في أغسطس/آب 2025، وفي ذروة حرب الإبادة التي كانت تشنها “إسرائيل” على الفلسطينيين في غزة، وبين تصاعد موجات المقاطعة الشعبية والسياسية للاحتلال، أعلنت تل أبيب عن إبرام اتفاقية ضخمة لتصدير نحو 130 مليار متر مكعب من الغاز إلى مصر، بقيمة تقدّر بحوالي 35 مليار دولار حتى عام 2040، واعتبرتها “أكبر صفقة غاز في تاريخها” وفق تصريحات وزير الطاقة الإسرائيلي إيلي كوهين.
هذا الإعلان فجّر غضبًا واسعًا في الشارع المصري والعربي، بل وُصف لدى البعض بالخيانة لقضية الشعب الفلسطيني الذي كان يواجه عملية إبادة مفتوحة أمام العالم، في ظل عجز وصمت عربي رسمي لافت.
من جانبها، حاولت الحكومة المصرية في تلك الفترة امتصاص ردّة الفعل العنيفة، مبررة بأن الاتفاق ليس جديدًا بل هو امتداد لاتفاق 2018، في محاولة لنزع الدلالة السياسية عن الصفقة وتقليل حجم الانتقادات التي وضعت القاهرة في موضع تضاد بين خطابها الداعم للفلسطينيين وبين تعاملها الاقتصادي مع تل أبيب.
لاحقًا، وبعد أشهر من الجدل والضغط الإعلامي والشعبي، تحوّلت المفارقة إلى مشهد أكثر إرباكًا، فإسرائيل نفسها هي من تعلن اليوم تعليق تنفيذ الاتفاق، رافضة دخوله حيّز التنفيذ بدعوى وجود خلافات تتعلق بآليات التسعير المحلي، مؤكدة عبر مكتب وزير الطاقة أن تل أبيب “لن تمضي قدمًا في الصفقة قبل ضمان سعر عادل للسوق الداخلية وضمان تلبية الطلب المحلي بشكل كامل”
هذه الخطوة المفاجئة أدت إلى توتر مع واشنطن، ما دفع وزير الطاقة الأميركي كريس رايت لإلغاء زيارته المقررة إلى تل أبيب، لتتسع دائرة الأسئلة لاحقًا حول خلفيات هذا التعليق: هل هو جزء من مناورة تفاوضية؟ محاولة لتوظيف الورقة الاقتصادية في صراع سياسي؟ أو محاولة لإحراج القاهرة ووضعها في مأزق مركّب أخلاقي وسياسي قبل أن يكون اقتصاديًا؟ ثم ماهي الخيارات والبدائل أمام المصريين للخروج من هذا الفخ؟
ليست المرة الأولى
جدير بالتأكيد أولًا أن تل أبيب استخدمت ورقة تعطيل تصدير الغاز لمصر أكثر من مرة منذ اندلاع حرب غزة، بصرف النظر عن الذرائع المعلنة في كل مرة، ففي سبتمبر/أيلول 2025 أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بشكل مفاجئ، أنه بصدد إعادة النظر في اتفاقية تصدير الغاز مع القاهرة، وقد برّر حينها هذا التوجه بأنه رد على التحركات العسكرية المصرية في سيناء قرب الحدود، معتبرًا أنها تمثل تهديدًا للملحق الأمني المرفق باتفاقية السلام.
هذا الموقف قوبل برد مصري مباشر من رئيس هيئة الاستعلامات المصرية، ضياء رشوان، الذي حذّر من أن المساس بالاتفاق ستكون له تداعيات اقتصادية قاسية على “إسرائيل” نفسها، إضافة إلى ارتدادات سياسية غير محسوبة، مؤكدًا أن مصر ليست معتمدة على مصدر وحيد للطاقة، وأن لديها بدائل وخطط تعامل متعددة، بالتوازي مع إعادة فتح اتصالات مع قبرص ودول أخرى لبحث خيارات استيراد غاز بديلة.
وقبل هذه الواقعة بنحو شهرين تقريبًا، في يونيو/حزيران، كانت “إسرائيل” قد أوقفت بالفعل إنتاج الغاز من حقولها البحرية تحت مبررات أمنية تتعلق بتصاعد التوتر في الإقليم مع بدء ضرباتها ضد إيران، ما أدى إلى توقف الإمدادات لمصر بشكل كامل، قبل أن تعود بعد أسبوعين تقريبًا.
