في اقتباس شهير لسيغموند فرويد مؤسس مدرسة التحليل النفسي يقول: “الطفل أب الرجل، بمعنى أنّ خبرات الطفولة والصراعات والمخاوف التي توجد في حياة الطفل تُشكّل شخصيته وتوجه سلوكه عندما يكبر، إنّ العقد النفسية منشأها خبرات الطفولة في الأساس، فإذا كانت هذه الطفولة مشوّهة فلنا أن نتخيل حجم الاضطرابات النفسية التي سيعاني منها الإنسان لاحقًا”.
وفي واقع حربي مملوء بالخوف والفقد والانكسار الإنساني وشح الخدمات والرعاية يعيش أطفال غزة على مدار عامين هذا الوجع النفسي والخلل البنائي في النمو والعديد من الصدمات النفسية وانعدام الأمان الذي يجعل جهازهم العصبي في حالة من التأهب المستمر لإحاطة الأخطار الكثيرة بهم طوال الوقت. هذا كله يُشكل وعيًا جديدًا لدى أطفال القطاع قائمًا على الخوف الوجودي، مشوهة فيه صورة العالم داخل وعي الأطفال مما يعيد صياغة البنية النفسية للطفولة في القطاع باعتبارها حالة خوف دائم من عالم فاقد لمعناه.
بداية غير طبيعية للحياة
أذكر في 2023 عندما سمعتُ عن أول عملية ولادة قيصرية أجراها الأطباء لامرأة غزية بدون بنج أنّ مقدار الألم الذي شعرتُ به في رحمي أنذاك لا يحتمل، وإلى يومنا هذا ما تزال أخبار الولادة القيصرية التي يشقّ بها الأطباء بطن المرأة بلا بنج في الحرب موضوعًا كارثيًا صعب على عقلي تقبله، وأنا التي جرّبت ألم القيصرية بعد أن استيقظت من البنج، وقد ولدت طفلي في أفضل المستشفيات من ناحية الرعاية الطبية، فكان ألم هذه النسوة صادمًا أيما صدمة لي.
فكيف الحال في مستشفيات غزة وقد تحوّلت إلى ساحات حرب، تلد فيها النساء مبكرًا من شدة التوتر الذي يصيبهنّ من الحرب، بلا تخدير وفي جو من أصوات القصف، والقلق على أنفسهنّ وعلى أطفالهن القادمين إن كانوا سيرون النور أم لا، هذا في أحسن الأحوال طبعًا، فقد لا تتمكن المرأة التي تلد من أن تصل إلى المستشفى أصلا.
في جباليا حاولت آية ديب الحامل بطفلة الوصول إلى المستشفى في أثناء المخاض، لكن أقصى ما قد وصلت له هو ممر في عيادة طبية ولدت فيها خلف ستارة حاول الموجودون أن يخلقوا لها مساحة من الخصوصية من خلالها، وبعيدًا عن زوجها وتحت أصوات الطائرات أنجبت يارا الطفلة التي لم تحصل على شهادة ميلاد ولم تُعطى أي تطعيم بسبب عجز المواد الطبية في القطاع. وعلى الرغم من كل هذه المخاطر والآلام والمخاوف لم ينقطع فعل الحمل والولادة في غزة خلال هذين العامين؛ ذلك أنّ الاستمرارية في التكاثر هي فعل وجودي مقاوم في ذهن الغزي، ولأنهم يريدون أن يكون طبيعيين حتى في الظرف غير الطبيعي.
يولد الطفل ببراءة تجعل كل من يراه يخشى عليه المعاناة التي يتحملها أهل القطاع، ويكبر الخوف لدى والديه من فقدانه في هذا القصف الجائر الذي لا يفرّق بين كبير وصغير أو مقاوم ومدني، وبدل أن يسمع تهويدة أمه فإنّه ينام على الزنانات وأصوات القصف والصراخ، ويفزّ على قذيفة، ومع حصار النار والجوع والأدوية والاحتياجات الأساسية في الحياة التي منعها الاحتلال عن أهل القطاع كانت هذه التخوفات على نجاة الأطفال دائمًا ما تكبر، إذ إنّ القصص التي نسمعها عن انقطاع الحليب في صدور الأمهات المرضعات كثيرة وعائدة إلى سوء التغذية الذي تتعرض له الأم ومقدار التعب الذي تعيشه في الخيم والنزوح من منطقة إلى أخرى سيرًا على الأقدام، عدا عن الحالة النفسية السيئة التي تعيشها الأمهات من خوف ووجع على أوضاعهنّ وحزن على من فقدوا خلال الحرب.
