مع تبلور ملامح خطة “اليوم التالي” في غزة عقب وقف إطلاق النار الأخير، تتجه الأنظار نحو الدور الذي تعتزم تركيا الاضطلاع به في مرحلة ما بعد الحرب، بين أن تكون ضامنة فعلية لاتفاق سلام محتمل أو تواصل دورها التقليدي كوسيط وداعم إنساني.
وجددت تركيا خلال الأيام القليلة الماضية تأكيد التزامها الكامل بخطة السلام الأمريكية في غزة، معلنة استعدادها للقيام بأي دور يسهم في ترسيخ الاستقرار في القطاع. فقد صرّح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأن بلاده “جاهزة لتقديم كل أنواع الدعم لغزة”، في إشارة إلى استعداد أنقرة للمساهمة في جهود إعادة الإعمار أو الانخراط في ترتيبات أمنية ضمن إطار دولي.
من جهته، شدد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان على أن الحفاظ على وقف إطلاق النار يشكل “أولوية قصوى” لبلاده، مؤكدًا في مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره الألماني أن تركيا ستظل “نَفَسًا لغزة وأملًا لفلسطين”، ولن تتراجع عن دورها النشط في دعم إعادة إعمار ما دمرته الحرب.
وأضاف فيدان أن الرئيس أردوغان أصدر توجيهًا واضحًا بتسخير الإرادة السياسية التركية للمشاركة في أي صيغة دولية محتملة لإدارة المرحلة المقبلة، سواء كانت “قوة مهام خاصة” أو “مجلس سلام” أو “قوة استقرار دولية”، رغم عدم اكتمال ملامح هذه الآليات بعد.
أما على الصعيد العسكري، فقد كشف مسؤول في وزارة الدفاع التركية أن أنقرة تجري مشاورات مع أطراف إقليمية ودولية بشأن سبل مشاركة الجيش التركي في بعثة دولية لحفظ السلام في غزة. وأوضح أن مركزًا للتنسيق العسكري-المدني قد أُنشئ بالفعل كخطوة أولى نحو تشكيل القوة المقترحة، والتي ستوكل إليها مهام مثل تسيير دوريات أمنية، حماية البنى التحتية المدنية، تأمين خطوط الإمداد الإنساني، حفظ أمن الحدود، وتدريب قوات أمن محلية على ضبط الاستقرار في مرحلة ما بعد الحرب.
View this post on Instagram
وردًا على سؤال حول اعتراضات محتملة من الجانب الإسرائيلي على وجود تركي في غزة، ذكّر المسؤول بأن “تركيا واحدة من الدول الضامنة لاتفاق وقف إطلاق النار”، في إشارة مباشرة إلى توقيع أنقرة على وثيقة خطة السلام إلى جانب الولايات المتحدة ومصر وقطر.
قوة دولية في غزة ودور أنقرة المحتمل
تشكل خطة السلام الأمريكية، المكونة من 20 بندًا، خارطة طريق لإنهاء الحرب في غزة، وقد طُرحت رسميًا من قبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وتلقت موافقة مبدئية من كل من “إسرائيل” وحركة حماس في 9 أكتوبر/تشرين الأول الجاري. وتتضمن الخطة مراحل متدرجة تبدأ بوقف القتال وتنتهي بترتيبات دائمة لإدارة القطاع.
وقد دخلت المرحلة الأولى حيّز التنفيذ بالفعل، وتشمل وقفًا شاملًا لإطلاق النار وتبادلًا متزامنًا للأسرى، انسحبت بموجبه القوات الإسرائيلية إلى “الخط الأصفر” داخل القطاع، مقابل إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين (سواء من الأحياء أو رفات القتلى)، في مقابل إطلاق معتقلين فلسطينيين من السجون الإسرائيلية.
أما المرحلة الثانية، التي لم تُفعّل بعد، فتنص على نشر “قوة استقرار دولية مؤقتة” في غزة بشكل فوري، تتولى حفظ الأمن وملء الفراغ الذي قد ينشأ عقب الانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية. وبحسب الخطة، ستُكلَّف هذه القوة أيضًا بمهام نزع سلاح حركة حماس، وضمان عدم تجدد المواجهات، إلى جانب تدريب ودعم قوة شرطة فلسطينية معتمدة لتتولى مسؤولية الأمن الداخلي. كما تتضمن الخطة إنشاء جهاز إداري مؤقت بإشراف هيئة انتقالية دولية لتسيير شؤون القطاع خلال المرحلة الانتقالية.
