لقد شكّل الضغط الإسرائيلي على منطقة الشرق الأوسط بأكملها خلال العامين الأخيرين، والذي وصل إلى ضرب عواصم مثل طهران والدوحة، دافعًا للعديد من الدول لتفعيل خيار “إعادة الضبط”، كما رأينا خصوصًا في مصر وتركيا، إلا أن هذا الضغط العسكري الإسرائيلي خلّف انعكاسات واضحة على المنطقة، ولا سيما في سباق التسلّح، ولم يقتصر أثره على إعادة التموضع السياسي بين بلدان الإقليم.
لذلك، نحن بحاجة إلى النظر في ترجمة هذا الضغط العسكري الإسرائيلي على المنطقة من خلال منطق الأرقام أولًا، وكيف عززت خمس سنوات من الحرب الإسرائيلية على غزة – من حرب قصيرة في عام 2021، مرورًا بحرب أكتوبر (2023-) – في إذكاء جمر العسكرة والتسلّح الذي كان يختمر في المنطقة خلال العقد الأخير بفعل تصاعد الحروب الإقليمية والأهلية، والحرب ضد الإرهاب، لكن قبل الانتقال إلى دراسة حالات خاصة مثل مصر وتركيا، ينبغي التوقف أولًا عند منطقة الشرق الأوسط عمومًا بوصفها معينًا لا ينضب لمورّدي الأسلحة في العالم.
سوق ذهبية للأسلحة
رغم أن نسبة استيراد الأسلحة في الشرق الأوسط شهدت انخفاضًا بنسبة 20% في الفترة بين عامي 2020-2024 مقارنة بعامي 2015-2019، إلا أن أربع دول من المنطقة تُعدّ من بين أكبر عشرة مستوردين للأسلحة في العالم خلال الفترة الخُمسية الأخيرة. على التوالي، تُعدّ قطر والسعودية ومصر والكويت من بين المستوردين العشرة الكبار، وتشكل هذه الدول جنةً للمصنّعين الكبار، إذ تستورد منطقة الشرق الأوسط – من دون “إسرائيل” – 27% من صادرات الأسلحة العالمية.
بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فإن أكثر من نصف واردات الأسلحة إلى الشرق الأوسط جاءت منها بنسبة 52%، بينما حلّت إيطاليا بعدها بنسبة 13%، ثم فرنسا 9.8% وألمانيا 7.6%.
أما فرنسا، وهي ثاني أكبر مُصدّر للأسلحة الرئيسية في العالم في الفترة من 2020 إلى 2024، زادت صادراتها إلى الشرق الأوسط بنسبة 11% مقارنة بالفترة بين عامي 2015-2019، وبنسبة 72% مقارنة بفترة 2010-2014، حيث يشكّل الشرق الأوسط 28% من صادرات السلاح الفرنسية.
كذلك برزت ألمانيا كمورّد رئيسي في الشرق الأوسط، خصوصًا بالنسبة إلى مصر التي تُعدّ أكبر مستورد للسلاح الألماني بين عامي 2020-2024، وقد تلقت منطقة الشرق الأوسط الحصة الأكبر من صادرات السلاح الألماني عمومًا خلال تلك الفترة بنسبة 37%، حيث تستورد مصر 19% من الأسلحة الألمانية، متقدمة على “إسرائيل” التي تستورد 11%، وجاءت في المرتبة الثانية مباشرة بعد أوكرانيا بنسبة 19%.
أما الشرق الأوسط كجائزة ذهبية حقيقية لأسواق مورّدي السلاح، فيُعد الأهم بالنسبة لشركات السلاح الإيطالية، التي وردت خلال الفترة بين عامي 2020-2024 أكثر من 71% من صادراتها إلى دول في الشرق الأوسط.
