كانت الكهرباء في سوريا، خلال العقد الماضي، حلمًا يوميًا للمواطن، يغيب أغلب اليوم، فينتظرها بفارغ الصبر ليقضي أعماله المتراكمة فور عودتها، وسعى جهده للتكيف مع غيابها عبر حلول الطاقة البديلة، لمن استطاع إلى ذلك سبيلًا.
أما اليوم، فقد تحوّل هذا الحلم إلى كابوس بعدما أعلنت وزارة الطاقة مؤخرًا عن رفع أسعار الكهرباء بنحو 60 ضعفًا، ما أثار موجة من ردود الفعل المتباينة، غلب عليها الاستياء الشعبي والصناعي.
ووُصفت هذه الخطوة بأنها “مفاجئة وغير محسوبة”، لتتحول الفاتورة من بند ثانوي إلى عبء ثقيل على الأسر والصناعيين، وسط وعود حكومية بتحسن الخدمة وزيادة ساعات التشغيل.
الشرائح السابقة مقابل الشرائح الجديدة
القديمة
قبل القرار، كانت تعرفة الكهرباء موزعة على خمس شرائح:
الشريحة الأولى: من 1 إلى 600 كيلو واط ساعي – بسعر 10 ليرات سورية للكيلو واط
الشريحة الثانية: من 601 إلى 1000 كيلو واط – بسعر 25 ليرة
الشريحة الثالثة: من 1001 إلى 1500 كيلو واط – بسعر 135 ليرة
الشريحة الرابعة: من 1501 إلى 2500 كيلو واط – بسعر 600 ليرة
الشريحة الخامسة: فوق 2500 كيلو واط – بسعر 1350 ليرة
الجديدة
وفقًا للقرار الجديد، تم اعتماد أربع شرائح فقط:
الشريحة الأولى وأُطلق عليها (ذوو الدخل المحدود): حتى 300 كيلو واط شهريًا بسعر 600 ليرة للكيلو واط، تتحمل الدولة 60% من الكلفة (سيدفع المنزل الذي يستهلك 300 كيلو واط خلال دورة شهرين ما يصل إلى 180 ألف ليرة سورية، أي ما يعادل 17 دولاراً)
الشريحة الثانية (الدخل المتوسط والمشاريع الصغيرة): أكثر من 300 كيلو واط بسعر 1400 ليرة لكل كيلو واط
الشريحة الثالثة (المعفيون من التقنين): المؤسسات الحكومية والمصانع بسعر 1700 ليرة لكل كيلو واط
الشريحة الرابعة (المعامل ذات الاستهلاك العالي): مثل معامل الصهر بسعر 1800 ليرة لكل كيلو واط
ردود الفعل
القرار أثار موجة من ردود الفعل المتباينة، وفقًا لرصد أجراه “نون بوست”، غلب عليها الاستياء الشعبي والصناعي، حيث اعتبر كثيرون أن الفواتير الجديدة لا تتناسب مع دخلهم الشهري.
كما عبّر مواطنون عن مخاوفهم من غياب قارئ العدادات، ما يؤدي إلى تراكم الاستهلاك دون رقابة، وبالتالي صدور فواتير ضخمة دون وجود آلية واضحة لمعالجة هذه المشكلة حتى الآن.
بدوره، وصف رئيس غرفة صناعة دمشق وريفها، المهندس محمد أيمن مولوي القرار بأنه “مفاجأة غير محسوبة”، مؤكدًا في تصريحات صحفية، أن كلفة الكهرباء في سوريا لا تزال الأعلى مقارنة بدول الجوار، خاصة مع فتح باب الاستيراد، مما يضع الصناعيين في موقف لا يُحسدون عليه. كما أعلنت الغرفة نيتها تقديم كتاب اعتراض رسمي، مطالبة بالتراجع عن القرار.
من جهته، حذر نائب رئيس القطاع الكيميائي في الغرفة، محمود المفتي، من أن القرار يشكل عبئًا جديدًا على الصناعة المحلية، وقد يؤدي إلى ارتفاع أسعار المنتجات بنسبة تتراوح بين 4-5%، خاصة في الصناعات التي تعتمد بشكل كبير على الطاقة، مثل معامل السيراميك والزجاج.
وعود حكومية بتحسن الخدمة وتخفيض الكلفة
في المقابل، دافع وزير الطاقة، المهندس محمد البشير، عن قرار رفع تعرفة الكهرباء، معتبرًا إياه خطوة أولى وأساسية في مسار إصلاح شامل لمنظومة الكهرباء في سوريا. وأوضح في تصريحات إعلامية أن هذه الخطوة ستتبعها إجراءات فنية وتنظيمية تهدف إلى تعزيز كفاءة القطاع وتحسين مستوى الخدمة.