على الأرض، بدأت واشنطن وحلفاؤها بالفعل خطوات تحضيرية لتنفيذ الخطة، حيث دشن نائب الرئيس الأمريكي جاي دي فانس، مركز تنسيق مشترك (مدني–عسكري) في جنوب “إسرائيل”، يُعنى بمراقبة تنفيذ وقف إطلاق النار وتنسيق دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة.
وفي مؤتمر صحفي من داخل المركز، أشاد نائب الرئيس فانس بالدور التركي في إنجاح جهود وقف إطلاق النار، واصفًا إياه بـ”البنّاء”، وقال إن واشنطن “ممتنة” لأنقرة على دورها الفاعل في تسهيل التوصل للاتفاق، مشيرًا إلى أن العملية “تتقدم، لكنها تحتاج إلى وقت”.
“إسرائيل” ترفض مشاركة تركيا
رغم الترحيب الدولي بدور تركيا كوسيط وإنجازها تهدئة غزة، عبّرت “إسرائيل” بوضوح عن رفضها لأي مشاركة عسكرية تركية في القطاع. ففي 27 أكتوبر/تشرين الأول الجاري أكد وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر أن تل أبيب “لن تقبل بوجود قوات مسلحة تركية في غزة” ضمن آلية السلام المزمع تنفيذها.
وأشار ساعر إلى أن تركيا، بقيادة رجب طيب أردوغان، لم تكتفِ بإصدار بيانات معارضة، بل فرضت عقوبات تضمنت تعليقًا تامّاً للتبادل التجاري مع “إسرائيل” منذ مايو/أيار 2024، في إطار ضغوطها على تل أبيب لوقف الحرب في غزة. واعتبر أن السماح لدخول قوات تركية إلى القطاع “غير معقول”، معلناً أن “إسرائيل” أبلغت حلفاءها الأميركيين بهذا الرفض الحازم.
وكانت مواقف نتنياهو قد هدّدت مسبقاً بأي دور أمني تركي في غزة، إذ صرّح في 26 أكتوبر/تشرين الثاني أن “إسرائيل” هي التي “تقرر أي القوى الأجنبية يُسمح لها بالمشاركة في غزة”.
من ناحيته، تزامنت تصريحات الولايات المتحدة مع موقف تل أبيب، حيث قال وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو خلال زيارته لـ”إسرائيل” إن القوة الدولية “يجب أن تتألّف من دول تثير ارتياح إسرائيل”، رغم أن تركيا لم تُذكر بالاسم، فإن تصريحات واشنطن تنطوي عملياً على استبعادها من المشاركة ما لم تتغيّر موافقة “إسرائيل”.
وفي هذا السياق، أفادت صحيفة الغارديان بأن تركيا “مرجّح أن تُستبعد” من القوة الدولية المرتقبة في غزة بسبب رفض تل أبيب. وعلى الرغم من عرض أنقرة الرسمي للمشاركة، يُنظر إلى المعارضة الإسرائيلية باعتبارها عائقاً فعلياً أمام تواجد تركي في الترتيبات الأمنية الحالية.
وأخيراً، جاء مَوقف الرئيس التركي أردوغان ليلقي ظلالاً إضافية على المشهد. ففي أحد أحاديثه للصحفيين دعا واشنطن وحلفاءها إلى “ممارسة مزيد من الضغوط على إسرائيل لضمان التزامها ببنود خطة السلام”، وذهب إلى حد المطالبة بإمكانية “وقف مبيعات السلاح لإسرائيل وفرض عقوبات” إن لم تفي بتعهّداتها، محمّلاً تركيا مسؤولية الدفاع عن حقوق الفلسطينيين في سياق الاتفاق.
القوة الناعمة والصلبة في الاستراتيجية التركية
تعتمد تركيا على استراتيجية مزدوجة تدمج بين القوة الناعمة والقوة الصلبة لتثبيت حضورها في غزة ومحور الشرق الأوسط. على صعيد القوة الناعمة، تستثمر أنقرة في الدبلوماسية والمساعدات الإنسانية وإعادة الإعمار لتعزيز صورتها كمدافع عن الفلسطينيين، وهو ما أثمر بمنحها “ورقة وسطاء إقليميين لا يمكن تجاهلها”.
