أعادت الحركة الشبابية المعروفة باسم “جيل زد 212” في المغرب صياغة أسلوب تحركها الميداني والإعلامي، بعد أسابيع من التظاهرات المتواصلة التي عمّت عددًا من المدن المغربية.
فبدلًا من تنظيم احتجاجات يومية كما في بداياتها، قررت الحركة الاكتفاء بيوم واحد في الأسبوع للتظاهر، مع مراجعة قائمة مطالبها والتركيز بشكل أكبر على النشاط الرقمي كوسيلة للتعبئة والتواصل.
وبعد فترة من التوقف، أعلنت الحركة عن استئناف نشاطها بشكل أسبوعي، محددة يوم السبت موعدًا ثابتًا للاحتجاج السلمي، ومجددة مطالبها بضرورة تعزيز مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، والدعوة إلى الإفراج عن الموقوفين الذين اعتقلوا على خلفية مشاركتهم في المظاهرات.
من جانب آخر، أكدت السلطات المغربية في أكثر من تصريح رسمي استعدادها للحوار مع ممثلي الشباب والاستماع إلى مقترحاتهم، مشيرة إلى أن الحكومة تعمل على تسريع تنفيذ برامج اجتماعية إصلاحية، وزيادة الاعتمادات المخصصة لقطاعي التعليم والصحة ضمن قانون المالية المقبل، في محاولة لامتصاص حالة الغضب الشعبي وتحويلها إلى نقاش مؤسساتي بنّاء.
التحول الجديد في طريقة عمل الحركة اعتبره عدد من المتابعين خطوة استراتيجية تهدف إلى تجنّب الإرهاق الميداني والضغط الأمني، فبعد أسابيع من التعبئة المكثفة، بدا أن القائمين على المبادرة اختاروا المراهنة على النفس الطويل، مع تقليص التظاهرات الميدانية لتجنّب الاحتكاك مع السلطات وضمان الاستمرارية، لكن، على مستوى التعاطي الشعبي، يبدو أن الحركة فقدت زخم البدايات، حيث تراجعت بشكل كبير أعداد المشاركين في الوقفات الاحتجاجية، مثلما تراجع تداول موضوع هذه الاحتجاجات على مواقع التواصل الاجتماعي.
لكن، لماذا تراجع هذا الزخم؟
أولًا، لأنه رغم الزخم الرقمي الكبير، فإنّ التنظيم الداخلي للحركة لم يكن قويًا أو واضحًا، فقد غابت عن الحركة قيادة فكرية أو تنظيمية مركزية، ما جعلها تجمعًا عفويًا أكثر من مشروع منظّم.
فقد تحرّكت من دون هيكل تنظيمي واضح يمكنه ترجمة الغضب الرقمي إلى جدول زمني وخارطة طريق، أو عمل ميداني مؤسس، وقد لاحظت تقارير أن الحركة تفتقر إلى قيادة تنظيمية، خاصة في ظل انعدام الثقة في الأحزاب السياسية والنقابات التي لم تعد فاعلة في تمثيل تطلعات الجيل الجديد.
وبالتالي، ما بدا في البداية كحركة واعدة هو في الواقع أقل قدرة على التحوّل إلى مشروع مجتمعي طويل الأجل، فعلى الرغم من كل ما تملكه من شرعية شبابية، إلا أنها لم تُحوّل بعد حالةَ الاحتجاج إلى تنظيم قادر على فرض تغييرات جذرية من شأنها إصلاح منظومتي التعليم والصحة، ومحاربة الفساد.
ثانيًا، تشتت المطالب والخطاب، حيث انطلقت الحركة بمطالب واضحة (التعليم، الصحة ومحاربة الفساد)، لكن سرعان ما توسع الخطاب ليشمل مجموعة واسعة من القضايا على غرار البطالة وغلاء المعيشة والفوارق المجالية، وكذلك مطالب سياسية تُطالب برحيل الحكومة أو تغيير أولوياتها.
هذا التوسع في الخطاب ساهم في ضعف تماسك الحركة، فبينما يعتقد عدد من الناشطين أن المطالب الاجتماعية كافية، يرى آخرون أن المطالبة بالإصلاح السياسي هي الخيار الوحيد، ما أدى إلى تباين في الأولويات وصعوبة في التوصل إلى رؤية مشتركة تُحدد الأولويات وتنسق التضحيات والجهود، لدرجة أن الحركة أصدرت وثيقة تتضمن مطالبها، قبل أن تتراجع عنها وتعتبرها مجرد مسودة، وتصدر بعدها وثيقة أخرى موسعة من حيث المطالب.
ثالثًا، الاعتماد المفرط على الفضاء الرقمي على حساب الحضور الميداني المنضبط، ذلك أن حركة جيل زد اعتمدت في بداياتها على التعبئة الرقمية، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي ومنصّات مثل ديسكورد، ما منحها سرعة في الانتشار وتعاطفًا واسعًا، لكن هذا الاعتماد الرقمي لم يكن موازنًا بحضور ميداني منظم ومستمر يُؤطر الشباب الذين خرجوا للاحتجاج، خاصة بعد خروج مظاهرات باسم الحركة في مناطق أخرى طبعها العنف والنهب واقتحام البنوك والإدارات العمومية، وهو ما أدى مباشرة إلى تراجع الدعم الشعبي للاحتجاجات.
قيود الدولة والخوف من التسييس
من جهة أخرى، لم تأتِ المعوقات من داخل الحركة وحدها، حيث ساهمت عوامل أخرى، خارجية، في تراجع زخمها.
