“إذا عندي طحين وزيت، صفّقتُ وغنّيتُ”، و”الزيت عمود البيت”، أمثالٌ شعبية فلسطينية توارثها الناس جيلًا بعد جيل، تختصر حكاية شجرة الزيتون، الشاهدة على التاريخ الفلسطيني، والمرتبطة بذاكرة الأرض والإنسان، فهي تتحدى الزمنَ والمستوطنين معًا، إذ لم تسلم من همجية وعربدة الاستعمار، وتعرضت للاقتلاع والحرق والإهمال الممنهج.
ارتفعت وتيرةُ اعتداءاتِ المستوطنين على قاطفي الزيتون من شمال الضفة الغربية إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، إذ يخوض المزارعون يوميًّا مواجهات متكرّرة مع المستوطنين الذين يداهمون أراضيهم ويمنعونهم من قطف ثمار الزيتون. إرهاب منظَّم وممنهج يمارَس تحت حماية جيش الاحتلال الإسرائيلي، وبدعم من سياسات وتشريعات إسرائيلية تمنح المستوطنين الحصانة، وتعفيهم من أي مساءلة أو محاسبة.
مقاومة الجدار: 259 اعتداءً توثّق عمق المأساة
بيّن مدير عام التوثيق في هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، أمير داوود، في حديثه لـ”نون بوست”، أنّه منذ انطلاق موسم الزيتون في الأسبوع الأول من تشرين الأول وحتى نهاية تشرين الثاني، رصدت فرق الهيئة 259 اعتداءً ضد قاطفي الزيتون والمزارعين، منها 41 اعتداءً نفّذه جيش الاحتلال، و218 اعتداءً من قبل المستعمرين.
وأضاف قائلًا: “أكثر المحافظات استهدافًا كانت رام الله بـ 83 حالة، تلتها نابلس بـ 69، ثم الخليل بـ 34 حالة. هذه الأرقام تُشكّل مؤشّرًا خطيرًا على حجم التصعيد، وتُظهر أن الاستهداف ممنهجٌ وليس عشوائيًا”.
وتابع حديثه موضّحًا أن الضرر كبير ومركّب، إذ هناك خسائر مادية مباشرة نتيجة تكسير أو سرقة الثمار، وتخريب أكثر من 1,070 شجرة زيتون في هذا الموسم فقط. كما أن هناك ضررًا نفسيًا ومعنويًا ناتجًا عن الاعتداءات المتكرّرة والشعور الدائم بالخطر أثناء العمل في الأرض، حيث حُرم كثيرٌ من المزارعين من الدخول إلى أراضيهم أو اضطروا لتركها خوفًا على حياتهم.
وأكد داوود أنّ الاعتداءات في المناطق المصنّفة (ب) و(ج) تعكس حقيقة واحدة، وهي أن الاحتلال يتعامل مع الضفة الغربية بأكملها كأنها خاضعة لسيطرته المطلقة، بغضّ النظر عن التصنيفات الإدارية. فالمناطق المصنّفة (ب) تقع إداريًا تحت مسؤولية السلطة الفلسطينية، إلا أنّ الاحتلال لا يحترم هذا التقسيم ويواصل تنفيذ اقتحامات واعتداءات فيها، كما يفعل في المناطق المصنّفة (ج) التي تخضع للسيطرة الأمنية الإسرائيلية الكاملة. وهذا يعني أن المزارع الفلسطيني لا يشعر بالأمان حتى في المناطق التي يُفترض أن تكون خاضعة لإدارته الوطنية.
وفي السياق نفسه، نشرت حركة “إم ترتسو” الإسرائيلية اليمينية المتطرفة عريضةً عبر موقعها الرسمي ومنصّاتها الرقمية، دعت فيها قيادة جيش الاحتلال إلى إعادة النظر في سياسة السماح للفلسطينيين بقطف الزيتون في المناطق القريبة من المستوطنات وطرق العبور الرئيسية.
وذكرت الحركة في عريضتها أنّ استمرار السماح للفلسطينيين بالدخول إلى هذه المناطق يُشكّل “خطرًا أمنيًا” على السكان اليهود. وفي الخامس من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، نشرت الحركة بيانًا قالت فيه إنها علّقت لافتاتٍ تُطالب بوقف موسم الحصاد.