وأشار البشير إلى أن الوزارة تعمل على زيادة القدرة الإنتاجية من خلال مشاريع توليد جديدة، إلى جانب تركيب عدادات ذكية لضبط الاستهلاك وتحسين عمليات التحصيل، مؤكدًا أن الخطة تشمل أيضًا تطوير شبكات النقل والتوزيع، وتخفيض الفاقد الفني والتجاري، بما يضمن استدامة الخدمة ورفع كفاءتها في مختلف المحافظات.
من جانبه، أكد مدير الاتصال الحكومي في وزارة الطاقة، أحمد السليمان، أن تحسن الكهرباء سيبدأ منتصف العام القادم، ليصل إلى 14 ساعة تشغيل يوميًا، مقارنة بـ8 ساعات حاليًا في جميع المحافظات.
السليمان أشار إلى أن المواطن سيبدأ بدفع الفواتير بالتعريفة الجديدة اعتبارًا من مطلع العام القادم. وفيما يتعلق بالقطاع الصناعي، أوضح أن كلفة الكهرباء للمعامل خُفضت من نحو 25 إلى 15 سنتًا، بعد إلغاء الرسوم والضرائب، وهو ما أكدته وزارة المالية التي أصدرت قرارًا بإعفاء جميع الصناعيين والمنتجين من هذه الرسوم.
وشدد السليمان على أن الأسعار لن تشهد ارتفاعًا جديدًا في الفترة القادمة، حتى مع دخول استثمارات جديدة، مؤكدًا أن التعرفة الجديدة صُممت لتكون جاذبة للمستثمرين، وتُسهم في استقرار المنظومة الكهربائية على المدى البعيد.
في ظل ما سبق من معطيات رسمية وردود فعل شعبية وصناعية متباينة، كان لا بد من التوقف عند جملة من التساؤلات التي تفرض نفسها على الشارع السوري، في محاولة لفهم أعمق لتداعيات قرار رفع تعرفة الكهرباء. فمع الأسعار الجديدة، تبرز مخاوف حقيقية من أن تتحول الفاتورة المنزلية إلى عبء شهري يفوق قدرة الأسر، خاصة في ظل دخول محدود لا يتماشى مع هذا الارتفاع الكبير، واستمرار ساعات التقنين التي تجعل المواطن يدفع مقابل خدمة لا يحصل عليها بشكل منتظم.
في المقابل، يُطرح تساؤل حول ما إذا كان هذا الواقع سيدفع نحو تغيّر في سلوك الاستهلاك المنزلي، وظهور أنماط جديدة للتقنين الذاتي أو الاستغناء عن بعض الأجهزة، وربما التفكير بالتحول إلى الطاقة الشمسية رغم كلفتها العالية.
أما على المستوى الصناعي، فإن رفع التعرفة يهدد بزيادة مباشرة في تكاليف الإنتاج، ما قد ينعكس على أسعار السلع في السوق، ويضعف تنافسية المنتج المحلي أمام المستورد، خصوصًا في الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، التي قد تجد نفسها أمام خيار التقلص أو التوقف.
وبين وعود الحكومة بتحسين الخدمة وتوسيع الإنتاج، وواقع اقتصادي يرزح تحت ضغوط معيشية متراكمة، تبقى الجدوى الاقتصادية لهذا القرار موضع نقاش واسع، سنضعه أمام المختصين والخبراء لتحديد الآثار المحتملة له.
سلسلة من التحديات وتفكير بالبدائل
في قراءة تحليلية لتداعيات قرار رفع أسعار الكهرباء في سوريا، يرى الدكتور زياد عربش، الأكاديمي والمستشار في شؤون الطاقة والاقتصاد، أن التعرفة الجديدة تمثل تحولًا جوهريًا في سياسة التسعير، لكنها تفتح الباب أمام سلسلة من التحديات التي تمس حياة المواطن اليومية، وتؤثر على بنية الاقتصاد الصناعي.
ونوه إلى أنه وفق الأسعار الجديدة، فإن الأسرة محدودة الدخل التي تستهلك حتى 300 كيلو واط خلال دورة شهرين، ستدفع نحو 180,000 ليرة سورية، وهو مبلغ مرتفع جدًا مقارنة بمستويات الأجور الحالية. ويؤكد عربش أن هذه الزيادة تشكّل عبئًا ماليًا إضافيًا على الأسر، خاصة الفئات الهشة، مما يهدد قدرتها الشرائية ويستلزم وجود آليات دعم موجهة لتخفيف الأثر الاجتماعي.
