على أعتاب انتخابات 2026، يعود إدريس لشكر إلى واجهة المشهد السياسي المغربي، بعدما اختار المضي في ولاية جديدة على رأس حزب “الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية”، متجاوزا بذلك تقاليد اليسار في تداول القيادة. ورغم أن عقده الطويل في إدارة الاتحاد منذ 2012 ارتبط بفترات من التراجع الانتخابي، إلا أن السنوات الأخيرة شهدت عودة تدريجية للحزب إلى الواجهة، إذ استعاد بعضا من زخمه في آخر انتخابات أنهت هيمنة الإسلاميين عام 2021، وهو ما حفز طموح لشكر، البالغ من العمر 71 عاما، على السعي لقيادة الحكومة المقبلة.
جرى انتخاب لشكر خلال المؤتمر الوطني الثاني عشر، من 17 إلى 19 أكتوبر الحالي، حيث صوتت الأغلبية المطلقة لصالح تمديد ولايته، رغم أن 26 مشاركا من أصل نحو 1600 اعترضوا على هذا التمديد. وقد تبنى المؤيدون موقفا يبررونه بـ”المصلحة العليا للحزب”، بينما لوح معارضوه بالطعن في القيادة، ودعوا إلى تشكيلة قيادية جديدة لإعادة وهج الاتحاد الذي خفت منذ تجربة “التناوب التوافقي”.
أقرت الجلسة العامة خلال هذا المؤتمر تعديل المادة 217 من القانون الأساسي والمادة 212 من النظام الداخلي، لجعل “قاعدة التمديد” مبدأ عاما يشمل جميع أجهزة الحزب من المكتب السياسي إلى الفروع، حيث جاء هذا القرار استجابة لما اعتُبر مطلبا من قواعد الحزب وتقديرا لـ “المسار القيادي الاستثنائي” لإدريس لشكر، مانحا إياه غطاء قانونيا للاستمرار في قيادة الاتحاد لولاية رابعة.
يُفضل الاتحاد الاشتراكي استخدام لقب “الكاتب الأول” بدلا من “الأمين العام”، امتدادا لتقاليد الحركة النقابية واليسارية التي انبثق منها الحزب سنة 1975، حيث يعبر هذا اللقب عن الطابع الجماعي والديمقراطي للقيادة، ويُنظر إلى الكاتب الأول باعتباره منسقا ومسؤولا سياسيا أول بين رفاقه، لا زعيما فوقهم، غير أن إدريس لشكر، القائد الخامس في تاريخ الحزب، أعاد تعريف هذا المنصب على طريقته الخاصة، كحارس لذاكرة الاتحاد وموروثه النضالي.
نصف قرن من النشاط السياسي
شكلت السبعينيات محطة انطلاق إدريس لشكر في مسار سياسي سيلازمه لأكثر من نصف قرن، منذ أن برز شابا يساريا في صفوف “الاتحاد الوطني لطلبة المغرب” وتولى مسؤوليته بين 1972 و1976، وهو ما سيؤطر لاحقا مسيرته داخل “الاتحاد الاشتراكي”. سرعان ما وجد في العمل الطلابي بوابة إلى الفعل السياسي، فصعد داخل التنظيم الحزبي ليصبح أول قيادي وطني لـ “الشبيبة الاتحادية” ابتداء من عام 1975 إلى 1983، وهي مرحلة رسخت صورته كأحد أبرز الوجوه الواعدة في جيل حمل مشروع “النضال الديمقراطي” كخيار لتجديد اليسار المغربي.
حصل على الليسانس في العلوم السياسية من جامعة محمد الخامس بالرباط، مسقط رأسه، ثم اختار مهنة المحاماة عام 1982، ومع بدايات مساره المهني، بدأ تدريجيا الانتقال من فضاء الشبيبة إلى قلب المؤسسة الحزبية، فانتخب عضوا في اللجنة الإدارية عام 1984، واستمر في الصعود التنظيمي حتى بلغ المكتب السياسي عام 2001، وفي وصفه لتلك المرحلة يقول: “أصبحت حينها، وعمري لم يتجاوز العشرين سنة، مسؤولا عن لجنة التنسيق الوطنية المؤقتة للشبيبة الاتحادية (..) لم أتحمل المسؤولية في الاتحاد ترفا، بل لأنني كنت أعتبر التنظيم جسرا لإيصال أفكار الحزب إلى الناس”.
في حوار خاص مع نون بوست، يُقدّم الدكتور خالد البكاري @BekkariKhalid، الأكاديمي والناشط الحقوقي المغربي، قراءةً تحليلية للتجربة الاحتجاجية لـ”جيل زد” في المغرب، متوقفًا عند أسباب اندلاعها، وكيف تم التعامل معها من قِبل السلطات، وعن رفض شباب الحراك للحوار مع الحكومة والمطالبة… pic.twitter.com/1xvAisftbN
— نون بوست (@NoonPost) October 28, 2025
في التسعينيات، دخل إدريس لشكر مرحلة النضج السياسي بانتخابه نائبا برلمانيا عن حزب الاتحاد الاشتراكي في دورات 1993 ثم 1997 و2002، كما تولى رئاسة الفريق الاشتراكي بمجلس النواب بين 1999 و2007، على إيقاع مرحلة كان فيها الحزب في أوج حضوره السياسي؛ وهي الحقبة التي تزامنت مع قيادة الزعيم الراحل عبد الرحمن اليوسفي لحكومة التناوب التوافقي، واستمرت بين 1998 و2002، باعتبارها أول انتقال سلمي للسلطة إلى المعارضة اليسارية بعد عقود من الصراع السياسي.