وقد حصلت قطر والسعودية، بالشراكة مع أوكرانيا والهند وباكستان، على 35% من واردات الأسلحة العالمية خلال الفترة 2020-2024. وفي تلك الفترة تحديدًا، حافظت قطر على موقعها كثالث أكبر مستورد للسلاح في العالم، بعد أن كانت في المرتبة العاشرة بين عامي 2015-2019، فقد ضاعفت وارداتها من الأسلحة بنسبة 127% مقارنة بتلك الفترة، وبزيادة لافتة بلغت 1312% مقارنة بفترة 2010-2014، لتصبح زبونًا دائمًا للسوق الأميركي الذي شكّل 48% من وارداتها. حصلت قطر في تلك الفترة على 42 طائرة مقاتلة من الولايات المتحدة، و31 من المملكة المتحدة، و16 من فرنسا، كما استوردت 7 سفن حربية كبيرة من إيطاليا.
من ناحية أخرى، تراجعت واردات السعودية من الأسلحة بنسبة 41% بين فترتي 2015-2019 و2020-2024، حيث انتقلت من كونها أكبر مستورد للسلاح في العالم إلى المرتبة الرابعة، ومع ذلك تبقى زبونًا ثابتًا للسوق الأميركي، إذ تحصل على 74% من وارداتها من الأسلحة من الولايات المتحدة.
وتشير توقعات “سيبري” إلى أن مشتريات السعودية من السلاح ستعود لتتضاعف في الفترة الخُمسية المقبلة، إذ يُعزى انخفاض وارداتها في الفترة الأخيرة إلى الطبيعة الدورية لسياساتها في التسلّح. ومن ناحية أخرى، حافظت السعودية في عام 2024 على موقعها كأكبر منفق عسكري في الشرق الأوسط، وسابع أكبر دولة في العالم، بعدما زاد إنفاقها العسكري بنسبة 1.5% ليصل إلى 80.3 مليار دولار، رغم أنه لا يزال أقل بنسبة 20% عن عام 2015 حين بلغت عائدات النفط ذروتها.
مصر وتركيا.. إعادة الضبط
تزامن صعود الرئيس الروسي فلاديمير ميدفيديف مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما في التوقيت نفسه، وحاولت الإدارتان فتح صفحة جديدة في تاريخ العلاقات الروسية الأمريكية المتقلّبة، ففي مؤتمر “إعادة الضبط” الشهير، أهدت هيلاري كلينتون، وزيرة خارجية أوباما، سيرغي لافروف، وزير خارجية ميدفيديف، زرًا كُتب عليه بالروسية “بيريجروزكا” التي تُترجم إلى “حمل زائد”، بينما كانت نية كلينتون الحقيقية أن تهدي الوزير الروسي زرًا كُتب عليه “بيريزاجروزكا” التي تعني “إعادة الضبط” (reset)، أي إعادة العلاقات بين البلدين إلى وضع المصنع.
ما كان خطأ غير مقصود تحوّل إلى حادثة ذات رمزية شهيرة، فبينما أرادت الإدارتان عهدًا جديدًا من إعادة ضبط العلاقات، انزلقت العلاقة بالفعل إلى حالة من “الحمل الزائد” على الطرفين، وتُشبه تلك الحادثة كثيرًا ما يحدث اليوم في الشرق الأوسط من تقاربات بين دول ظلّت طرفي صراع وعلى النقيض لسنوات طويلة؛ وهنا نعني علاقة مصر بإيران، ومصر بتركيا، التي تشهد مؤخرًا عملية إعادة ضبط تمثّلت في سلسلة من التفاهمات الدبلوماسية، وكان مفاجئًا أن نشهد أيضًا تقاربات عسكرية، خصوصًا بين مصر وتركيا، اللتين أعادتا مناورات “بحر الصداقة”، وأعلنتا مشاريع عسكرية مشتركة في مجال صناعة الدرونز، ودخول مصر في مشروع طائرات الجيل الخامس “كآن”.
