رفعت الأسئلة مرارًا وتكرارًا حول الإمداد والتمويل الذي تجده مليشيات “الدعم السريع” للاستمرار في ارتكاب المجازر الفظيعة في حق السودان والسودانيين طيلة ثلاث أعوام وحتى الآن.
فمنذ اندلاع الحرب التزمت الدعم السريع بنمط وحشي، مرتكبة المجازر وأفظع الجرائم وأوحشها في كل مدينة، ولاية، محافظة، أو قرية تجتاحها، من نهب وسلب وقتل جماعي وعشوائي للرجال والصبيان واغتصاب النساء واختطافهن واستعبادهن جنسيًا وحتى اغتصاب الأطفال وتهجير السكان بشكل كامل من منازلهم ومناطقهم.
وتكرر النمط في عدة مدن في ولاية الجزيرة، وولاية سنار، وبعض المناطق داخل العاصمة، وكذلك الولايات التي يقبعون فيها الآن بدارفور وكردفان، حيث تأخذ المذابح هناك منحى إثني، وتشير التقارير بشكل متكرر إلى دولة الإمارات فقط، متجاهلة عوامل أكثر تعقيدًا وتقاطعات محلية وإقليمية تسببت في هذه الصورة التي نراها الآن.
الدعم السريع كقوة اقتصادية مستقلة
نشط قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي” منذ البداية في أن يكون لقواته دخلًا اقتصاديًا مستقلًا، ونجح في ذلك حتى من قبل اندلاع الثورة وسقوط نظام البشير، مستفيدًا من صلاحيات القانون الذي أُجيز عبر البرلمان في منتصف يناير/كانون الثاني 2017، والذي حرره من أن يكون تحت إمرة جهاز الأمن والمخابرات السوداني وأن يبقيه مستقلًا.
وشاركت قوات الدعم السريع بما يفوق 30 ألف مقاتل في حرب اليمن مع مقاتلين من الجيش والقوات النظامية، فيما تشير تقارير أخرى لوجود صفقات مستقلة بينها وبين الإمارات لضخ مقاتليها لليمن، هذا بجانب مشاركتها في العام 2016 في عملية الخرطوم المدعومة من الاتحاد الأوروبي لمكافحة الاتجار بالبشر، والتي ساهمت في تحسين وضع القوة اقتصاديًا، بالتزامن مع سيطرتها على جبل عامر، وهو أحد أكبر مناجم الذهب في السودان، بجانب عدد من المناجم في مناطق أخرى من دارفور وكردفان.
وأسست القوات في تلك الفترة شركات واستثمارات داخل السودان وخارجه لزيادة دخلها، ولم يكتفِ حميدتي بذلك، بل إنه نشط في تكوين علاقات مع دول وحكومات خارجية لزيادة نفوذه في السودان.
View this post on Instagram
استهداف الفاشر عبر إمداد خارجي
عند اندلاع الحرب، كانت الدعم السريع قد تمكنت من توسيع نفوذها إبان الفترة الانتقالية في السودان، من الناحية الاقتصادية وكذلك السياسية، كما وطدت علاقتها مع عدة دول.
وأشارت التقارير إلى أن قوام قواتها كان بين 100 و130 ألف مقاتل، حوالي 100 ألف عربة قتالية ووحدة مدرعات من طراز BTR، لكن الإمداد والتمويل غير المتوقف من حلفائها في الإقليم سواء في تشاد، شرق ليبيا، أفريقيا الوسطى، وحلفائها الدوليين من الإمارات وقوات فاغنر، أثر على أعداد قواتها “المقاتلين” وعتادها ومستوى التسليح، هذا بجانب التجنيد القسري وتجنيد الأطفال، وكذلك استيلائها في فترة من فترات النزاع على عدة مصانع للأسلحة.
View this post on Instagram
وتشير التقارير لامتلاك الدعم السريع لطائرات بلا طيار صينية الصنع كانت قد بيعت للإمارات، وهي نفس الطائرات التي نفذت بها الدعم السريع هجماتها في مدينة الفاشر، وكذلك بورتسودان.
وأكد طبيب بالمستشفى الجنوبي للفاشر لـ”نون بوست”، فضل حجب اسمه، مشاركة مقاتلين كولومبيين في صفوف الدعم السريع في المعارك التي دارت بالمدينة، وأنه قد تم استدعاؤه لإسعاف أحدهم، لكنه كان قد مات بالفعل.
