أعاد سقوط الفاشر رسم خريطة الصراع في السودان، فامتد النزاع شرقه نحو قلب البلاد، وجعل شمال كردفان نقطة التقاء الجبهات وممر الإمداد الرئيسي نحو الوسط، لتحوّل الولاية من منطقة تماس ثانوية إلى ساحة تنازع استراتيجية تحدد مآلات الحرب.
عسكريًا، فتح انهيار خطوط الجيش في الفاشر الباب أمام الدعم السريع للتموضع وشن هجمات على محاور بارا والأبيض لقطع الإمداد وإرباك قيادة الجيش، في حين يسعى الجيش للحفاظ على تماسك دفاعاته في شمال كردفان كآخر حواجز حماية قلب السودان السياسي والاقتصادي، ما يجعلها محور الصراع الأهم منذ أبريل 2023.
استراتيجيًا، تكشف معارك كردفان انتقال الحرب من السيطرة الميدانية المحدودة إلى الصراع على الممرات الحيوية، حيث يقاس كل تقدم أو انسحاب بقدرته على إعادة توزيع القوة بين المركز والأطراف، لتصبح الولاية مختبرًا لتوازن الردع بين الطرفين.
إنسانيًا، تتفاقم مأساة المدنيين مع تزايد النزوح، وانهيار الخدمات الأساسية، وحصار للمدنيين في مدن مثل بارا، ما يجعل شمال كردفان على حافة معادلة خطرة تجمع بين حرب المواقع وحرب التجويع، وتطرح تساؤلات عن مستقبل الاستقرار في السودان.
تطورات الميدان
قبل يوم من سقوط الفاشر، سيطرت مليشيا الدعم السريع على مدينة بارا الاستراتيجية شمال كردفان في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2025، على بعد 59 كلم من الأبيض و314 كلم من أم درمان، بعد أن كان الجيش قد استعادها في 11 سبتمبر/أيلول 2025. وبعد يوم، واصلت المليشيا تقدمها وسيطرت على محلية أم دم حاج أحمد، على بعد 60 كلم من بارا و122 كلم من الأبيض، موسعة نفوذها وضاغطة على خطوط إمداد الجيش.
قبل هذه التطورات، حقق الجيش سلسلة مكاسب مهمة توجت بفك الحصار عن مدينة الأبيض من جهة الجنوب. في 30 يناير/كانون الثاني 2025، اقتحم متحرك “الشهيد الصياد” مدينة أم روابة على الطريق القومي كوستي–الأبيض، وحررها بعد أيام من اشتباكات استخدم فيها المدفعية والطيران المسيّر، ثم تقدم نحو الرهد، التي دخلها الجيش في 17 فبراير/شباط، وتلاها تحرير جبل الداير ومعسكر سدرة في 19 فبراير، ما أبرز انهيار دفاعات المليشيا في شمال كردفان.
في ولاية غرب كردفان، سقطت النهود في يد الدعم السريع في 2 مايو/أيار بعد انسحاب اللواء 18، وفي ولاية جنوب كردفان، استعاد الجيش الدبيبات في 23 مايو، وهي مدينة استراتيجية تربط ولايات جنوب وشمال وغرب كردفان، وتقع على بعد 100 كلم جنوب شرق الأبيض، غير أن السيطرة لم تدم طويلًا؛ ففي 29 مايو استعادت المليشيا الدبيبات والخوي، قبل أن تُحكم سيطرتها على الخوي لاحقًا.
وفي 26 سبتمبر/أيلول 2025، استعاد الجيش أم صميمة غرب الأبيض، آخر منطقة في شمال كردفان غرب العاصمة، في خطوة عززت دفاعاته حول الأبيض ومكنت من تثبيت خطوطه في مواجهة تقدم الدعم السريع.
خريطة السيطرة
يُعدّ إقليم كردفان بموقعه الجغرافي نقطة ارتكاز محورية في خريطة الصراع السوداني، إذ يتوسط خطوط النار الممتدة بين دارفور غربًا والمركز في الخرطوم شرقًا، ويشكّل بمساحته الشاسعة وموقعه المركزي مسرحًا مفتوحًا لتقاطع المصالح العسكرية والإمدادية.
وتبرز ولاية شمال كردفان بوصفها رئة استراتيجية تربط القوات المسلحة القادمة من وسط البلاد بجبهات دارفور، كما تمثل في الوقت ذاته حزام إمداد حيوي لمليشيا الدعم السريع عبر طريق الصادرات وشمال دارفور.
في شمال كردفان، يسيطر الجيش السوداني وحلفاؤه على مدينة الأبيض، مركز القيادة والإمداد الرئيس في الإقليم، إلى جانب أم روابة والرهد الواقعتين على الطريق القومي كوستي–الأبيض، الذي يُعدّ خط الإمداد الوحيد المفتوح للجيش من العمق السوداني في النيل الأبيض والجزيرة.