لقد بتنا إذن أمام محاولات لإعادة ضبط علاقات ظلّت متوترة على الدوام، ففي حالة تركيا ومصر، بدلاً من التسلّح ضد بعضهما، انتقلنا إلى حالة التسلّح معًا، لكن بسبب قضايا متصلة بأمن الطاقة والجيوسياسة، يبقى بإمكان البعض التنبؤ بعودة “الحمل الزائد” مستقبلًا نظرًا للتناقضات التي ما زالت تؤطر هذه العلاقات المُعاد ضبطها. لكن كيف تسير عمليات التسلّح في البلدين في السنوات الأخيرة؟
مصر.. الصندوق الأسود
بالنسبة لمعاهد ومراكز الأبحاث مثل معهد ستوكهولم لأبحاث السلام “سيبري”، تُعدّ الحالة المصرية، مع دول أخرى معدودة على أصابع اليد، بمثابة صندوق أسود للباحثين، إذ يُعدّ الإنفاق على الجيش سرًا من أسرار الدولة، ولا يُعلن منه سوى رقم إجمالي دون أي تفصيل، ولذلك ظلّت مصر على الدوام، خلال السنوات الأخيرة، تقع في مراكز متأخرة في تصنيف “سيبري” للدول الأكثر إنفاقًا على التسلح في الشرق الأوسط والعالم عمومًا، ففي تقرير عام 2024، لم تكن مصر ضمن أول 40 دولة من حيث الإنفاق العسكري قياسًا بالناتج المحلي الإجمالي.
في عام 2019 مثلًا، ورغم رفع دول المنطقة كافة لنفقاتها العسكرية في ظل الحرب على الإرهاب، والتي بلغت إجمالًا 163 مليار دولار، لم تتجاوز حصة الإنفاق المصري 2.3% فقط، لتحتل المرتبة التاسعة بين دول المنطقة، وأظهرت الأرقام الحكومية الرسمية أن الإنفاق الحكومي المصري على التسلح كان الأدنى بين دول المنطقة التي رفعت نفقاتها بنسب وصلت إلى 30%، فبينما كان العبء العسكري في المنطقة هو الأعلى عالميًا، حيث بلغ متوسط الإنفاق 4.4% من الناتج المحلي الإجمالي، كانت مصر الأقل بنسبة 1.2%. ومع ذلك، وبالنظر إلى صفقات السلاح التي تبرمها القاهرة، تظهر فجوة تمويلية واضحة؛ ففي عام 2021 بلغت قيمة الصادرات الألمانية من الأسلحة إلى مصر نحو 4 مليارات يورو، فضلًا عن صفقة “رافال” التكميلية لصفقة 2015، حيث تعاقدت مصر على 30 طائرة جديدة بقيمة 4.5 مليار دولار.
لذلك، فإن الحديث عن التسلح المصري غالبًا ما يذهب إلى تحليل التمويل خارج الموازنة العامة، إذ تمتلك القوات المسلحة أنشطة اقتصادية واسعة غير خاضعة للرقابة البرلمانية، ويُقدَّر أن عائداتها توفّر موارد تموّل صفقات أسلحة ضخمة، وتشير الدراسات المتخصصة إلى وجود فجوة تمويلية هائلة بين أرقام الإنفاق المنخفضة وحجم المشتريات الفعلي، ما يدفع الباحثين إلى الاعتماد على تقارير نقل الأسلحة والاستيراد لتقدير حجم الإنفاق الحقيقي.
من هذا المنظور، حافظت مصر خلال العقد الأخير على موقعها كواحدة من أبرز مستوردي السلاح في العالم. ففي الفترة ما بين 2016-2020، ارتفعت وارداتها من الأسلحة بنسبة 136% مقارنة بالفترة 2011-2015، ما وضعها في المرتبة الثالثة عالميًا في استيراد الأسلحة، وقد شملت مشترياتها طائرات “رافال” وحاملات “ميسترال” من فرنسا، وغواصات “تايب 209” وأنظمة دفاع جوي من طراز “إيريس” من ألمانيا، وفرقاطات “فريم” من إيطاليا، ومحاولات لشراء مقاتلات “سو-35” من روسيا، رغم الضغوط الاقتصادية.
