داخل السجون
بعد عام 2013، برز العمل القسري داخل السجون المصرية كأحد الأعمدة الخفية لاقتصاد القمع، حيث أنشأت وزارة الداخلية منظومة إنتاجية واسعة تعتمد على تشغيل السجناء في ورش ومشروعات تشمل صناعة الأثاث والملابس والزراعة ومواد التنظيف والمشغولات اليدوية. وقد جرى تقديم هذه الأنشطة رسميًا تحت شعار “إعادة تأهيل السجناء”، لكنها في جوهرها مشاريع ربحية تُدر دخلًا مباشرًا لوزارة الداخلية وشركائها في الأجهزة الأمنية.
تُدار هذه الورش من خلال إدارات تابعة للسجون أو لضباط مسؤولين عنها، ويفرض على المعتقلين العمل لساعات طويلة بأجور رمزية، ومن دون أي ضمانات قانونية أو تأمين اجتماعي.
تُسوق منتجات السجون في معارض تابعة لوزارة الداخلية والتي أيضًا لا تكتفي بذلك، بل تشارك في كبرى المعارض المتخصصة المحلية، وتُقدم إعلاميًا كجزء من برامج “الإصلاح والتأهيل”، بينما تُسهم فعليًا في توليد عوائد مالية لا تدخل في الموازنة العامة للدولة، تُدار هذه العوائد ضمن حسابات خاصة لوزارة الداخلية، بعيدًا عن أي رقابة من الجهاز المركزي للحسابات أو البرلمان، ما يمنح المؤسسة الأمنية استقلالًا ماليًا يتيح لها إعادة تدوير الأرباح وتوسيع سلطتها دون مساءلة.
ومع تزايد هذا النشاط في الأعوام الأخيرة، أصبح السجن في ذاته وحدة إنتاجية مغلقة تعمل بمنطق السوق، حيث تتحول المعاناة إلى مصدر دخل، ويصبح السجن نفسه مدخلًا للاستثمار، فكل توسع في أعداد السجناء يعني وفرة في اليد العاملة الرخيصة، وكل توسع في الورش أو المشروعات يعني زيادة في أرباح الضباط والمستفيدين.
في الواقع، التجربة المصرية بهذا الشكل لا تنفصل عن تجارب سلطوية أخرى استخدمت العمل في السجون كأداة اقتصادية، ففي الصين، اعتمد نظام “لاوجاي” على تشغيل السجناء في المصانع تحت شعار “الإصلاح عبر العمل”، ولا يزال قائمًا حتى اليوم.
وفي الاتحاد السوفييتي شكل “الغولاغ” عمودًا اقتصاديًا قسريًا للإنتاج الصناعي، فيما خصخصت الولايات المتحدة منذ الثمانينيات بعض السجون لتشغيل السجناء بأجور زهيدة لصالح شركات خاصة.
غير أن النموذج المصري بعد 2013 يجمع بين هذه التجارب الثلاث في سياق أمني مغلق، فهو يستعير من السوفييت القهر السياسي، ومن الصينيين الانضباط الإنتاجي، ومن الأميركيين منطق الخصخصة المقنعة. والنتيجة منظومة هجينة تجعل من السجن فضاءً مزدوج الوظيفة، أداةً للضبط الاجتماعي والسياسي، ومصدرًا ربحيًا مستدامًا في آن واحد.
ختامًا، يمكن القول إن القمع في مصر مر بتحول جوهري من وسيلة للسيطرة السياسية إلى منظومة اقتصادية متكاملة تصنع الربح من الألم وتخدم مصالح النخبة الأمنية. فمنذ توسع السجون بعد عام 2013، بدأت الموارد تتدفق نحو الأجهزة الأمنية وشركات المقاولات والخدمات المتحالفة معها، لتصبح البنية التحتية للقمع نفسها مصدرًا للربح.
وهكذا، لم يعد السجن مؤسسة عقابية فحسب، بل مشروعًا اقتصاديًا متكاملًا يربط بين السيطرة والأرباح، وتحولت “صناعة السجون” في مصر إلى قطاع مزدوج الوظيفة، يعمق القمع، ويولد أرباحًا مستمرة عبر استنزاف المعتقلين وأسرهم، ليغدو الاعتقال ذاته استثمارًا يرسخ اقتصاد القمع واستدامته.