تُحكم المليشيا قبضتها على بارا وجبرة الشيخ على طريق أم درمان–الأبيض (طريق الصادرات)، وهو شريان اقتصادي–عسكري بالغ الأهمية يربط الغرب بالعاصمة. كما تبسط سيطرتها على سودري وأم بادر وحمرة الشيخ، وهي مناطق ذات طابع شبه صحراوي تحتوي على مهابط طيران صغيرة تُستخدم لعمليات الإمداد الجوي والتهريب، خصوصًا تهريب الذهب إلى الخارج عبر شبكات مرتبطة بالإمارات، بحسب تقارير دولية.
أما منطقة أم صميمة الواقعة على بعد 50 كيلومترًا غرب الأبيض، فتمثل خط تماس متقدمًا بين الطرفين، تبادل الجيش والدعم السريع السيطرة عليها مرارًا، قبل أن تُثبت القوات المسلحة وجودها فيها كآخر نقطة دفاعية متقدمة غرب المدينة.
وفي جنوب كردفان، تبدو المعادلة أكثر تعقيدًا. فالجيش السوداني يحتفظ بسيطرته على كادقلي عاصمة الولاية والدلنج والطريق الرابط بينهما، لكنه يواجه حصارًا مزدوجًا من مليشيا الدعم السريع والحركة الشعبية–شمال بقيادة عبد العزيز الحلو، اللتين أعلنا تحالفًا ضمن إطار تحالف السودان التأسيسي (تأسيس) في فبراير 2025.
ويمتد خط تماس واسع يمر عبر مناطق الحمادي والدبيبات – وكلاهما بيد الدعم السريع – على الطريق القومي الأبيض–الدلنج، ما يقطع الإمداد العسكري إلى الدلنج.
ويمتلك الجيش نطاق سيطرة آخر في الولاية يشمل أبو كرشولا، والعباسية، والرشاد، وأبو جبيهة، وهي مناطق وعرة جغرافيًا ترتبط بطريق محدود إلى أم روابة في شمال كردفان، وتشكّل قاعدة خلفية بديلة في حال تعرض الأبيض لضغط ميداني متزايد.
أما الحركة الشعبية–شمال، فتحتفظ بمنطقة كاودا في جبال النوبة منذ انفصال الجنوب في 2011 كمركز قيادة وإدارة سياسية وعسكرية، حيث تمارس سلطتها بشكل شبه مستقل. ومنذ دخولها تحالف “تأسيس”، أتاحت للحليف الجديد – الدعم السريع – دخول مناطق ذات تضاريس غابية وجبلية وعرة، مما منح المليشيا عمقًا تكتيكيًا لتطويق اللدلنج وكادقلي من الشرق والغرب في آنٍ واحد.
أما غرب كردفان، فتُعتبر اليوم من أكثر المناطق اضطرابًا في الإقليم. فالمليشيا تسيطر على الفولة عاصمة الولاية، وعلى النهود والخوي وأبو زبد، وهي مدن تمثل نقاط اتصال مهمة بين دارفور وشمال كردفان. بينما يحتفظ الجيش السوداني بسيطرته على بابنوسة المحاصرة منذ أكثر من عامين، وعلى منطقة هجليج النفطية التي تضم اللواء 90 مشاة وتشكل مركزًا اقتصاديًا وعسكريًا حساسًا على الحدود مع دولة جنوب السودان.
وتشير المعطيات الميدانية إلى أن خطوط الإمداد والدعم اللوجستي في غرب كردفان أصبحت في يد الدعم السريع، ما يمنحه قدرة على المناورة والضغط على محور الأبيض من الجهة الغربية، في حين يركز الجيش جهوده على تحصين الأبيض وحماية خطوطه القادمة من النيل الأبيض.
بهذا التوزيع غير المتوازن للسيطرة، تبدو شمال كردفان بمثابة جبهة مفصلية تحدد مستقبل الصراع بين الجيش والدعم السريع. فمن ينجح في تأمين الأبيض وضمان تدفق الإمداد منها وإليها، سيملك مفتاح السيطرة على وسط السودان وغربه معًا.
التحركات العسكرية والسيناريوهات المتوقعة في كردفان
تتزامن التطورات الميدانية في كردفان مع مفاوضات دولية وإقليمية حول هدنة إنسانية محتملة لثلاثة أشهر، ولقاءات مرتقبة بين قيادات الطرفين في عواصم إقليمية (من بينها القاهرة)، ما يخلق حالة من عدم اليقين حول خيارات التصعيد أو التهدئة.
على الأرض، بعد سقوط الفاشر، شنت قوات الدعم السريع هجمات خاطفة على نقاط استراتيجية حول الأبيض، أبرزها جبل الهشابة جنوب غرب المدينة في 28 أكتوبر، قبل أن يستعيدها الجيش خلال ساعات، في جولات سريعة لتضييق الخناق على مدينة الأبيض.