ويضيف أن استمرار ساعات التقنين يجعل المواطن يشعر بأنه يدفع مقابل خدمة غير مكتملة، ما يفاقم الاستياء العام، ويؤثر على التزامه بالدفع، وقد يدفع البعض إلى التعدي على الشبكة أو البحث عن مصادر بديلة. هذا الواقع، بحسب عربش، سيؤدي إلى تغير في سلوك الاستهلاك المنزلي، مع ميل واضح نحو الترشيد، واستخدام أجهزة أكثر كفاءة، أو حتى الاستغناء عن بعضها، في ظل خشية متزايدة من الفاتورة المرتفعة.
أما على المستوى الصناعي، فيؤكد عربش أن رفع أسعار الكهرباء سيؤدي إلى زيادة مباشرة في تكلفة الإنتاج، تتراوح بين 10% و20% حسب نوع الصناعة وحجم استهلاكها، ما سينعكس تدريجيًا على أسعار السلع والخدمات. ويشير إلى أن المستهلك سيتحمل الجزء الأكبر من هذه الزيادة، إلا إذا قررت الشركات امتصاص جزء منها لتجنب فقدان الزبائن.
ويحذر من أن القرار قد يضعف تنافسية المنتج المحلي أمام المستورد، خاصة في ظل ارتفاع تكاليف الطاقة في سوريا مقارنة بدول الجوار، مما يهدد بعض المشاريع الصغيرة والمتوسطة بالتراجع أو الإغلاق، ويؤثر سلبًا على فرص العمل والقطاع الصناعي ككل.
ويحدد عربش الصناعات المعدنية، الكيمياوية، مصانع النسيج والغذائية، كأكثر القطاعات تأثرًا، نظرًا لاعتمادها الكبير على الكهرباء، مشيرًا إلى أن هذه الصناعات تواجه خطر التقلص أو التوقف إذا لم تُعالج آثار القرار بشكل عاجل.
وفي ظل هذا الواقع، يرى عربش أن هناك توجهًا متزايدًا نحو الطاقة الشمسية، لكن التكلفة الأولية لتركيب الأنظمة ما تزال عائقًا كبيرًا أمام الأسر محدودة الدخل، رغم أن الحوافز الحكومية قد تشجع هذا التوجه مستقبلًا.
وعن الجدوى الاقتصادية للقرار، يوضح عربش أن الاستدامة المالية للقطاع الكهربائي قد تتحقق، لكن ذلك لا يلغي الآثار الاجتماعية السلبية الناتجة عن ضعف القدرة الشرائية وغياب البدائل. ويشدد على ضرورة تبني سياسات دعم اجتماعي فعالة، وتطوير مصادر الطاقة المتجددة، وتوسيع شبكات الحماية الاجتماعية لتجنب تفاقم الأوضاع الاقتصادية للأسر.
ويحذر من أن رفع الأسعار دون معالجة الفجوة بين الدخل والتكلفة قد يزيد من معدلات التعدي على الشبكة الكهربائية، خاصة في المنازل التي لا تمتلك عدادات رسمية أو تعاني من مشاكل في الدفع، مما يزيد من خسائر القطاع ويؤثر على جودة الخدمة.
مقترحات لتجاوز آثار القرار
ويقدّم الدكتور زياد عربش مجموعة من المقترحات التي يرى أنها ضرورية لتجاوز آثار القرار، أبرزها:
1 ـ الإسراع في تبني خطة اقتصادية شاملة تتكامل فيها السياسة الطاقوية مع السياسة المالية، خاصة قبل استبدال العملة السورية العام القادم.
2 ـ توسيع جوهري لشبكات الحماية الاجتماعية لوقف إنهاك القدرة الشرائية لمعظم الأسر.
3 ـ اعتماد نظام شرائح مدعوم يضمن العدالة في التوزيع ويقلل من تأثير الزيادات على الفئات الضعيفة.
4 ـ تحسين كفاءة استخدام الطاقة عبر تقنيات القياس الحديثة، وعلى رأسها العدادات الذكية.
5 ـ تنويع مصادر التوليد لزيادة الاعتماد على الطاقات المتجددة وتخفيف الاعتماد على الوقود الأحفوري.
6 ـ اتخاذ إجراءات عاجلة لامتصاص الضغوط التضخمية الناجمة عن رفع الأسعار، بما يضمن استقرار السوق وعدم تفاقم الأزمات المعيشية.
