تتجه الأنظار إلى واشنطن مع اقتراب موعد تصويت الكونغرس، نهاية هذا العام على تعديل أو رفع قانون “قيصر” للعقوبات المفروضة على سوريا، في لحظة سياسية فارقة تتزامن مع الحديث عن زيارة محتملة للرئيس أحمد الشرع إلى واشنطن في العاشر من الشهر الجاري، وذلك ضمن جهود متصاعدة تقودها الجالية السورية في الولايات المتحدة، التي بات صوتها أكثر حضوراً في مراكز القرار، مطالبة منذ سقوط النظام المخلوع، بإنهاء العقوبات وفتح مسار جديد في العلاقة بين دمشق وواشنطن.
تعديل أم إلغاء؟ قانون قيصر يعود مجددًا إلى طاولة الكونغرس الأمريكي. pic.twitter.com/qdgZluVdjs
— نون بوست (@NoonPost) July 23, 2025
لكن هذا المسار يصطدم بجبهة معاكسة تقودها “إسرائيل” وحلفاؤها داخل الكونغرس واللوبيات المؤثرة، حيث تعمل هذه الأطراف على منع أي تغيير في منظومة العقوبات، خشية أن يمنح ذلك سوريا الجديدة فرصة لاستعادة توازنها السياسي والاقتصادي بما يغيّر حسابات القوة في المنطقة. فهل تنجح الجهود الإسرائيلية في تكبيل هذا المسار وإبقاء العقوبات قائمة، أم أن التوجه الأمريكي الجديد نحو استقرار سوريا، بدعم من إدارة ترامب، سيمنح دمشق فرصة كسر الحلقة الطويلة من العزلة والضغط؟
جهود اللوبي الإسرائيلي
مع تنامي النقاش داخل واشنطن حول مستقبل قانون “قيصر” والعقوبات المفروضة على سوريا، كثّفت “إسرائيل” تحرّكاتها الدبلوماسية والسياسية، سواء عبر القنوات الرسمية أو من خلال المنظمات الموالية لها في الولايات المتحدة، بهدف منع أي تخفيف لهذه العقوبات، وشملت تلك التحركات أيضًا تبني “إسرائيل” خطاباً أمنياً واضحاً مفاده أن رفع العقوبات عن دمشق سيُعيد تشكيل موازين القوة في المنطقة على نحو يُهدد أمنها القومي.
وكانت وكالة رويترز قد نقلت عن مسؤولين أمريكيين قولهم إن القيادات الإسرائيلية أخبرت واشنطن بأن السلطات الجديدة في دمشق “تمثل تهديداً لحدود إسرائيل”. كما أعربت شخصيات إسرائيلية عن خشيتها من أن يؤدي انفتاح واشنطن على سوريا إلى صعود تيارات إسلامية متشددة، أو إلى دخول تركيا كضامن لحكومة ذات طابع إسلامي، ما قد يحوّل سوريا – وفق هذا الخطاب – إلى قاعدة محتملة لحماس وفصائل مسلحة أخرى
من ناحيته، كشف موقع المونيتور في وقت سابق أن بعض المنظمات المؤيدة لـ”إسرائيل” في واشنطن تدعو إلى إبقاء العقوبات المفروضة على دولة يرونها تهديدًا محتملًا لـ”إسرائيل” وللأقليات كالعلويين والدروز، رغم أن الكثيرين من يهود الشتات السوري وجاليتهم الصغيرة في دمشق جادلوا بضرورة تخفيف العقوبات لاستعادة تراثهم العريق في سوريا.
ووفق المصادر ذاتها، فقد شارك مسؤولون إسرائيليون بارزون، من بينهم رون ديرمر – المستشار المقرّب من نتنياهو – في هذه الجهود عبر التواصل المباشر مع مشرّعين أمريكيين.
وتجلى تأثير هذا الضغط في النقاشات حول قانون تفويض الدفاع الوطني، إذ تضمّنت مسودته تعديلاً طرحته السيناتور جين شاهين لإلغاء قانون “قيصر”، إلا أن قانون تفويض الدفاع الوطني الذي أقره المجلس تضمن أيضاً تعديلاً من السيناتور ليندسي غراهام (جمهوري، كاليفورنيا) يُلزم الرئيس بالتصديق كل ستة أشهر على استيفاء الحكومة السورية لعدة شروط، منها الامتناع عن القيام بعمل عسكري ضد “إسرائيل” واتخاذ خطوات لطرد المقاتلين الأجانب.
وفي حال عدم التصديق مرتين متتاليتين، يدعو الكونغرس إلى إعادة فرض العقوبات، وهي صيغة عكست حجم النفوذ الإسرائيلي داخل المؤسسة التشريعية وأثارت قلقاً داخل إدارة ترامب من تضييق هامش المناورة السياسية.