وقال داوود: “بالفعل، تطبيقًا لهذه العرائض شهدنا هذا العام تصعيدًا غير مسبوق في اعتداءات المستوطنين على قاطفي الزيتون. السبب الرئيسي هو استغلال المستعمرين والجيش الإسرائيلي لظروف الحرب والعدوان المستمر على شعبنا لتوسيع نفوذهم الميداني في الضفة الغربية، خصوصًا في المناطق الريفية والزراعية. إذ يشعر المستعمرون بأنهم محميّون بالقانون الإسرائيلي، مدعومين من الحكومة التي وفّرت لهم السلاح والحصانة. لذلك رأينا هذا العام سلوكًا أكثر عنفًا وجرأةً في الاعتداءات، من الضرب المباشر إلى تكسير الأشجار وسرقة الثمار والمعدّات، وكل ذلك في ظلّ غياب أيّ محاسبة”.
وقد أكّدت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية في تقريرٍ لها أنّ اعتداءات المستوطنين حوّلت موسم قطف الزيتون إلى حدثٍ خطيرٍ وكارثة وشيكة، بعدما باتت الأراضي الفلسطينية ساحةً مفتوحةً للاعتداءات المتكرّرة على المزارعين وأشجارهم.
وأوضح داوود أن هذا التغيير يعكس التحوّل في الفكر الإسرائيلي العام بعد صعود اليمين المتطرف إلى السلطة. فلم يعد هناك أيّ تسامح حتى مع الأصوات الإسرائيلية أو الدولية التي تدعو للسلام أو العدالة، إذ يرى المستعمرون اليوم في كلّ من يقف إلى جانب الفلسطيني “عدوًّا”، بغضّ النظر عن جنسيته. لذلك أصبحت الاعتداءات على المتضامنين جزءًا من سياسةٍ ممنهجةٍ تهدف إلى إخفاء جرائم الاحتلال ومنع أيّ شهودٍ دوليين على ما يجري في الميدان.
وفي قرى “التماس“، كما يُطلق عليها الاحتلال الإسرائيلي، يخوض الأهالي مواجهاتٍ متكرّرة مع المستوطنين أثناء قطف ثمار الزيتون، إذ يمنعونهم بالقوّة من الوصول إلى أراضيهم وقطف محصولهم.
وتُعدّ قرية بيت إكسا إحدى القرى المقدسية المحاصَرة، حيث تفرض سلطات الاحتلال على سكّانها الحصول على تصاريحٍ للدخول إلى عتبة بيوتهم. وتواجه القرية، شأنها شأن غيرها من القرى الفلسطينية، معركةً على الأرض والوجود، إذ تحوّل موسم الزيتون فيها من موسمِ خيرٍ وبركةٍ إلى موسمِ حرب وصراع على البشر والشجر.
وفي هذا السياق، أشار داوود إلى أنّ من أكثر الملفات حساسيةً مناطق التماس والأراضي الواقعة خلف الجدار، حيث يوجد آلاف الدونمات خلف جدار الضمّ والتوسّع العنصري، تبلغ مساحتها أكثر من 260 ألف دونم. ويحتاج المزارع لتصريحٍ من الاحتلال حتى يدخل أرضه.
وأضاف: “الاحتلال يستخدم هذه التصاريح كأداةٍ للابتزاز والمنع، وفي كثيرٍ من الحالات يُسمح بالدخول لأيامٍ معدودة فقط، ومع ذلك يتعرّض المزارعون حتى في تلك الأيام للاعتداءات من قبل المستعمرين أو الجنود، في مشهدٍ يُلخّص عنصرية النظام الاستعماري الإسرائيلي تجاه الأرض وصاحبها الشرعي”.
وأشار داوود إلى أنّ المستوطنين لم يكتفوا بسرقة الزيتون والمعدّات، بل حتى سرقوا أجواء الموسم، قائلًا: “رأيناهم في فيديوهات يقطفون الزيتون الفلسطيني ويحتفلون في أرضٍ ليست لهم. من أكثر المشاهد استفزازًا محاولة الاحتلال والمستعمرين تزوير المشهد الثقافي وسرقة رموز الهوية الفلسطينية. فشجرة الزيتون بالنسبة للفلسطيني ليست مجرد مصدرٍ للزيت، بل رمزٌ للانتماء والجذور. عندما يسرق المستعمر الثمار أو يقطف الزيتون أمام الكاميرات، فهو يحاول القول إن هذه الأرض له. لكن الحقيقة راسخة: هذه الأرض كانت وستبقى فلسطينية مهما حاولوا تزييفها”.