لاحقا، تولى لشكر حقيبة وزارة العلاقات مع البرلمان عام 2010 في النسخة الثانية من حكومة عباس الفاسي، الأمين العام لحزب الاستقلال آنذاك، إلا أن فترة بقائه في المنصب لم تدم طويلا، إذ أعقب الربيع العربي عودة حزبه إلى صفوف المعارضة؛ ففي الانتخابات السابقة لأوانها عام 2011، فاز لشكر مجددا بمقعد في مجلس النواب ممثلا لمدينة الرباط، لكنه لم يترشح بعد ذلك في انتخابات 2016 و2021، مبررا ذلك برغبته في “تكريس نفسه للحزب”.
أسلوب نفعي مفرط
في الوقت الراهن، يثير تمديد ولاية إدريس لشكر جدلا واسعا داخل الحزب وخارجه، إذ يتهمه معارضوه بالتقاعس عن مواجهة سياسات الحكومة الحالية، ويرون أنه أخفق في صياغة مشروع اشتراكي متماسك يكون في مستوى مواجهة السلطة التنفيذية، وقادر على الدفاع الفعلي عن نبض المجتمع وتطلعاته، معتبرين أن خطه السياسي فقد شيئا من روحه الاحتجاجية.
ضمن الانتقادات الموجهة لإدريس لشكر، يبرز أيضا موقف حزب الاتحاد الاشتراكي من مبادرة “ملتمس الرقابة” التي أطلقتها المعارضة ضد الحكومة في ربيع 2025، قبل أن تتراجع عنها القيادة الاتحادية فجأة، معلنة انسحابها من التنسيق مع باقي مكونات المعارضة التي كانت تسعى للحصول على الأغلبية المطلقة لتمرير الاقتراح وإجبار الحكومة على الاستقالة. وقد اعتُبر هذا القرار دليلا على “النفعية المفرطة” التي اتسم بها أسلوب لشكر، وفق خصومه، مفضلا منطق التوازنات والحسابات السياسية على خيار المواجهة.
تجدد احتجاجات جيل زد في المغرب للمطالبة بإصلاحات في التعليم والصحة وتحسين الأوضاع المعيشية. pic.twitter.com/UAR77hNisj
— نون بوست (@NoonPost) October 27, 2025
تزامن انعقاد المؤتمر الأخير مع تصاعد احتجاجات شباب “جيل زد”، الذين رفعوا شعارات تطالب بتجديد النخب السياسية ومنح الشباب موقعا مؤثرا في القرار الحزبي، غير أن ما جرى داخل أروقة الاتحاد الاشتراكي بدا على النقيض تماما؛ إذ كشفت مصادر من داخل الحزب أن عملية التصويت على تمديد ولاية لشكر جرت في جلسة ليلية ضيقة، حضرها أقل من خمس المؤتمرين، بعدما غادر معظمهم القاعة للنوم. وبذلك أغلق عمليا الباب أمام أي منافس محتمل على منصب الكاتب الأول، فيما يستعد بعض الاتحاديين للجوء إلى القضاء للطعن في شرعية قرار التمديد.
ثقل الانقسامات وشيخوخة القيادة
يدرك إدريس لشكر أن أزمة الاتحاد الاشتراكي ليست معزولة عن التراجع العالمي لليسار، ويقر بأن الحزب يمر بمرحلة اختبار صعبة تهدد إرثه التاريخي، لذلك يتمسك بخيار البقاء في المشهد السياسي باعتباره شكلا من أشكال المقاومة ضد التآكل الذي أصاب الأحزاب التاريخية.
في المقابل، يرسم المؤرخ والسوسيولوجي محمد الناجي صورة أكثر قتامة عن “الاتحاد الاشتراكي”، إذ يصفه بـ “يتيم الحسن الثاني”، الذي فقد بوصلته الفكرية بعد رحيل الملك السابق، وأصبح يعيش اليوم على صدى شعارات قديمة ترددها وجوه شاخت سياسيا. بالنسبة له، لم يعد الحزب فاعلا في الحاضر بقدر ما أصبح أسيرا لماضيه، حتى بات مؤتمره الأخير تجسيدا رمزيا لأفول حزب كان يوما ضمير الحركة الوطنية، وتحول إلى كيان يتغذى على ذاكرته أكثر مما يصنع مستقبله
الاحتجاجات في #المغرب اليوم هي امتداد لمسارٍ طويل من التعبير الشعبي عن الغضب الاجتماعي والسياسي، يمتد منذ الستينيات، مرورًا باحتجاجات 2011 ثم حراك الريف 2016
📌تفاصيل أكثر في هذا التقرير 👇https://t.co/M2U9MmBbHO pic.twitter.com/0M5Is8b8Jr
— نون بوست (@NoonPost) October 14, 2025
كان “الاتحاد الاشتراكي” جزءا من التاريخ السياسي المغربي، لكنه اليوم يواجه أزمة شرعية مزدوجة بسبب احتكار القرار داخليا، ونتيجة تراجع قدرته على التأثير في المشهد العام؛ فقد تم تهميش النخب المثقفة، بينما طغت الأصوات الصاخبة والشعارات باسم الاشتراكية. ومع مرور الوقت، أضعف هذا المسار الأداء التنظيمي للحزب ووسع الهوة بين القيادة وقواعدها، حتى أصبح الانتماء إليه قائما على الولاء للأشخاص أكثر من الالتزام بالمبادئ والأفكار. وهكذا، سيدخل الحزب الانتخابات المقبلة مثقلا بانقساماته وشيخوخة قياداته.