نتنياهو يضغط شخصياً لإبقاء العقوبات على سوريا
لم تكتفِ إ”سرائيل” بالتحركات داخل الكونغرس واللوبيات المؤيدة لها، بل انتقل الضغط إلى أعلى مستوى سياسي عبر تدخل مباشر من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، في محاولة لعرقلة أي مسار أمريكي يفضي إلى رفع العقوبات عن دمشق.
في هذا السياق قالت القناة “12” العبرية: “في إسرائيل، لا ينكرون أن نتنياهو طلب من ترامب الإبقاء على العقوبات على سوريا، وتم رفض الطلب”. وذلك بعد لقاء ترامب بالرئيس أحمد الشرع في الرياض، وإعلانه رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا.
من جهتها، قالت صحيفة “إسرائيل اليوم” إنه في حين عارضت “إسرائيل”، الحليف الرئيسي للولايات المتحدة، احتضان الشرع، كشف ترامب أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس التركي رجب طيب أردوغان ساعدا في التوسط في الاجتماع بين الرئيسين الأمريكي والسوري وقرار رفع العقوبات عن دمشق.
في هذا السياق، يؤكد زكي لبابيدي مدير مكتب سوريا في المجلس السوري الأمريكي، أن نفوذ نتنياهو لا يقتصر على الخطابات، بل يمتد إلى تأثير مباشر على عدد من أعضاء الكونغرس في مجلسي الشيوخ والنواب، وحتى داخل الإدارة الأمريكية.
ويضيف لبابيدي في تصريح لـ”نون بوست” أن عدداً من المسؤولين الإسرائيليين يحملون الجنسية الأمريكية، ما يسهّل عملية التأثير داخل المؤسسات التشريعية والتنفيذية.
وتستند “إسرائيل” في هذا الضغط إلى خطاب يعتبر أن رفع العقوبات قد يهيئ لنظام سوري جديد قد يتحول مستقبلاً إلى خصم لـ”إسرائيل”، رغم أن ميزان القوة العسكري في المنطقة يميل بشكل واضح لصالح تل أبيب المدعومة نووياً وعسكرياً من واشنطن، يضيف لبابيدي.
بهذا يتحول نتنياهو من مجرد مراقب للمسار الأمريكي تجاه دمشق، إلى لاعب مباشر يسعى لتثبيت العقوبات كجزء من مقاربة إسرائيلية أشمل لمنع إعادة تأهيل سوريا إقليمياً ودولياً.
جهود استثنائية للجالية السورية في واشنطن
في مقابل النفوذ الإسرائيلي داخل الكونغرس، برزت الجالية السورية في الولايات المتحدة كلاعب فاعل يحاول التأثير في القرار الأمريكي باتجاه رفع العقوبات عن سوريا، فمنذ سقوط النظام المخلوع، كثّفت منظمات المجتمع المدني السورية–الأمريكية نشاطها السياسي، ونظّمت ندوات ولقاءات مع أعضاء الكونغرس ومسؤولين في الإدارة الأمريكية، لإيصال رسالة مفادها أن استمرار العقوبات بعد التغيير السياسي في دمشق لم يعد ورقة ضغط على النظام بقدر ما أصبح عائقاً أمام إعادة الإعمار واستقرار السوريين.
وفي خطوة وُصفت بأنها الأوسع منذ سقوط النظام المخلوع، نظّم المجلس السوري – الأميركي «يوم مناصرة طارئ» داخل مبنى الكابيتول في العاصمة الأميركية واشنطن في تحرّك جديد يهدف إلى حثّ المشرّعين الأميركيين على رفع ما تبقّى من العقوبات المفروضة على سوريا، خصوصاً قانون قيصر، وتقديم مساعدات استقرار مباشرة لدعم الشعب السوري،
وأسفرت هذه الفعالية وفق تصريحات لرئيس المجلس فاروق بلال، عن انضمام أعضاء جدد في الكونغرس لدعم مشروع إلغاء قانون قيصر الذي يطرحه النائب جو ويلسون بدعم من الحزبين الجمهوري والديمقراطي.
وعلى مدى الأشهر الماضية عقدت الجالية أكثر من 40 اجتماعاً مع نواب من الحزبين، في واحدة من أكثر التحركات تنظيماً وتأثيراً في تاريخ الملف السوري داخل الولايات المتحدة.
من ناحيته يؤكد السياسي السوري الأمريكي أيمن عبد النور أن أهمية هذه التحركات تكمن في أنها تكسر احتكار الرواية الإسرائيلية داخل الكونغرس، إذ إن كثيراً من المشرعين ـ كما يقول ـ لا يعرفون عن سوريا سوى ما يصلهم عبر القنوات الإسرائيلية، إلا أن تواصل الجالية وإيضاحها لواقع الداخل السوري أسهم في تغيير لغة بعض اللجان البرلمانية، من خطاب قائم على الشروط والضغوط إلى خطاب يدعم الشعب السوري ويرى ضرورة منح دمشق فرصة للانطلاق مجدداً، بحسب حديث عبد النور لـ”نون بوست”.