وأكدت فيديوهات ميدانية للجيش وتقارير صحافية إرسال مقاتلين كولومبيين عبر شركات إماراتية والدفع بهم للقتال في صفوف الدعم السريع في المعارك الدائرة في غرب السودان، وأنهم يدخلون للسودان عبر تشاد.
ووفق تحقيق الغارديان البريطانية، وُجدت أسلحة تابعة للجيش البريطاني بحوزة الدعم السريع، وهي أسلحة قامت المملكة المتحدة بتصديرها للإمارات المتحدة، من بينها أنظمة تدريب على الأسلحة ومحركات مركبات مدرعة، حيث استمرت بريطانيا في منح تراخيص تصدير الأسلحة للإمارات بكميات غير محدودة وبدون مراقبة وجهتها النهائية، رغم وجود أدلة مقدمة لمجلس الأمن تشير إلى تمويل الإمارات للدعم السريع.
لاعبون مدعومون من الإمارات
يقول الباحث والمحلل السياسي د. محمد تورشين إن الأطراف الدولية المتورطة في حرب السودان هي أطراف تم توظيفها من الجانب الإماراتي، سواء كانت تشاد أو شرق ليبيا التي لديها وضع أشبه بوضع الدعم السريع، بالتالي هي تسعى أن يتم الاعتراف بها بشكل مباشر، والأطراف من جنوب السودان وأفريقيا الوسطى.
ويرى تورشين أن ما حث الدول المتورطة في حرب السودان هو مراهنتها على قوة الإمارات، بجانب إغراء الأخيرة بالاستثمار بسخاء في قطاعات حيوية بتلك الدول، حيث أصبحت هذه الدول ممرًا لعبور المعدات العسكرية للدعم السريع، وأسهم النزاع في السودان في تخلص تشاد وأفريقيا الوسطى من العديد من الحركات المسلحة التي تورطت في الحرب في السودان، بالتالي تخلصت تشاد وأفريقيا الوسطى وليبيا من قوى تزعزع النظام والاستقرار، كما يقول.
View this post on Instagram
دوافع اقتصادية صريحة
ولعل أحد أوضح دوافع التدخلات في حرب السودان هي ذات دوافع اقتصادية بحتة. فالسودان يتمتع بثروات زراعية، حيوانية، ومعدنية، وموقع جيوسياسي مهم، مع أكبر مساحة ساحلية على البحر الأحمر، فضلًا عن كونه معبرًا بريًا مهمًا للغاية في الإقليم.
ويعزي لواء د. أمين إسماعيل مجذوب، خبير إدارة الأزمات بمركز البحوث الاستراتيجية، تمويل الإمارات العربية المتحدة للنزاع في السودان عبر حلفائها من دول الجوار، إلى الطمع في الإمكانات الاقتصادية الخصبة التي يمتلكها السودان، ورغبتها المُلحة في وضع يدها عليها عبر تسهيل تمكين الدعم السريع من السُلطة في السودان، عبر التسليح والدعم المادي وتقديم العلاج لمصابي الدعم السريع في دول الجوار، وتوفير مطارات لنقل الاحتياجات اللوجستية، وضخ مرتزقة من دول الجوار الأفريقي ودول أخرى من خارج أفريقيا.
في ذات السياق، يؤكد المحلل السياسي د. محمد تورشين أن تهريب الصمغ العربي هو أحد أهم الأطماع التي تدفع دول الجوار في إمداد الدعم السريع بالمقاتلين والعتاد.
ويتابع تورشين: “سياسة الإمارات الخارجية في محاربة الإسلام السياسي ليست الدافع الوحيد لتمويلها للنزاع في السودان، بل هي غطاء لمصالحها الاقتصادية المرتبطة بتوريد الذهب منذ النظام السابق، حيث اعتمد عليها نظام البشير كنافذة للتهرب من العقوبات الأمريكية، كذلك رغبة الإمارات في الحصول على موطئ قدم في موانئ السودان، وكانت قد حاولت ذلك عبر شركة تايلندية إبان النظام السابق”.