حل لا مفر منه
يرى الخبير الاقتصادي الدكتور إبراهيم نافع قوشجي في حديث لـ”نون بوست”، أن الانتقال من اقتصاد مغلق تتهالك فيه القطاعات الخدمية والبنية التحتية، إلى اقتصاد مفتوح يخدم المجتمع السوري بكفاءة، لا بد أن يرافقه اختلالات هيكلية وفروق في التوازنات. ومن هذا المنطلق، يبرز ملف الكهرباء كأحد أبرز الأزمات التي باتت تشكّل عبئًا ثقيلًا على الاقتصاد السوري، بعد عقد من الظلام والانقطاع شبه الدائم.
ويؤكد قوشجي أن قطاع الكهرباء يعاني من تهالك شامل، يمتد من محطات التوليد إلى أبسط عناصر الشبكة كالمصابيح، ما يستدعي إعادة بناء كاملة تتجاوز تكلفتها 40 مليار ليرة سورية.
وفي ظل عجز خزينة الدولة عن تمويل هذا التجديد، جاء قرار رفع أسعار الكهرباء كحل لا مفر منه، رغم ما يحمله من تبعات اجتماعية واقتصادية. ورغم الزيادة الأخيرة، تبقى الأسعار الجديدة أقل بكثير من المعدلات العالمية، لكنها تعكس تفاوتًا داخليًا كبيرًا بين الشرائح الاجتماعية والاستخدامات المؤسسية.
ويحذر قوشجي من أن ارتفاع الأسعار أثار مخاوف جدية من انعكاسها على أسعار المنتجات، كما يشكّل تحديًا حقيقيًا لأصحاب الدخل المحدود في بلد يعاني من تراجع القدرة الشرائية وتضخم مستمر. فالكهرباء، كما يوضح، ليست مجرد خدمة منزلية، بل عنصر أساسي في سلسلة الإنتاج والتوزيع، ما يعني أن أي ارتفاع في تكلفتها ينعكس مباشرة على أسعار السلع والخدمات.
ورغم الدعم المقدم للشريحة الأولى، يرى قوشجي أن السعر الجديد يبقى مرتفعًا نسبيًا مقارنة بمتوسط دخل الفرد في سوريا، والذي يقل عن 50 دولارًا شهريًا لدى كثير من الأسر. وقد تستهلك فاتورة الكهرباء جزءًا كبيرًا من الدخل، خاصة في فترات الذروة، مما يخلّ بالتوازن بين الدخل والنفقات في مراحل إعادة بناء الاقتصاد. ويؤكد أن هذا التوازن لا يمكن استعادته إلا من خلال دراسة متكاملة ترفع القيمة الحقيقية للنقود، وتخفض أسعار مستلزمات المعيشة من مسكن وصحة ونقل وتعليم.
وفي مواجهة هذا الواقع، يطرح قوشجي مجموعة من السياسات التخفيفية التي يرى أنها ضرورية، أبرزها:
1 ـ توسيع نطاق الدعم ليشمل الفئات الأكثر تضررًا.
2 ـ تقديم حوافز للمشاريع الصغيرة، وتمويل مشاريع الطاقة البديلة.
3 ـ رفع الحد الأدنى للأجور بشكل تدريجي ليتناسب مع ارتفاع تكاليف المعيشة.
ويخلص الدكتور إبراهيم قوشجي إلى أن ارتفاع أسعار الكهرباء في سوريا يمثل تحديًا متعدد الأبعاد، يهدد بزيادة تكاليف الإنتاج وأسعار السلع، ويشكّل عبئًا كبيرًا على أصحاب الدخل المحدود. ويؤكد أن تجاوز هذه المرحلة يتطلب توازنًا دقيقًا بين متطلبات العدالة الاجتماعية والاستدامة الاقتصادية، عبر سياسات دعم مستهدفة، ورفع للأجور، وإعادة ضبط نسب الأرباح في القطاعات الاقتصادية، كي لا يتحمل المواطن كامل تكلفة هذا التحول الصعب.
وفي ظل التحول الاقتصادي الذي تشهده سوريا، يبدو أن رفع أسعار الكهرباء لم يكن مجرد تعديل في التعرفة، بل خطوة مفصلية كشفت حجم التحديات البنيوية التي تواجه القطاع، وأعادت طرح أسئلة جوهرية حول العدالة الاجتماعية، وفعالية السياسات الاقتصادية في حماية الفئات الهشة.
فما بين وعود رسمية بتحسين الخدمة، ومخاوف شعبية من فواتير تفوق الدخل، تتقاطع أزمة الكهرباء مع معيشة المواطن، واستقرار الإنتاج، ومستقبل الاستثمار. ولعل ما طرحه الخبراء من توصيات وسياسات تخفيفية، يشكّل خارطة طريق أولية لتجاوز آثار القرار، شرط أن تُقرن بالإرادة السياسية والشفافية في التنفيذ.