وشدّد داوود على أنّ قيمة شجرة الزيتون بالنسبة للمزارع الفلسطيني كبيرةٌ جدًّا، فهي ليست مجرد شجرة، بل ذاكرةٌ عائلية ووطنية. كثيرٌ من المزارعين يورّثون أشجار الزيتون لأبنائهم كما يورّثونهم البيت أو الاسم، فهي شاهدٌ على التاريخ وعلى البقاء. لذلك، فإن الدفاع عنها هو دفاعٌ عن الذات وعن الوجود الفلسطيني.
وأشار إلى أنّ الاحتلال جعل من موسم الزيتون معركةً سنوية، وأنّ ضعف الإنتاج سببه صعوبة الوصول إلى الأراضي بفعل القيود العسكرية، ما يؤدي إلى انخفاض دخل آلاف الأسر الريفية التي تعتمد على الزيتون كمصدرِ رزقٍ أساسي، مؤكّدًا أنّ الخسائر المباشرة تُقدّر بملايين الشواكل، إلى جانب الأثر الاجتماعي على المجتمعات الزراعية.
وفي سياقٍ آخر، أوضح داوود دور هيئة مقاومة الجدار والاستيطان في دعمها وتعزيزها صمود المزارع الفلسطيني، قائلًا: “الهيئة تعمل على أكثر من مسار؛ ميدانيًا، من خلال التواجد اليومي في المناطق المهدّدة ومرافقة المزارعين. قانونيًا، عبر توثيق الانتهاكات ورفعها للمؤسسات الدولية. ومجتمعيًّا، من خلال دعم الحملات الوطنية مثل حملة “زيتون 2025” التي تعزّز روح الصمود والعمل التطوعي. نحن نعتبر أنفسنا درعًا يحمي المزارع الفلسطيني في مواجهة الاستيطان”.
وفي ختام حديثه، وجّه داوود رسالةً شديدة اللهجة للمجتمع الدولي، قائلًا: “كفى صمتًا وانتظارًا. المطلوب من المجتمع الدولي أن ينتقل من الإدانة إلى الفعل، وأن يفرض المحاسبة على دولة الاحتلال، ويوفّر الحماية الدولية للفلاحين الفلسطينيين الذين يدافعون عن أرضهم بأيديهم العارية. يجب أن تبقى شجرة الزيتون رمزًا للحق والعدالة، لا ضحيةً للعدوان والإفلات من العقاب”.
80% من زيتون سلواد بلا حصاد
أوضح رئيس بلدية سلواد، رائد حامد، في حديثه لـ”نون بوست” أن نحو 80% من أشجار الزيتون حُرم أصحابها من قطف ثمارها هذا العام، إذ لم يتجاوز حصاد الزيتون نسبة 10% من المحصول الذي يجنيه أهالي سلواد سنويًّا. ويعود ذلك إلى اعتداءات المستوطنين المتكرّرة على قاطفي الزيتون والمتضامنين الأجانب، حيث تعرّضوا للضرب المبرح، كما قام المستوطنون، بمساندة الجيش الإسرائيلي، بطرد المزارعين من أراضيهم ومنعهم من قطف ثمار الزيتون في عدة مناطق من البلدة، منها: البرج، باب الغرس، النصبية، وادي البلاط، ومنطقة عين الحرامية.
ويُشار إلى أن هذه المناطق مصنّفة “ب” وفق اتفاقية أوسلو، أي أنّها تتبع إداريًّا للسلطة الفلسطينية، فيما يُصنَّف الجزء الآخر منها ضمن مناطق “ج”.
وأشار حامد إلى أن المزارعين كانوا يتوجهون سنويًّا إلى أراضيهم لقطف الزيتون حتى بعد حرب السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، غير أنه منذ إقامة البؤرة الاستيطانية على أراضي سلواد في كانون الأول/ ديسمبر 2024، يمنع المستوطنون المزارعين من خدمة أراضيهم، سواء بالحراثة أو التقليم أو التسميد وغيرها من الأعمال الزراعية. وأضاف: “لم يكتفِ المستوطنون بمنعنا من قطف الزيتون، بل اعتدوا جسديًّا على المزارعين والمتضامنين الأجانب، وسرقوا أدوات القطف وأمتعة المزارعين وثمار الزيتون المقطوفة، كما أحرقوا مركباتهم وسرقوا جرارًا زراعيًّا، لكنهم أعادوه بعد ساعات إثر تدخل الارتباط الفلسطيني”.