وفي أبريل/ نيسان 2025، أعلنت مصر عن صفقة مع كوريا الجنوبية للحصول على 100 مقاتلة “إف إيه-50” بقيمة مليار دولار، متضمنة بندًا لنقل التكنولوجيا إلى مصر، في إطار توجهها نحو تعزيز التصنيع العسكري المحلي، كما أبرمت القاهرة صفقة أخرى مع الولايات المتحدة مطلع 2025 بقيمة 4.7 مليار دولار لتحديث 555 دبابة “أبرامز”. وفي الوقت نفسه، يُقدّر موقع “تريدنج إيكونوميكس” نفقات مصر العسكرية بنحو 2.3 مليار دولار في عام 2024، منخفضة من 3.1 مليار دولار في عام 2023.
تركيا: إنفاق، تصنيع محلي، صادرات
في تقرير “سيبري”، جاءت تركيا في المرتبة رقم 17 ضمن قائمة أكثر أربعين دولة إنفاقًا على التسلّح في عام 2024، بعدما كانت في المرتبة 19 عام 2023. لقد زادت تركيا إنفاقها العسكري خلال العقد الأخير بنسبة 110%، وبنسبة 12% عن العام السابق فقط، حيث خصصت 25 مليار دولار للإنفاق العسكري. وفي المقابل، يبدو الاقتصاد التركي قادرًا على تحمّل سياسة التسلّح، إذ لم يتغير مقدار الإنفاق العسكري من الناتج المحلي الإجمالي إلا بنسبة طفيفة جدًا؛ فبينما كان 1.8% عام 2015، وصل إلى 1.9% عام 2024، وهي نسبة تُعد مرتفعة نسبيًا بين دول حلف الناتو.
كذلك تُعد تركيا من الدول الأكثر استفادة من سباق التسلّح عالميًا، وبفضل اعتمادها المتزايد على التصنيع العسكري المحلي، أصبحت في المرتبة 11 ضمن أكبر 25 دولة مُصدّرة للسلاح وفقًا لتقرير “سيبري”، حيث تستحوذ على 1.7% من سوق التصدير العالمي بين عامي 2020-2024. وتُعد هذه النسبة مرتفعة مقارنة بموقعها بين عامي 2015-2019، حين كانت صادراتها تشكّل 0.8% فقط من السوق العالمي، بنسبة نمو بلغت 103%. وفي هذا السوق، تمثّل الإمارات وباكستان وقطر على التوالي الزبائن الثلاث الأكبر للسلاح التركي. وفي العموم، تُعد تركيا ثاني أكبر مُصدّر للسلاح في منطقة الشرق الأوسط بعد “إسرائيل”، إذ تستحوذ على 28% من صادرات السلاح الخارجة من المنطقة، بينما تذهب 33% من صادراتها العسكرية إلى جيرانها في الشرق الأوسط.
ومن ناحية أخرى، جاءت تركيا في المرتبة 22 ضمن قائمة أكبر 40 مستوردًا للسلاح عالميًا بنسبة 1.1% من الواردات العالمية بين عامي 2020-2024، وهو ما يمثل انخفاضًا واضحًا عن وارداتها في الفترة بين 2015-2019 التي بلغت 1.7%، بما يعكس تقليصًا في الاعتماد على الواردات بنسبة 33%.
وتستخدم تركيا صادراتها من الأسلحة كأداة نفوذ ناشئة في عدة مناطق حول العالم؛ فبين عامي 2020-2024 استحوذت الصين على 26% من واردات الأسلحة في غرب إفريقيا، تلتها فرنسا بنسبة 14%، بينما جاءت تركيا في المرتبة ذاتها مع روسيا بنسبة 11%. كما تُعد تركيا من أبرز المصدّرين للطائرات بدون طيار إلى المغرب، والمزوّد الأول للسلاح إلى نيجيريا.
وقد استغلّت تركيا الأزمات الأوروبية كما الإفريقية؛ فبينما زادت صادراتها إلى إفريقيا بنسبة 296% مقارنة بين فترتي 2015-2019 و2020-2024، استطاعت أن تزيد صادراتها إلى أوروبا بنسبة 469% في الفترة نفسها، مستفيدة من الحرب الأوكرانية التي رفعت صادرات تركيا إلى كييف بنسبة 1460%، وفق تقرير “سيبري”. ونتيجة لذلك، حققت الشركات التركية في قطاع السلاح نموًا بنسبة 24% مع نهاية عام 2024.