هذه الوقائع المتكررة ترسم نمطًا واضحًا، فمنذ بداية حرب غزة تحاول “إسرائيل” التملص أو إعادة توظيف التزاماتها الغازية مع مصر، مرة بذريعة تهديد “حزب الله” أو إيران للحقول البحرية، ومرة بحجة الصيانة، ومرات أخرى تحت عنوان إعادة تقييم الأسعار المحلية وتلبية الطلب الداخلي، في إصرار ممنهج ومدروس على تحويل ملف الغاز من ملف اقتصادي بحت إلى ورقة ضغط سياسية.
ورقة ابتزاز
من الخطأ النظر إلى تعامل “إسرائيل” مع ملف الغاز تجاه مصر باعتباره ملفًا اقتصاديًا خالصًا؛ فتل أبيب تاريخيًا توظف مواردها وثرواتها كجسور للسياسة، لا كغاية اقتصادية مستقلة، وفي هذا الملف تحديدًا، تستخدم تل أبيب الغاز بوصفه أداة ابتزاز سياسي تهدف من خلالها إلى انتزاع أكبر قدر من المكاسب وضغط القاهرة للتماهي مع الإملاءات الإسرائيلية.
ورغم تشابك العلاقات بين القاهرة وتل أبيب اقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا في السنوات الأخيرة، إلا أن ذلك لم يمنع الإسرائيلي من توظيف اتفاق الغاز كورقة ضغط استراتيجية، فالحكومة الإسرائيلية تحاول ممارسة أقصى مستويات الضغط لدفع مصر إلى قدر أكبر من المرونة في ملف تهجير سكان غزة — وهو خط أحمر لدى القاهرة لما يمثله من تهديد مباشر للأمن القومي المصري — إضافة إلى توظيف ملف التعزيزات العسكرية المصرية في سيناء باعتباره مصدر قلق لها رغم حديثها المتكرر عن التنسيق الأمني.
على المستوى الأعمق، تعمل “إسرائيل” على تحويل اتفاقات الطاقة إلى منصة لإنتاج “شرعية إقليمية جديدة”؛ فمنذ اكتشاف الغاز في المياه الفلسطينية المحتلة، تسعى تل أبيب إلى ترسيخ صورة نفسها كلاعب طاقة مركزي في شرق المتوسط، وترى في مصر البوابة الأكثر أهمية لتثبيت هذا الدور دوليًا، فمرور الغاز الإسرائيلي عبر مصر وإعادة تصديره من محطات الإسالة المصرية يشكل بالنسبة لتل أبيب اعترافًا عمليًا بدمجها داخل المنظومة العربية المتوسطية.
كما يمنح هذا الواقع الكيان المحتل مساحة للمناورة مع العواصم الغربية، إذ تقدم رسالة ضمنية مفادها أن أي ضغط سياسي على “إسرائيل” سيؤذي أمن الطاقة الإقليمي، خاصة في ظل حاجة أوروبا لمنافذ غاز بديلة، بمعنى آخر أن الغاز هنا ليس سلعة، بل رافعة نفوذ سياسي، وسلاح تفاوض استراتيجي.
السياسي مقدم على الاقتصادي
من المهم الإشارة إلى أن “إسرائيل” كانت الطرف الأكثر استفادة من هذه الصفقة، إذ كانت ترى فيها أداة رئيسية لتعويض العجز المالي الذي خلّفته الحرب وتكاليفها الباهظة على القطاع الاقتصادي الإسرائيلي، فتل أبيب كانت بحاجة لاتفاق بهذا الحجم لتقليل فجوة الخسائر المتراكمة لأكثر من عامين من الحرب.
إضافة إلى ذلك، استطاع الكيان فرض معظم شروطه أثناء صياغة الاتفاق، وأبرزها إلغاء بند جوهري كان يمنح مصر حق خفض كميات الاستيراد في حال تراجع سعر خام برنت إلى ما دون 50 دولارًا للبرميل، هذا التعديل يعني عمليًا أن القاهرة ستكون ملزمة بدفع قيمة الغاز وفق الأسعار الحالية، حتى إذا انخفضت الأسعار عالميًا أو تراجعت احتياجات السوق المحلي المصري.