إنّ وضع الولادة في غزة كان مأساويًا طيلة فترة الحرب، فقد نشرت اليونيسيف في هذا العام شهادات من مجمع ناصر الطبي في جنوب القطاع، حيث إنّ الأمهات الجدد وأطفالهنّ حديثي الولادة يرقدون على أرض المستشفى من شدة اكتظاظها، ولشحّ الموارد الطبية هناك فإنّ الأطباء يضطرون لجعل الأطفال الخدَّج يتشاركون أجهزة الأوكسجين.
عدا عن الأطفال الذين يولدون بتشوهات بدنية بسبب الغازات الكيميائية التي تستنشقها الحوامل في غلاف غزة، ونذكر أيضًا الولادات التي ينجو فيها الجنين وحده وتموت أمه، فهناك صابرين السكني التي كانت حاملًا بطفلة عندما قتلتها غارة إسرائيلية هي وزوجها وطفلها البالغ من العمر ثلاث سنوات في رفح، غير أنّ الأطباء استطاعوا إجراء عملية قيصرية واستخراج الجنين الحي من الجسد الشهيد، فكانت المولودة التي سُميت لاحقًا “روح صابرين” يتيمة الأب والأم من قبل أن تولد حتى! إنّ فعل الولادة يُشكّل صدمة كبيرة على الأم التي تولد في أشد الأوضاع خطورة وقلقًا، ومنظر الدم وصوت الانفجارات وقلة الرعاية يؤثر بشكل مباشر على شعورها بعدم الأمان والخوف وبالتالي على علاقتها بطفلها.
إنّ هذه الطفولة التي تخرج إلى الحياة من وسط الموت والركام لا تعرف ماهية الحرب، لكنها تستشعرها منذ لحظة الولادة من أول استنشاقة لرائحة الصواريخ والبارود، وأول جوع وبرد يستشعره الطفل في الخيام، لكن استمرارية وجود هذه الولادات علامة على رغبة أهل غزة في خلق الحياة وإثبات أنّهم قادرون على الصمود دومًا.
ملامح الطفولة المفقودة
إنّ الحرب التي عاشها أطفال غزة في هذين العامين طبعت ندوبًا في أنفسهم قد يحتاجون وقتًا طويلًا للشفاء منها إذا ما استقروا إلى الأوضاع الطبيعية للحياة، حيث أثرت الحرب دون أدنى شك على تطورهم النفسي والاجتماعي وحتى العلمي الذي كان شبه منقطع خلال فترة الحرب، ومن الأمثلة الرئيسة على فقدان ملامح الطفولة في الحرب:
– اللعب: فاللعب على سبيل المثال الذي يعد وسيلة للتطور المعرفي للأطفال بتحفيزه للخيال والذاكرة والقدرات الاجتماعية، والذي يعتبر لغة الطفل في التعبير عن نفسه قد اختلف بشكل صادم لدى أطفال غزة ما يجعلنا نعاين الخلل الذي طرأ على البنية النفسية للطفل هناك. لقد انتشر فيديو لأطفال في إحدى مدارس الإيواء يلعبون لعبة الشهيد والدفن، فيحملون أحد الأطفال الذي يمثل دور الشهيد ويكبِّرون، إنّ هذه اللعبة بذاتها تعد إعادةً لتمثيل الصدمة التي يعيشها الطفل، فبدلًا من أن يتجنبوا الأحداث والذكريات المؤلمة فإنّهم يكررونها تمثيلًا، في محاولة غير واعية للسيطرة على الحدث في رؤوسهم ومحاولة فهمه، وهذا يتمثّل أيضًا في لعبة الاختباء والقصف، فإنّهم بهذه اللعبة يكونون مخرجين وليسوا ضحايا؛ إذ يختارون من يموت بأنفسهم في اللعبة، مما يشعرهم بالسيطرة على مصيرهم ولو كان من خلال لعبة مؤقتة. تكشف ألعابهم أيضًا عن حاجاتهم إلى الحياة الآمنة ووفرة الأساسيات الطبيعية للإنسان، فيكشف خيالهم أيضًا عن احتياجاتهم في الحرب وذلك من خلال اللعب التعويضي، الذي يتخيل فيه الطفل أنّه في أسرة تعيش يومًا عاديًا من مأكل ومشرب وأمان، وهي لعبة “بيت بيوت” التي تكشف قباحة الإجرام الحربي في سلب الأطفال حتى ذويهم ما يجعلهم يتمثلون أدوار الطفل العادي في ألعابهم الخيالية.