وبيّن حامد أن المستوطنين عمدوا إلى تقطيع أشجار الزيتون وتكسيرها، فضلًا عن قيامهم بالرعي الجائر في الأراضي المزروعة، مما أدّى إلى تدمير العديد من الأشجار. وأضاف: “آلاف الدونمات لم يتمكّن المزارعون من الوصول إليها لقطف الزيتون، ليس فقط في محيط البؤرة الاستيطانية، بل تجاوزت اعتداءات المستوطنين ذلك لتطال كلّ المناطق المزروعة بالزيتون، من جبال سلواد إلى جبال قرى عطارة ويبرود وسنجل”.
وأوضح أن موسم الزيتون هذا العام لم يكن كمواسم الأعوام السابقة، إذ جاء ضعيفًا وشحيحًا، والسبب الرئيس في ذلك هو منع المستوطنين لأهالي البلدة من خدمة أراضيهم خلال العام الماضي، إلى جانب تحطيم الأشجار والرعي الجائر في الأراضي المزروعة.
أما عن قيمة شجرة الزيتون بالنسبة للمزارع الفلسطيني، فقد أكّد حامد أنّها ليست مجرد شجرةٍ مثمرة، بل رمزٌ وركيزةٌ من ركائز الهوية الفلسطينية. وقال: “شجرة الزيتون بالنسبة للفلسطيني ليست كمثيلاتها في الدول الأخرى، فهي تمثّل جذورنا التاريخية وهويتنا المتوارثة عن الآباء والأجداد. هي شجرةٌ مقدّسة في الإسلام، وتمثّل تمسّك الفلسطيني بأرضه وزيتونه. ورغم أن مردودها المادي قليل مقارنة بمحاصيل مثل العنب أو اللوز أو الكرز، إلا أن المزارع السلوادي يُصرّ على زراعتها لأنها جزءٌ من كيانه وهويته الوطنية. فالصراع مع الاحتلال هو صراعٌ على الأرض بكلّ أبعاده، التاريخية والاجتماعية والرمزية”.
وفي ختام حديثه، أشار حامد إلى أنّ المواطن الفلسطيني يواجه الاحتلال والمستوطنين وحده في بلدات سلواد وسنجل والمغير وترمسعيا وقصرة ودوما، مؤكّدًا أن اعتداءات المستوطنين تتكرّر يوميًّا، في ظلّ غياب خطةٍ وطنيةٍ موحّدةٍ تُوجّه الهيئات المحلية والمواطنين. وأضاف: “رغم وجود المتضامنين الأجانب، ما زالت الاعتداءات مستمرة، لذلك نوجّه رسالتنا إلى المؤسسات الدولية، على اختلاف توجّهاتها واهتماماتها، بأنّ الاعتداءات على الفلسطينيين والمتضامنين تقع أمام أعين الكاميرات، ومع ذلك لا نرى أيّ تحرّكٍ جاد، بينما تتفاقم الانتهاكات يومًا بعد يوم”.
زيتون يُقطف بالدم في ترمسعيا
وبدوره، تحدّث الناشط من بلدة ترمسعيا، عوض أبو سمرة، لـ”نون بوست” عن اعتداءات المستوطنين الهمجية على أهالي بلدتي ترمسعيا والمغير أثناء موسم قطف الزيتون، في منطقتي الثلجة والخلة الواقعتين بين البلدتين، وهما منطقتان مصنّفتان ضمن مناطق “ب” بحسب اتفاقية أوسلو، أي لا تحتاجان إلى تنسيقٍ مسبق للدخول إليهما.
وروى أبو سمرة تفاصيل الاعتداءات، قائلًا: “أقدم نحو خمسين مستوطنًا من فتيان التلال القادمين من البؤر الاستيطانية القريبة ومن مستوطنة شيلو المحاذية لقرية ترمسعيا، على تنفيذ اعتداءٍ همجي ضد المزارعين والمزارعات، مستخدمين الهراوات والآلات الحادّة، ما أدّى إلى إصابة سيدة من قرية المغير بجروحٍ خطيرة، بالإضافة إلى إصابة عددٍ من المتضامنين الأجانب الذين حضروا لمساعدة المزارعين بكسورٍ وجروحٍ متفاوتة”.
وأضاف أنّ المستوطنين لم يكتفوا بالاعتداء على المزارعين، بل قاموا بإحراق وإعطاب عشر مركباتٍ زراعية، وسرقة ثمار الزيتون والمعدّات الزراعية، وحتى طعام المزارعين. وأشار إلى أنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي حضر إلى الموقع وساند المستوطنين في هجومهم، إذ هدّد المزارعين بأسلحته وأطلق قنابل الغاز باتجاههم، قبل أن يطردهم بالقوّة من أراضيهم، بزعم أنّ المنطقة “عسكرية مغلقة”، رغم أنها مصنّفة ضمن مناطق “ب” حسب اتفاقية أوسلو.