كما تضمن الاتفاق بند “Take or Pay” الذي يُلزم شركة “بلو أوشن إنرجي” — ممثل الجانب المصري — بدفع قيمة الكميات المتعاقد عليها سواء تم استلامها فعليًا أم لا، وبموجب هذا الشرط النمطي في عقود الطاقة، تصبح مصر مرغمة على تحمّل التزامات مالية ثابتة حتى لو تراجعت رغبتها أو حاجتها للاستيراد من “إسرائيل”.
ورغم كل هذه المكاسب الإسرائيلية الاقتصادية الواضحة، وكون الصفقة تمثل أهمية استراتيجية لطرفيها، إلا أن تل أبيب غلّبت الحساب السياسي على الاقتصادي، واستثمرت الاتفاق كورقة ضغط لإخضاع القاهرة لمواقفها. هذا النهج تجاهلت عبره “إسرائيل” حتى المصالح الاقتصادية المباشرة لها ولحليفها الأميركي، وهو ما أثار استياء واشنطن التي كانت من أبرز الداعمين لهذه الصفقة منذ بدايتها.
غضب أمريكي
أثارت الخطوة الإسرائيلية غضب واشنطن، التي اتخذت إجراءً احتجاجيًا استثنائيًا تمثّل بإلغاء زيارة وزير الطاقة الأميركي كريس رايت لتل أبيب، في رسالة واضحة على انزعاج الإدارة الأميركية من مماطلة الحكومة الإسرائيلية في إقرار الاتفاق وعدم وضوح شروطه، خاصة ما يتعلق بتسعير الغاز داخل السوق الإسرائيلي.
ورغم متانة العلاقة الأميركية ـ الإسرائيلية تاريخيًا، إلا أنّ واشنطن لا تتردد في الاصطدام بتل أبيب عندما ترى أن مصالحها الاستراتيجية مهددة، وحتى الدعم الأميركي القوي في عهد إدارة ترامب كان موجهًا بالأساس لتعظيم المكاسب الأميركية سياسيًا واقتصاديًا، لا من أجل “مجاملة” إسرائيل، ومع أي مساس بمصالحها، يمكن أن تظهر الولايات المتحدة بوجه أكثر حدة وبعيدًا عن أي حساسيات سياسية.
وفي سياق متصل، تتعامل واشنطن وأوروبا مع غاز شرق المتوسط باعتباره ركيزة لتأمين تنويع مصادر الإمداد، ووسيلة لتوسيع النفوذ الجيوسياسي في منطقة تشهد سباق نفوذ طاقي حاد، ومن هنا ترى الولايات المتحدة أن تعطيل اتفاق الغاز المصري ـ الإسرائيلي يشكّل عرقلة مباشرة لمشروع “الممر الهندي-الأوروبي IMEC”، الذي تراهن عليه واشنطن وحلفاؤها كبديل عالمي مضاد لمبادرة “الحزام والطريق” الصينية.
ووفق تقديرات المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، فإن الاتفاق الأخير بين القاهرة وتل أبيب كان سيُعزّز من فكرة أن البلدين يمكن أن يتحولا إلى عقدتي طاقة رئيسيتين داخل هذا الممر، بينما يؤدي أي تعطيل أو خلاف في مراحل التنفيذ إلى إضعاف ثقة المستثمرين وتأخير الممرات الفرعية المرتبطة به، التي تحتاج إلى مستوى مرتفع من الاستقرار والثبات طويل المدى.
خطورة الخطوة الإسرائيلية لن تقف عند حاجز الممر والبعد الاقتصادي فحسب، بل قد تتجاوز إلى العامل السياسي، وتفاقم التوتر في علاقات “إسرائيل” مع الولايات المتحدة ومصر، وهما الوسيطان الرئيسيان في اتفاق وقف إطلاق النار بين تل أبيب وحماس الذي أوقف حربًا استمرت أكثر من عامين، بحسب “أسوشيتد برس“.
لذلك من غير المرجّح أن تسمح واشنطن لإسرائيل بالاستمرار في هذه المناورات السياسية على حساب مصالحها الكبرى، ويُتوقع أن تواصل الولايات المتحدة ضغطها باتجاه دفع الحكومة الإسرائيلية نحو تسريع حسم الاتفاق واستئناف توريد الغاز لمصر دون مزيد من التعطيل.