View this post on Instagram
وتحول موقف تركيا من علاقة تُعدّ عبئاً إلى رصيد جيو-سياسي ثمين، إذ نجحت في إقناع حركة حماس بقبول الصفقة الأميركية، ما أرسى لحضور تركي فاعل في المعادلة الشرق أوسطية رغم استياء “إسرائيل” وبعض الدول العربية.
في المقابل، لا تتردد تركيا في إظهار القوة الصلبة عند الحاجة. فالعسكرية التركية، كعضو نشط في حلف الناتو، تطرح نفسها كمنخرطة محتملة في مهمات حفظ السلام في غزة، والدبلوماسية التركية استخدمت أدوات ضغط فعّالة، أهمها تعليق التجارة مع “إسرائيل” خلال الحرب ودعوات علنية من الرئيس رجب طيب أردوغان لفرض عقوبات دولية أو حظر سلاح على “إسرائيل” حال إخلالها بالتزامها.
آفاق المرحلة المقبلة: تصعيد أم تفاهم؟
مع استمرار الهدنة الهشة في غزة، تتجه الأنظار إلى الأسابيع المقبلة التي يُنتظر أن تكشف ملامح الدور التركي في مرحلة ما بعد الحرب، فبينما تراهن أنقرة على ترسيخ حضورها ضمن القوى الفاعلة في ترتيبات الأمن وإعادة الإعمار، تواصل تل أبيب محاولاتها لاستبعادها من أي دور عسكري مباشر، مدعومة بموقف أمريكي حذر يميل لمراعاة حساسيات “إسرائيل”.
ورغم ذلك، تدرك أنقرة أن “إسرائيل” لن تستطيع عمليًا فرض فيتو على مشاركتها، كون تركيا واحدة من الدول الضامنة لاتفاق وقف إطلاق النار، ولأنها ترتبط في الوقت نفسه بعلاقات متينة مع واشنطن والدوحة والقاهرة وهي الأطراف الأكثر تأثيرًا في مسار التسوية الجارية. كما أن تركيا تُعد من الدول المنتظر أن تضطلع بدور رئيسي في إعادة الإعمار، وتملك رؤية استراتيجية ترى أن وجودها في غزة ضرورة سياسية وإنسانية تكرّس توازنًا إقليميًا جديدًا في مرحلة ما بعد الحرب.
وفي مواجهة الرفض الإسرائيلي، تواصل أنقرة تحريك أدواتها الدبلوماسية والإعلامية لتأكيد حضورها، ساعية إلى صيغة تضمن بقاءها لاعبًا أساسيًا دون استفزاز الأطراف الأخرى. وتشمل هذه الصيغة المحتملة المشاركة في بعثات مراقبة غير مسلّحة، أو إرسال فرق هندسية وإنسانية ضمن القوة الدولية المقترحة، بما يتيح لها الجمع بين الشرعية السياسية والدور الميداني الفاعل.
في المحصلة، يتحرك الدور التركي في مساحة دقيقة بين طموح أنقرة الإقليمي والتوازنات السياسية المحيطة بها، لكن المؤكد أن تركيا عازمة على البقاء لاعبًا رئيسيًا، فهي تضغط لتكون جزءًا من القوة الدولية، وتواصل تدفق مساعداتها إلى غزة، وتدير اتصالات مكثفة لضمان أن يكون صوتها حاضرًا في صياغة مستقبل القطاع.
وبين احتمال التصعيد في حال تمسّك الأطراف بمواقفها، وفرصة التفاهم إذا جرى استيعاب الدور التركي ضمن تسوية توافقية، ستحدد الأسابيع المقبلة شكل الحضور التركي في غزة بعد هذه الحرب. وكما قال وزير الخارجية هاكان فيدان مؤخرًا: “ما زلنا في بداية الطريق، والأهم هو الوصول إلى سلام دائم يقوم على حل الدولتين”، وهي رؤية ترى أنقرة أنها لن تتحقق دون حضورها الفاعل على أرض غزة.