وفي تفاصيل تحركات الجالية السورية، يوضح السياسي زكي لبابيدي أن الجالية السورية تتحرك عبر مسارين متزامنين قبل التصويت على قانون قيصر؛ الأول هو إرسال رسائل رسمية من المجلس السوري الأمريكي ومنظمات مدنية إلى أعضاء الكونغرس للتأثير على مواقفهم، والثاني تعبئة أبناء الجالية للتواصل هاتفياً مع مكاتب النواب والشيوخ، باعتبار أن آراء الناخبين تُؤخذ بجدية في القرارات التشريعية.
يشار إلى أن أول لقاء رسمي بين الجالية السورية والإدارة الأمريكية الجديدة بعد سقوط النظام كان في 3 يناير/ كانون الثاني الماضي، عندما اجتمع وزير الخارجية الأمريكي السابق أنتوني بلينكن مع ممثلين عن الجالية في واشنطن، حيث طُرحت مطالب واضحة تتضمن رفع العقوبات، تعزيز التعافي الاقتصادي، تطوير العلاقات الدبلوماسية مع الحكومة السورية، وإعادة فتح السفارة الأمريكية في دمشق.
هل ينجح الضغط الإسرائيلي في عرقلة رفع العقوبات؟
يتواصل شد الحبل داخل واشنطن بين اتجاه أمريكي واضح نحو رفع العقوبات عن سوريا، وضغوط إسرائيلية تسعى لإبقاء “قيصر” قائماً كورقة نفوذ إستراتيجية، فوزارة الخارجية الأمريكية أكدت أن إدارة ترامب تدعم تضمين إلغاء القانون ضمن ميزانية الدفاع الوطني، معتبرة أن الاستثمار في استقرار سوريا “خطوة تمنح السوريين حق العيش في دولة آمنة ومزدهرة”.
مع ذلك لا يزال الملف بعيداً عن الحسم؛ فإدراج إلغاء العقوبات في مشروع قانون الدفاع لا يعني تنفيذه تلقائياً، إذ يجب التوفيق بين نسختي مجلس الشيوخ والنواب قبل رفعه إلى الرئيس للمصادقة النهائية. وتشير تقديرات مراقبين إلى أن القرار الحاسم قد يُتخذ قبل نهاية عام 2025، وهو الموعد الذي تسعى إدارة ترامب لإنجاز رفع العقوبات فيه، وفق ما نقل موقع المونيتور.
السياسي السوري أيمن عبد النور يرى أن جوهر التعقيد لا يكمن فقط في الضغوط الإسرائيلية، بل في تخوف بعض أعضاء الكونغرس من طريقة تعامل الحكومة السورية الجديدة مع ملف المشاركة السياسية للأقليات. ويشير إلى أن زيارة الرئيس أحمد الشرع المرتقبة إلى واشنطن ستكون فرصة لتقديم تطمينات مباشرة للمشرعين الأمريكيين، وهو ما قد يفتح الطريق لإلغاء كامل لقانون قيصر.
في المقابل، يعتبر السياسي زكي لبابيدي أن فرص نجاح الضغوط الإسرائيلية محدودة، قائلاً: “لا أعتقد أن إسرائيل ستنجح، فهناك معادلة جديدة؛ الرئيس ترامب يدعم رفع العقوبات، وهناك ضغط إقليمي قوي من السعودية وتركيا وقطر والأردن لصالح استقرار سوريا”.
ويضيف لبابيدي أن هذه الدول ترى أن سوريا المستقرة والقادرة اقتصادياً وسياسياً هي الضمان لوقف تهريب المخدرات وإنهاء العنف الذي يهدد أمن المنطقة بأكملها. كما ينوه إلى أن التوتر الأخير بين واشنطن وتل أبيب بشأن غزة يقلل من هامش التأثير الإسرائيلي في هذا الملف تحديداً.
هذا التوجه عززه خطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حين وصف الشعب السوري بـ”العظيم”، والرئيس أحمد الشرع بـ”القوي والمخلص”، معلناً أنه رفع العقوبات “لمنح سوريا فرصة”. وتماهى مع هذا الموقف وزير الخارجية ماركو روبيو، مؤكداً أن الولايات المتحدة تتخذ خطوات لدعم “سوريا موحدة ومستقرة”.
وأضاف روبيو في منشور له على منصة “إكس” إن ذلك يأتي بموجب قرار الرئيس ترامب المتعلق بإلغاء العقوبات المفروضة على سوريا، موضحاً أن العقوبات الأميركية لن تشكّل عائقا أمام مستقبل سوريا.
في المحصلة، تبدو معركة رفع العقوبات مفتوحة على مسارين: ضغوط إسرائيلية تحاول إبطاء المسار، مقابل إرادة أمريكية وإقليمية تميل نحو إنهائه ودعم استقرار سوريا. ومع اقتراب لحظة التصويت في الكونغرس، سيُحسم ما إذا كانت دمشق ستتجاوز أخيراً عقدة “قيصر”، أم أن الحسابات الإسرائيلية ستؤجل هذا التحول إلى إشعار آخر.