وتابع أبو سمرة متسائلًا: “إذا كانت المنطقة مغلقةً عسكريًا، فهل هي مغلقة على الفلسطينيين فقط؟ لماذا يُسمح للمستوطنين بالبقاء هناك؟ كانوا يفرشون أغطيتهم تحت أشجار الزيتون أمام أعيننا، يقطفون ثمارنا بالعصي ويسرقون محاصيلنا. أرضنا أصبحت مستباحةً من قبل المستوطنين، ومحرّمة علينا نحن أصحابها”.
وبيّن أبو سمرة أنّ المستوطنين أعدموا نحو 700 شجرة زيتون قبل أسبوع، أعمارها تتجاوز 30 عامًا، في منطقة مرج السيع الواقعة بين أراضي قرى أبو فلاح وترمسعيا. كما اعتدوا على المزارعين أثناء قطفهم الزيتون في مناطق واد عمار والزاوية والجبلة.
وأوضح أنّ ترمسعيا تعاني من الاعتداءات الاستيطانية المتكرّرة منذ إقامة مستوطنة شيلو عام 1976، والتي تحيط بها اليوم بؤرٌ استيطانية عديدة. وشدّد أبو سمرة على أنّ خسارة أهالي ترمسعيا هذا العام كبيرةٌ للغاية، إذ حُرموا من الوصول إلى أكثر من سبعة آلاف دونمٍ من أراضيهم بسبب اعتداءات المستوطنين. وقال إنّ البلدة كانت تنتج في الأعوام السابقة نحو 200 ألف تنكة زيت سنويًّا، لكنها هذا العام لن تتمكّن من إنتاج أكثر من 50 ألف تنكة فقط.
وأضاف واصفًا الموسم بقوله: “هذا الموسم شحيحٌ جدًّا. أنا في الستين من عمري، ولم أشهد موسمًا أسوأ من هذا. السبب هو حرمان المزارعين من خدمة أراضيهم والعناية بها. فكما نقول دائمًا: إذا بدك الشجرة تعطيك، لازم تعطيها. المستوطنون يتعمّدون منعنا من الوصول إلى أراضينا لإظهارها كأنها مهجورة، ليُبرّروا لاحقًا الاستيلاء عليها بزعم أنها أملاك غائبين”.
وفي ختام حديثه، عبّر أبو سمرة عن ارتباطه العميق بشجرة الزيتون، واصفًا إيّاها بأنها الوطن والرمز والتراث والشعار. وقال مؤكّدًا: “الأفضل أن أموت في أرضي على أن أُهجَّر منها. لن نملّ ولن نكلّ، ولن نسمح للمستوطن الغاصب بأن يطردنا من أرضنا ويعتبر نفسه صاحبها. لن نسمح بتكرار نكبة 1948. أرضنا هي عرضنا، وثباتنا وإيماننا هما أساس حمايتها”.
غدرٌ عند البوابة: كفر مالك وكوبر بين المنع والاعتقال
كما هي الحال في ترمسعيا وسلواد، لم تسلم شقيقتُهما كفر مالك من اعتداءات المستوطنين وجيش الاحتلال الإسرائيلي، أثناء توجّه الأهالي إلى أراضيهم الواقعة خلف البوابة الحديدية المُقامة على الشارع الالتفافي المحاذي للقرية.
فآلاف الدونمات من الأراضي الزراعية لم يتمكّن سكان القرية من الوصول إليها لقطف ثمار زيتونهم، وبالتالي خسارة المزارعين تُقدَّر بالملايين من الشواكل. ولم يتوقّف الأمر عند هذا الحد، إذ هاجمت قطعان المستوطنين قاطفي الزيتون في منطقة تُعرف باسم “المناطير” داخل أراضي القرية، واعتدوا عليهم بالضرب ورشّ غاز الفلفل، ما أدّى إلى إصابة عددٍ من المزارعين بالاختناق والحروق.
ورغم الاعتداء، تصدّى أهالي كفر مالك للمستوطنين، وتمكّنوا من إجبارهم على التراجع ومغادرة المكان، في مشهدٍ يجسّد صمودهم وتمسّكهم بأرضهم رغم الخطر والعدوان.
