قال رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان، عقب استيلاء الدعم السريع على الفاشر بعد قتال شرس استمر 18 شهرًا، إن القوات المسلحة وحلفاءها قادرون على قلب الطاولة مرة أخرى واستعادة الأراضي التي تسيطر عليها المليشيا.
لم يوضح البرهان كيفية استعادة معظم دارفور وأجزاء واسعة في كردفان من قبضة المليشيا، لكن المؤكد أنه لا يزال يملك أوراق ضغط تتنوع بين السيادية والسياسية والعسكرية، وصولًا إلى الاجتماعية والاقتصادية في دارفور، رغم فقدانه الفاشر التي تُعد عاصمة الإقليم التاريخية، وتربط السودان بشريط حدودي يمتد إلى تشاد وليبيا وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان.
سقطت الفاشر بعد حصار بري وهجمات بلغت في مجملها 267 معركة، استنزفت الجيش الذي قاتل دون خطوط إمداد، مما اضطره إلى الانسحاب من المدينة نتيجة لعوامل كثيرة، أهمها الاستخدام المكثف للطائرات المسيّرة، وتدخل طيران أجنبي، وقطع خطوط الاتصالات بواسطة مخابرات أجنبية.
156 رحلة جوية خلال شهرين ومؤشرات على تدخل عسكري خارجي تسلط الضوء على أدوار إقليمية في تغذية الصراع، وتفتح الباب أمام أسئلة كبرى عن التواطؤ في المأساة #السودانية
الفاشر المعزولة: مدينة تُقتل بالرصاص والتعتيم الإعلامي❗https://t.co/XCFoUOa0An
مقال لـ: @alfati7_ma7md pic.twitter.com/BBB63GQVNv— نون بوست (@NoonPost) November 1, 2025
التواجد العسكري
بات انتشار الجيش، بعد فقدان الفاشر، محدودًا في مناطق نائية تقع في أقصى شمال دارفور مثل الطينة على الحدود مع تشاد، ومنها إلى كرنوي وأمبرو وأروري وأبو قمرا، مع ميزة عدم إمكانية اختراقه في هذه المناطق، نظرًا إلى أن معظم مقاتلي القوة المشتركة ينحدرون منها.
ويتيح له هذا التواجد تعزيز صفوفه مع استمرار تدريب مقاتلي القوة المشتركة، التي تتألف من حركات في مقدمتها فصيل يقوده حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي، وآخر بزعامة وزير المالية جبريل إبراهيم، وثالث برئاسة اللواء في الجيش بخيت دبجو، وجماعات أخرى، منها حركة يقف على رأسها عبد الله عبدة، وهي قوة تعتمد على الاستنفار القبلي والخبرة الطويلة في حرب العصابات.
ويتواجد عبد الله، الذي يقود تجمع قوات حركة العدل والمساواة، في صحراء شمال دارفور، بما في ذلك في وادي هور وجبل عطرون، حيث حارب سابقًا إلى جانب الجيش في المالحة، ونشط في اعتراض الإمدادات التي تصل إلى الدعم السريع، مستفيدًا من معرفته الواسعة بحدود السودان وليبيا وتشاد.
وإضافة إلى هؤلاء، يتمركز في شمال دارفور، تحديدًا في بادية مستريحة وأجزاء من كبكابية، موسى هلال، الذي يُعد زعيمًا أهليًا ذا نفوذ واسع وسط القبائل العربية، ويدين له بعض قادة المليشيا مثل علي رزق الله “السافنا”.
أعلن موسى هلال تأييده للجيش، الذي تلقى منه دعمًا عسكريًا بعد نشوب الحرب ضد الدعم السريع، كما تواصل مؤخرًا مع القوة المشتركة في خطوة ترمي إلى بناء تحالف جديد، حيث تستطيع القوات المسلحة اتخاذ المناطق الخاضعة لسيطرته قاعدة خلفية لتعطيل تحركات المليشيا، خاصة أنه يشكل حاليًا مركز ثقل موازٍ للدعم السريع.
ولا يمكن تجاهل شبكة التحالفات الأهلية في دارفور، بداية بالمحاميد والزغاوة والبرتي في شمال دارفور، مرورًا بعشائر من الفور بوسط الإقليم.
وإن استطاعت الحكومة الوصول إلى توافق مع حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور، التي تسيطر على جبل مرة بوسط دارفور ومحلية طويلة التي تبعد حوالي 60 كيلومترًا من الفاشر، يستطيع الجيش استخدام مواقعها لشن هجمات على نيالا.
الحقوق الحصرية
ويحتفظ الجيش بأوراق ضغط أخرى لا علاقة لها بتواجده في الأرض، منها احتفاظه بسلطة رسمية وقانونية على المعابر التي تشمل معبر أدري في غرب دارفور مع تشاد، والرقيبات في شرق دارفور مع جنوب السودان، ومعابر أخرى غير رسمية في الحدود مع ليبيا وأفريقيا الوسطى.