حرج أخلاقي وإهانة سياسية
التلويح الإسرائيلي بالعبث باتفاق الغاز — حتى وإن تراجعت تل أبيب عنه لاحقًا أو نجحت مصر في البحث عن بدائل — يضع القاهرة في زاوية ضيقة أخلاقيًا وسياسيًا، فإسرائيل لم تكتفِ بأن تُبرم اتفاقًا مع مصر يضخ مليارات الدولارات في خزينتها بينما تستمر في تدمير غزة وقتل أهلها أطفالًا ونساءً وشيوخًا، بل مضت خطوة أبعد عبر استخدام الاتفاق ذاته كسلاح ضغط، وكأنها تمنح القاهرة دورًا تابعًا لا شريكًا.
كان كثيرون ينتظرون من مصر أن تبادر بنفسها لإعادة النظر في الصفقة بعد حجم الفظائع في غزة، لا أن تتحول إلى طرف يتلقى الإشارات من الكيان المجرم، لكن الواقع جاء معكوسًا، إسرائيل هي التي لوّحت بإعادة النظر، بينما اكتفت مصر بموقع رد الفعل لا موقع الفعل.
هذا المشهد ترك أثرًا سلبيًا على صورة الوسيط المصري، الذي لطالما قدّم نفسه لاعبًا محوريًا وصاحب نفوذ في ملفات الإقليم، فإذا به يظهر — بسبب استخدام تل أبيب هذا الملف للضغط — في موقع أقرب إلى المُمسك المُرتهن بشروط الطرف الأخر، وليس الطرف القادر على فرض إيقاعه وإرادته.
وهنا يتجاوز الأمر حدود الاقتصاد والسياسة التقليدية إلى مساحة الكرامة السياسية والدور والهوية، فتعامل “إسرائيل” مع اتفاق الغاز بهذه الطريقة لا يستهدف المكسب المادي فقط، بل يستهدف مصر وصورتها أمام نفسها وأمام الإقليم، ويفرض تساؤلات عدة على ألسنة رجل الشارع: هل هي طرف متحكم وصاحب قرار مستقل؟ أم طرف يمكن ابتزازه والضغط عليه كلما احتاجت تل أبيب إلى توظيف ورقة إضافية في حرب غزة؟
في ضوء ماسبق بات واضحًا أن “إسرائيل” بطريقة تعاملها مع اتفاق الغاز لم تكن تسعى فقط لتحقيق مكاسب اقتصادية، بل كانت تهدف بالأساس إلى إذلال القاهرة وإبقائها في موقع التابع المحتاج لا الشريك الندّي، حيث أدرك الإسرائيلي وبشكل يقيني أن الأزمة الاقتصادية المصرية تمنحها هامش ضغط غير مسبوق، وعليه كان استخدام الاتفاق كورقة ابتزاز، تُلوّح بوقفه أو استئنافه وفق مصالحها وشروطها هي، في رسالة سياسية مباشرة بأن القرار ليس بيد القاهرة، وأنها مجبرة على التعامل مع الاتفاق كحتمية وليس كاختيار سيادي.
ومما يُزيد من خطورة هذا السلوك الممنهج من تل أبيب أنه جاء في لحظة حرب إبادة تُرتكب في غزة، أي في توقيت كان يجب أن يكون للموقف الأخلاقي والدور العربي أولوية على أي حسابات أخرى، لكن نتنياهو ورفاقه نجحوا في تحويل الاتفاق إلى منصة لإهانة الدور المصري وتشويه صورته أمام ذاته وأمام الإقليم، ودفعت بأسئلة صعبة حول قدرة الدولة المصرية بما لها من ثقل سياسي وتاريخي على فرض إرادتها واستقلال قرارها.
فالتحدي الحقيقي الذي فرضته الصفقة على مصر ليس اقتصاديًا فقط، بل يتعلق بإعادة تعريف مكانتها وموقعها وتأثيرها في الشرق الأوسط، وهو ما يجعل هذه الأزمة أعمق من مجرد خلاف على الغاز، ويضع القاهرة أمام مراجعة ضرورية لطبيعة العلاقة وأدواتها ومساحات تحركها.