“أمام وكالات الأنباء العالمية والمتضامنين الأجانب، أكّد جيش الاحتلال الإسرائيلي للمزارعين أنه لا مانع لديهم من دخول أراضيهم لقطف الزيتون. اتفقنا على الانطلاق عند الساعة السابعة صباحًا نحو أراضينا الواقعة خلف البوابة الحديدية في الجهة الجنوبية الغربية من البلدة. فتح الجيش البوابة وأدخلنا، لكن بعد نحو 200 متر، وتحديدًا في منطقة تُعرف باسم الدعك، أوقفنا الجنود ومنعونا من التقدّم نحو أراضينا، وأجبرونا على العودة. لقد منعونا من قطف الثمار رغم وجود قرار من محكمة العدل العليا الإسرائيلية يسمح لنا بدخول أراضينا وقطف الزيتون.” غدرونا. “ولم يكتفوا بذلك، بل قال لنا المستوطن المسؤول عن البؤرة الاستيطانية إن هذه الأرض ليست لنا، وإن علينا الرحيل إلى الأردن. فقلت له بوضوح: لن نرحل من هذه البلاد، وسنبقى فيها إلى أبد الآبدين”.
هذا ما رواه الدكتور فهد أبو الحاج، من قرية كوبر، لـ”نون بوست”، وأشار إلى أن جيش الاحتلال الإسرائيلي اعتقله وعددًا من شبّان البلدة أثناء محاولتهم قطف الزيتون، واقتادهم إلى جهةٍ مجهولة قبل أن يُفرَج عنهم ظهر اليوم نفسه. كما أشار إلى أن المستوطنين سرقوا معدّات القطف وأعطبوا سيارات المزارعين وسرقوا بعضها.
وأضاف أبو الحاج: “منع الاحتلال مزارعي كوبر من الوصول إلى أراضيهم في مناطق شعب المقشر وعين الجامع وعين الرحالة، التي تبلغ مساحتها نحو 6 آلاف دونم، ومنعهم من جني ثمار أكثر من 30 ألف شجرة زيتون. وقد تسبّب ذلك بخسائر تُقدّر بأكثر من 50 ألف شيكل. إضافة إلى ذلك، خسر أهالي البلدة ما يزيد عن 2800 دونم لصالح البؤرة الاستيطانية. أما أنا، فلم أستطع قطف ثمار 1100 شجرة زيتون في أرضي التي تبلغ مساحتها 36 دونمًا”.
ووصف أبو الحاج علاقته بأرضه وشجر الزيتون بكلماتٍ مؤثرة، قائلًا: “قطعة أرضي هي الهواء الذي أتنفّسه، روحي وحياتي فيها. وُلدت وتربّيت على ترابها. هذه الأرض لا تعرف أحدًا سواي، ولا تعرف هذا المستوطن الغريب عنها. أنا اعتنيت بها، سقيتُها، قلّمتُها وحرثتُها، حافظتُ عليها وتناغمتُ مع شجرها وحجرها حتى بدأت تثمر لي. هذه الأرض أرضنا، ويجب أن نحافظ عليها. لن نستسلم للاحتلال. خسارتُنا كبيرة، لكن ربّنا سيعوضنا. سنعود إليها مرّة ومرتين وثلاثًا، لأن إرادة الفلسطيني أكبر وأقوى من كلّ أسلحتهم وقنابلهم ورصاصهم”.
في هذا الموسم، امتزجت دماؤنا الفلسطينية بزيتنا الطاهر النقي، وسال الخير ممزوجًا بالألم، فتحوّل موسم الفرح والبركة إلى موسم صراعٍ ودماءٍ ووجعٍ مستمر. موسمٌ كان يُفترض أن يعمّ فيه السلام، فإذا به يتحوّل إلى معركةٍ مفتوحةٍ على شجر الزيتون وأصحابه، حيث يُستهدف ذهبُ فلسطين الأخضر، وكنزُها الثمين، وأساسُ بيوتها وإرثُها الحضاري.
لم يسلم هذا الرمز المقدّس من وحشية المستوطنين وعدوانية جيش الاحتلال، فقطعوا الأغصان كما يقطعون الأمل، وأشعلوا النيران في الجذور كما يُشعلونها في القلوب. ورغم كلّ ذلك، يبقى الزيت الفلسطيني شاهدًا على الصمود، ورائحة التراب الممزوجة بالدم تروي للعالم أن الأرض لا تُستباح ما دام فيها من يحرسها بالدم واليقين.