ولا تستطيع أي دولة أو منظمة تجاهل الحق الحصري للجيش في فتح وإغلاق المعابر، مما يجرد المليشيا من أي تواجد رسمي في دارفور لا ترغب فيه القوات المسلحة، علاوة على تجريدها من تصاريح مرور المساعدات والعاملين في المجال الإنساني.
وتوصل السودان إلى اتفاق مع جنوب السودان في 6 أكتوبر/تشرين الأول السابق، على ضبط وتنظيم الحركة في المعابر الحدودية، مع توفر إمكانية لعقد اتفاق مماثل مع تشاد، واتفاق مع أفريقيا الوسطى لتشديد الرقابة على الحدود؛ لمنع تهريب الذهب والوقود.
ونجحت الضغوط سابقًا في إجبار تشاد على منع مرور البضائع والسلع منها إلى غرب دارفور عبر السيارات، حيث تشترط مرورها بعربات صغيرة تجرها الحمير، مما أجبر الدعم السريع على الاستعانة بطرق إمداد بديلة شملت ليبيا ومطار نيالا.
ويتحكم الجيش أيضًا في المجال الجوي السوداني، وهو ما يتيح له مراقبة حركة الطيران التجاري والإنساني، وكذلك القدرة على الاعتراض على أي دعم لوجستي محتمل يُرسل إلى الدعم السريع عبر الأجواء، حيث دمّر سابقًا طائرات هبطت في مطار نيالا بولاية جنوب دارفور.
وتظل الدولة بمؤسساتها تملك سلطة إصدار واستبدال العملة، والتحكم في النظام المالي، ووضع سياسات النظام المصرفي، إضافة إلى حق إصدار وثائق الهوية والجوازات، ومنح التراخيص التجارية، حيث يستطيع الجيش عبر هذه الأدوات التحكم في اقتصاد دارفور من خلال تقييد حركة الأموال أو الحد من تداول العملة الجديدة في مناطق خارجة عن سلطته.
– تصاعدت حملة عالمية لمقاطعة الإمارات بعد اتهامات متزايدة بدعم قوات “الدعم السريع” المتورطة في مجازر السودان، وسط مطالبات بمحاسبة أبوظبي على ما وصفه ناشطون بـ”تورط مباشر في تأجيج الصراعات الإقليمية وتمويل حرب الإبادة الجارية في الفاشر”
– كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية،… pic.twitter.com/M3Z14iGTmD
— نون بوست (@NoonPost) October 31, 2025
وبدأت مؤسسات العدالة في ملاحقة قائد المليشيا، الذي يُحاكم غيابيًا مع قادة آخرين في قضية اغتيال والي غرب دارفور خميس عبد الله، مما يضيق نطاق تحركاته في الخارج حال إدانته المحكمة، وربما لن يجد دولة تستقبله علنًا لتلافي الحرج بعد الجرائم الفظيعة التي ارتُكبت في الفاشر.
وتحتفظ الدولة بتمثيل سيادي يعطيها شرعية الاعتراض على الدعم الذي يُقدَّم إلى المليشيا، وعلى استخدام أراضي وأجواء دول الجوار لتمرير هذا الدعم، حيث يستطيع الجيش عرقلة تدفق الإمدادات والمرتزقة والكشف عنها.
طرق مواجهة جديدة
لا يستطيع الجيش، حاليًا، شن هجمات واسعة النطاق من داخل دارفور على المليشيا، لكنه يستطيع إدارة صراع استنزافي طويل الأمد عبر تعزيز قدرات حلفائه عسكريًا ولوجستيًا، وتفكيك القاعدة الاجتماعية التي يعتمد عليها الدعم السريع، وتشجيع القادة الميدانيين على الانشقاق.
ويمكن للجيش استثمار فقدان الفاشر بالسعي إلى الحصول من الدول الحليفة على عتاد حربي متطور، يشمل الطائرات المسيّرة، يستهدف بها تمركزات وإمدادات المليشيا في دارفور.
ويُرجّح أن يبدأ حلفاء الجيش داخل دارفور شن هجمات خاطفة ضد الدعم السريع في مناطق متنوعة، من أجل تشتيت قواه وحرمانه من الاستقرار الإداري والسيطرة، إضافة لنصب الكمائن في الصحراء التي يمر عبرها معظم إمدادات المليشيا، مع التركيز على حشد قوات إضافية في الولاية الشمالية وكردفان.
إذًا، يمتلك الجيش أوراقًا تتمثل في السيطرة على الحدود والمجال الجوي والشرعية الرسمية، علاوة على الأدوات الاقتصادية والقانونية، إضافة إلى تحالفات محلية قادرة على تعطيل استقرار الدعم السريع وتطويقه على المستوى الإقليمي والدولي والمالي.
ويبقى مستقبل دارفور معلّقًا على قدرة الجيش على التوظيف الذكي والمتدرج لهذه الأدوات، بموازاة الانخراط الفاعل في الضغوط الدبلوماسية، حيث إن خضوع الإقليم لسيطرة طويلة يعني تحوّله إلى ساحة فوضى لا سلطة فيها سوى سلطة السلاح والانتقام والولاءات القبلية.