– البراءة المسلوبة: ليس خيال الطفولة وحده من عبّر عن الأزمة النفسية التي يعيشها الأطفال في غزة، وإنّما مفرداتهم اللغوية التي استبدلت كلمات الرسوم المتحركة والمدراس بكلمات مثل الاستشهاد وشهيد وقصف ونزوح و”وين العرب”، ما يعطي صورة مسموعة عمّا يشاهده ويعايشه الطفل هناك، حتى أنّنا نجد في الصلابة النفسية لدى الأطفال الذين عاشوا أحداثًا مروّعة كثيرة في الحرب وكانوا منذ زمن يسمعون منطق ومعتقدات عائلاتهم حول الوجود الإسرائيلي والحروب الماضية والانتهاكات الممارسة على أهل القطاع، ما جعل كثيرًا من هؤلاء الأطفال يُقدِمون على تكرار عبارات العزاء للناس ويُصبرونهم على فقدهم، كالأطفال الذي يعزون أمهاتهم بموت والدهم أو أحد إخوتهم. هذا نضج قسري لم يكن يملك الطفل بديلًا عنه؛ لأنّه شهد وسمع ما سلبه الطفولة مبكرًا، فتسمعه يتكلم بلسان عجوز متجاوزًا مراحله النمائية التي كان يجدر أن يمر بها عبر زمن وظروف طبيعيين، إلّا أنّ هذا الانبهار الذي نحمله إزاء شجاعة وفصاحة هؤلاء الأطفال ممزوج بحزن على كونه نضج مشوّه يضع الطفل في موقع عليه فيه أن يتحمل مسؤولية أكبر مما يملكه من أدوات نفسية لتحملها، وتجعلنا نفهم صراح البقاء الذي يعانيه.
– تشوه صورة العالم: تعدّ الطفولة المرحلة التي يبني فيها الإنسان تصوّراته الذهنية عن العالم بخلق نموذج داخلي للعالم إن كان آمنًا أو عادلًا أو مكانًا مخيفًا مرهقًا للعيش، وفي ظل الظروف الحربية لأطفال القطاع، فلا بد وأنّ النموذج اللاوعي الذي تشكّل للعالم عند الطفل مشوهٌ من جذوره، ويحطّ من قيمة الذات واستحقاقها للحب والرعاية.
فقد التقطت شخصيًا عبر فيديوهات مصوّرة في أول الحرب وأخرى قبل ثلاثة شهور، عن تكسّر صورة العالم والذات لأطفال غزة، ففي فيديو في أول شهور الحرب يُصور الصحفي طفلًا يأخذ البرتقال عن الأرض ليأكله، وما إن انتبه الطفل إلى أنّه أمام الكاميرا حتى رمى البرتقال وحرص على إظهار أنّه لم يكن يريد أكله أساسًا، والفيديو الآخر لطفل قبل ثلاثة أشهر كان يأكل الرز من الأرض واقترب منه المصوّر فأكمل الطفل الأكل وأشار للمصوّر بيده بحركة تعني “صوّر أكثر”. إنّهم وبسبب الظروف غير الطبيعية التي عايشوها انخفض عندهم مستوى المبالاة الاجتماعية أو الرغبة في إظهار أي صورة حسنة عن الذات أمام الآخرين.
إنّهم يعتقدون بأنّهم يعيشون أسوأ أشكال الحياة المعيشية التي قد يحياها الإنسان، مع عدم ضمان أي وقت للبقاء على قيد الحياة. إنّ هذا الإدراك لهشاشة الوجود منذ الطفولة يزرع بذور القلق الوجودي، وعدم الاستحقاق ليفقد الطفل قدرته على تخيّل مستقبل زاهر وآمن له، وعدم الأمان عالي الدرجة هذا له تبعات عديدة أهمها العجز عن بناء ارتباطات عاطفية آمنة مع الآخرين بما فيهم ذويه، فسيتذبذب شعوره نحوهما ما بين التعلق الشديد المختلط بالخوف من فقدانهما والانسحاب العاطفي المختلط بعدم الثقة بالآخرين، وهذا الخلل النفسي الذي بنته الحرب داخل أنفس أطفالنا في القطاع إذا ما تمت معالجته فإنّه سيتحوّل إلى نمط دائم يؤثر على علاقاتهم المستقبلية.
في الختام، فإنّ ملامح الطفولة المسلوبة، والأذى النفسي الذي ضرب ذروة عملية البناء النفسي لدى أطفال القطاع كبير على التعداد، وعميق في الضرر، ويحتاج إلى سنوات طويلة في العلاج لاستعادة الأمان النفسي، وذلك يحدث أولًا إذا ما توافرت المساحات والظروف الآمنة لهؤلاء الأطفال ليُسمح لهم بإعادة اكتشاف طفولتهم المسروقة بالموت والجوع والحرمان والفقد.
إنّ شهادة الطفل على كل ما يحدث، واعتباره جزءًا منه سيقطن طويلًا في أعماق نفسه مهما كبر، إلًا أنّ مساعدتهم الآن قد تحمي ما تبقى فيهم وتُعالج وتُعوّض ولو بجزء بسيط عمّا تعرضوا وما زالوا يعيشونه إلى اليوم من فظائع الحرب.