لعل أهم هذه العوامل هو ردّ الفعل الأمني، ففي مدن مثل إنزكان وأيت عميرة ووجدة تم تسجيل اعتقالات واسعة، وإصابات بين المتظاهرين وعناصر الأمن، وتدخلات أمنية أكدت أن الدولة لن تتساهل مع الاحتجاجات، وهو ما أدى إلى إشاعة الخوف بين الشباب.
عامل ثان يتمثل في الخوف من التسييس أو اختطاف الحركة، فبعض شباب جيل زد رفضوا رعاية أو احتواءً من الأحزاب أو التنظيمات السياسية التقليدية، فلجأوا إلى شعار “لا أحزاب”، لكن هذا العزل السياسي أضعف قدرتهم على التفاوض، وبالتالي على التوسع أو التمرد على المعادلة القائمة.
مقابل ذلك، فإن بعض الوجوه تحاول احتواء الحراك أو تحقيق منه مكاسب حزبية أو انتخابية أو حتى شخصية، ما يجعل الحراك في موقف دفاعي أو محتاطًا من أي التفاف عليه، بالإضافة إلى أن بنية الدولة في المغرب لا تسهّل ولادة حركات شبابية مستقلة بلا حقيبة سياسية أو دون تبنٍّ رسمي يوضح الأطراف الذين يجب التفاوض معهم.
كما. أن طبيعة مطالب الحركة وخياراتها الزمنية، كان من عوامل تراجع زخمها، فعلى الرغم من أن الإصلاح في الصحة والتعليم مطلب شعبي، إلا أن الحركة واجهت سؤالًا يتعلق بطبيعة الإصلاحات التي تريدها: هل تريد تغيّرًا مؤسسيًا مفهومًا أم فقط تحسينات سطحية؟ وكانت المطالب في هذا الباب غير واضحة، ما ترك المجال للدولة لتبديد الزخم عبر الإعلان عن إجراءات أو إطلاق برامج مؤقتة، أو الإعلان عن الرغبة في التفاوض المبدئي، والتسويق لذلك على أنه استجابة لمطالب الشباب، لكن دون تغييرات هيكلية واضحة.
على سبيل المثال، أكدت الحكومة أنها تتفهم هذه المطالب وستفتح حوارًا، لكن الحوار ليس كافيًا إذا لم يتحول إلى إصلاحات ملموسة، وهذا ما رسخ شعورًا لدى الكثيرين بأن الحراك لم يُحقق بعد شيئًا ملموسًا، لكنه في المقابل أعاد السياسات العمومية في المغرب إلى واجهة النقاش العمومي، بعد الصمت المريب الذي ميّز ولاية رئيس الحكومة عزيز أخنوش.
في حوار خاص مع نون بوست، يُقدّم الدكتور خالد البكاري @BekkariKhalid، الأكاديمي والناشط الحقوقي المغربي، قراءةً تحليلية للتجربة الاحتجاجية لـ”جيل زد” في المغرب، متوقفًا عند أسباب اندلاعها، وكيف تم التعامل معها من قِبل السلطات، وعن رفض شباب الحراك للحوار مع الحكومة والمطالبة… pic.twitter.com/1xvAisftbN
— نون بوست (@NoonPost) October 28, 2025
ما يمكن أن يكون عليه مستقبل “جيل زد” في المغرب هو مسارٌ معقد بين الفرص والتحديات. فالحركة ليست ثورة تقليدية، ولا انتفاضة شاملة، بل تعبير دقيق عن التحول التدريجي في العلاقة بين الدولة والمجتمع، خاصة فئة الشباب. إنها لحظة وعي جماعي، تسعى إلى إعادة صياغة مفاهيم المواطنة، والمشاركة، والعدالة الاجتماعية، ضمن حدود الدولة القائمة لا خارجها.
من الناحية الإيجابية، يبدو أن “جيل زد” قد أحدثت تحوّلًا في الخطاب العام: كسرت الصمت، وزرعت أسئلة حول العدالة، وربط المسؤولية بالمحاسبة، ودفعت السلطة إلى الاعتراف بوجود جيل جديد يرفض الوصاية ويطالب بالشراكة، وقد تكون أبرز مساهمتها حتى الآن هي في إعادة فتح النقاش حول السياسات العمومية، بعد سنوات من الجمود.
لكن التحدي الجوهري الذي تواجهه الحركة هو غياب البنية التنظيمية المستقرة التي تسمح لها بالاستمرارية.
فبدون أطر واضحة، وقيادة تمثيلية، وآليات للتفاوض، تظل الحركة عرضة للتفكك أو الاستيعاب أو حتى التهميش، خصوصًا في ظل تشكيكها بالأحزاب ورفضها للوساطات السياسية التقليدية.
على المدى القريب، قد تكتفي الدولة بإجراءات تهدئة شكلية وبرامج مؤقتة، فيما تسعى الحركة للحفاظ على زخمها الرقمي ورمزيتها. أما على المدى المتوسط، فإن مستقبل “جيل زد” مرهون بقدرتها على التحوّل من احتجاج إلى اقتراح، ومن لحظة غضب إلى بناء بدائل فعلية تُعبّر عن تطلعاتها.
نقطة التحول الأساسية ستكون في قدرتها على الانخراط في مسار سياسي ومجتمعي طويل الأمد، دون أن تفقد استقلاليتها أو تتورط في الاصطفافات التقليدية، فنجاحها لن يُقاس فقط بما تفرضه من تغييرات راهنة، بل بما تخلقه من نخب جديدة، ومن مساحات ديمقراطية للشباب، ومن وعي جماعي يصعب محوه.
في النهاية، تبقى مبادرة “جيل زد” تجربة مفتوحة، تتلمس طريقها بين الطموح والإحباط، وبين الحلم والواقع، لكنها نجحت على الأقل في أن تُعلن ولادة جيل لن يقبل الصمت على انتهاك حقوقه.