View this post on Instagram
ضوء أخضر دولي لتمويل القتل
ويقول تورشين إن هنالك عدة قراءات تؤكد عدم قدرة الإمارات على لعب كافة هذه الأدوار بدون حصولها على ضوء أخضر من بعض الدول العظمى أو بعض الجماعات المؤثرة داخل المنظومة الدولية، ويعتقد تورشين أن هذا الأمر به درجة من الصحة، لأن إضعاف السودان سيسهم بشكل أو آخر في أمن “إسرائيل” وتحقيق الاستقرار في المنطقة وفقًا للعديد من الباحثين.
من جانبه، يقول د. أمين مجذوب إن المجتمع الدولي ومنظماته الإقليمية والدولية ومجلس الأمن لابد أن يتدخلوا لوقف من يمولون ويسلحون الدعم السريع في سبيل إيقاف الحرب في السودان. وقال مجذوب: “المجتمع الدولي يدلل المليشيا والعقوبات التي فُرضت عليها هي عقوبات عامة على أشخاص وشركات فقط”، في إشارة إلى عدم أخذ المجتمع الدولي ما يجري في السودان على محمل الجد وتهاونه في فرض عقوبات حقيقية على الدعم السريع ومن يمولونها.
ويقول الخبير العسكري السوداني د. محمد خليل: “دعاوى رئيس لجنة العلاقات الخارجية للكونغرس الأمريكي لتصنيف الدعم السريع كجماعة إرهابية أجنبية هو أقل ما يمكن وصف هذه المليشيا الوحشية به”.
تمويل حرب استنزاف طويلة الأمد
وبينما أثر تمويل لاعبِين إقليميين ودوليين في مسار العمليات العسكرية في الآونة الأخيرة في السودان، رفع محللون ونشطاء مخاوف من تحويل استمرار دعم وتمويل الدعم السريع للحرب في السودان إلى حرب استنزاف طويلة الأمد تهدد وحدة السودان، وتعزز أصواتًا محلية تدعو لفصل الإقليم الغربي.
ويرى د. مجذوب أن فقدان الفاشر وبارا لصالح الدعم السريع له تأثير أمني واقتصادي وعسكري كبير، حيث أصبح الدعم السريع يتحرك في محور كامل بلا مضايقة. وقال: “هذا الانفتاح على المحور قد يهدد عدة محاور في النيل الأزرق، أمدرمان، الولاية الشمالية وغيرها”.
ويعزز ذلك رأي الباحث تورشين، الذي يرى أن الدعم السريع استطاع التوسع في مسارات مهمة قد تمكنه من توسيع دائرة المواجهات العسكرية وفرض طوق كبير جدًا على المناطق الآمنة، يمكنه من استهدافها بالطائرات المسيرة، ما سيؤثر على استقرار المناطق في الخرطوم وما جاورها، ويبطئ عمليات العودة الطوعية للمدينة، والسيناريوهات المرجحة الآن هي سيناريوهات استمرار الحرب.
وأشار إلى أن المفاوضات ستواصل التعثر، لأن الدعم السريع لن يقبل بمفاوضات تهدد مكاسبه السياسية والعسكرية، وهو ما سيرفضه الجيش، بالتالي المسألة معقدة، والحرب ستستمر لتحقيق انتصارات عسكرية تسهم بشكل أو آخر في تحسين الأوضاع التفاوضية، وفقًا لتورشين.
من جانبه، يقلل د. محمد خليل من دعاوى انفصال غرب السودان، مستدلًا على وقوف السودانيين كافة ضد الدعم السريع وإدانتهم لما حدث في الفاشر وبارا، مشيرًا إلى أن انتهاكات الدعم السريع والجرائم التي ارتكبتها، وعدم التزامها بالأعراف واتفاقيات جنيف، هي التي ستعجل بنهايتها.
وانتظم حراك في عواصم عدة في العالم للتنديد بانتهاكات الدعم السريع والجرائم والإبادات التي ارتكبها بحق المدنيين في مدينتي الفاشر وبارا في الأسبوع المنصرم، ودعت مجموعات حقوقية محلية وإقليمية لمقاطعة الإمارات على خلفية تورطها في تمويل الإبادات الجماعية وقتل المدنيين في السودان.
وكانت مليشيات الدعم السريع قد ارتكبت سلسلة من الإبادات الجماعية في الجنينة غربي البلاد، وعدة قرى منها السرحة وود النورة بولاية الجزيرة وسط البلاد في فترات متفرقة من النزاع، فضلًا عن المجازر التي ارتكبتها في قرى وحلال بكردفان ودارفور كذلك.