رد الجيش كان بضربات جوية مركّزة في 1 نوفمبر على تمركزات الدعم السريع في بارا، غرب الأبيض، الخوي، أبو زبد، النهود، الفولة وبابنوسة، لتفتيت تجمعات العتاد وقطع الإمداد، مع الإشارة إلى أن هذه الضربات تحد من الحركة السريعة للدعم السريع لكنها لا توقف انتقالها عبر محاور بديلة.
في المقابل، كثفت الدعم السريع استخدام الطيران المسيّر ضد أهداف استراتيجية، بما فيها محاولة استهداف مدينة أم روابة، بينما واصل الجيش تنفيذ إسقاطات جوية لإمداد الوحدات المحاصرة (كما في بابنوسة) بالأسلحة واللوجستيات لضمان صمودها.
وتتداخل السيناريوهات المتوقعة في كردفان بين عدة خيارات رئيسية:
– سيناريو الحصار والإحكام (قصير المدى): تسعى مليشيا الدعم السريع لإحكام حلقة حول الأبيض عبر محاور بارا وأم دم حاج أحمد، وقطع الطريق القومي كوستي–الأبيض عند أم روابة أو الرهد، ثم الهجوم عبر محاور متعددة (بارا شمال-شرقي، أم صميمة غربيًا، كازقيل جنوب-غربيًا، ومحور شمالي) لإجبار الجيش على الدفاع داخل المدينة، دون الحاجة لإسقاطها فورًا.
– سيناريو الحصار المُهّد للضغط الاستراتيجي: بدل إسقاط الأبيض، قد تُحصر قوات الجيش داخلها وتحوّل الدعم السريع عملياته إلى غرب كردفان لإسقاط معاقل مثل بابنوسة، ثم فتح محاور جنوبية نحو الدلنج وكادوقلي لزيادة الضغط على جنوب كردفان، مستغلة القيادة اللامركزية والتنقل بين الجبهات.
– سيناريو استعادة المبادرة من الجيش: إذا استمر الجيش في استغلال التفوق الجوي والإمداد من محاور النيل الأبيض، فسيحاول استعادة بارا، وتأمين أم دم حاج أحمد، وتطهير «دار الريح»، وقطع محاور الدعم السريع نحو جبرة الشيخ لفتح الطريق القومي أم درمان–الأبيض، والتقدم شمالًا نحو سودري وأم بادر وحمرة الشيخ، مع السيطرة على الخوي والنهود لتخفيف الضغط الغربي.
– تأثير الهدنة المحتملة: هدنة ثلاثة أشهر قد توقف المواجهات مؤقتًا وتتيح تدفق مساعدات، لكنها تتيح لكل طرف إعادة تموضعه؛ الدعم السريع لتثبيت مكاسبه وفتح خطوط تهريب، والجيش لإعادة التموين واستعادة مواقع لاحقًا، ما يجعل الهدنة نافذة تكتيكية أكثر من كونها استقرارًا دائمًا.
الوضع الانساني
تواصل الحرب في كردفان ودارفور خلق أزمة إنسانية متصاعدة، حيث أجبرت المواجهات المسلحة آلاف المدنيين على الفرار، فقد أعلنت المنظمة الدولية للهجرة نزوح أكثر من 36 ألف مدني من بلدات وقرى في ولاية شمال كردفان بعد أسبوع من سيطرة الدعم السريع على بارا وام دم حاج احمد. وقدر برنامج تتبع النزوح نحو 1,205 شخص من محليتي بارا وأم روابة بتاريخ 31 أكتوبر 2025.
ورصد المتطوعون انتهاكات واسعة في تلك المناطق، حيث قُتل حوالي 55 شخصًا في بارا، كما أُعلن عن استشهاد 5 متطوعين من الهلال الأحمر. كما استهدفت مسيرة على ما يُرجح أنها تابعة للدعم السريع، مدينة كادوقلي في جنوب كردفان بتاريخ 31 أكتوبر، ما أسفر عن 6 قتلى و12 مصابًا بينهم نساء وأطفال وشابان.
وتفاقمت الأزمة مع التهديد الغذائي؛ إذ أشار برنامج الأغذية العالمي إلى أن أكثر من 21 مليون شخص في السودان يواجهون الجوع في أكبر أزمة غذائية بالعالم، بينما أكد مفوض الشؤون الإنسانية بشمال كردفان أن القصف الأخير على قرية بالأبيض أودى بحياة 40 مدنيًا. وبحسب التقديرات، هناك 20 منطقة في ولايات دارفور وكردفان معرضة لخطر المجاعة نتيجة النزاع المستمر وانهيار الخدمات الأساسية.
