في خضم السباق العالمي على تقنيات الغد، برزت المعادن النادرة – تلك الأتربة السحرية الـ17 – كأحد المحاور الخفية للصراع بين القوى العظمى في القرن الحادي والعشرين؛ إذ تتحكم الصين في النسبة الأكبر من سلسلة إمدادها، فباتت المورد شبه الوحيد الذي يربط صناعات السيارات الكهربائية والطائرات المقاتلة وتوربينات الرياح وحتى الأقمار الصناعية بعالم المعادن الحرجة.
في 9 أكتوبر الماضي، أعلنت وزارة التجارة الصينية فرض قيود جديدة على تصدير الأتربة النادرة والمنتجات ذات الصلة، بما في ذلك التقنيات والمعدات المستخدمة في التعدين والتكرير، بحيث لم تكن هذه القيود عشوائية، بل استجابة للتوترات التجارية المتجددة مع الولايات المتحدة تحت إدارة دونالد ترامب الثانية، التي فرضت تعريفات إضافية على الواردات الصينية.
عقوبات صينية تُربك الغرب
أثار هذا لإعلان ذعرا في العواصم الأوروبية، حيث تعتمد صناعات السيارات والدفاع على هذه المعادن بنسبة تصل إلى 90% من مصادرها الصينية، ففي بروكسل، حذرت المفوضية الأوروبية من أن هذه الخطوة قد تشل سلاسل التوريد الحيوية، مما يهدد أهداف الاتحاد في التحول الأخضر بحلول 2030.
في المقابل، سارعت واشنطن إلى التفاوض السريع وخرجت بصفقة تحفظ تدفق المعادن الحرجة إلى مصانع بوينغ وتسلا، مقابل التزام صيني بشراء 12 مليون طن متري من فول الصويا الأمريكي قبل نهاية 2025، و25 مليون طن سنويا خلال الاعوام الثلاثة القادمة، مع استئناف مشتريات الذرة الرفيعة والأخشاب.
من جانبها، خفضت الولايات المتحدة الرسوم الجمركية على بعض الواردات الصينية، ومددت تعليق الرسوم المتبادلة المرتفعة لعام كامل، مع تأجيل تطبيق رسوم بنسبة 100% كانت مقررة على صادرات الصين الشهر المقبل.

الصفقة عُقدت خلال لقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع الزعيم الصيني شي جين بينج، في 30 أكتوبر في بوسان بكوريا الجنوبية، في أول محادثات تجمعهما هما منذ 2019. بيد أن هذا الاتفاق، الذي وصفه ترامب بـ”النصر الهائل”، كشف عن تباين واضح في الاستراتيجيات الغربية؛ فقد اشترت واشنطن الوقت بصفقة ثنائية سريعة بينما رفضت بروكسل التفاوض منفردة.
بعد يوم من قمة بوسان، أعلنت مجموعة الدول السبع في لقاء تورونتو عن تأسيس “الجدار الغربي”، وهو تحالف للمعادن النادرة تقوده كندا بمشاركة تسع دول أخرى هي فرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان ولوكسمبورج والنرويج والولايات المتحدة وأستراليا، بالإضافة إلى أوكرانيا كشريك استراتيجي؛ حيث ستتعاون هذه الدول لتدشين 26 استثمارا يخص المعادن الحرجة، بقيمة 4.55 مليار دولار أمريكي لتمويل منشآت إنتاج الجرافيت والعناصر الأرضية النادرة والسكنديوم.
وسبق ذلك في واشنطن، اتفاق ثنائي بين الولايات المتحدة واستراليا، حيث وقع الرئيس ترامب وورئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيزي، في 20 أكتوبر، على اتفاق المعادن الحرجبة بقيمة 8.5 مليار دولار لكسر احتكار الصين على الغاليوم (100% صيني) ومغناطيسات الأتربة النادرة (90% صينية)، يضخ بموجبه كل بلد مليار دولار على الأقل خلال ستة أشهر في 12 مشروعا أولويا مشتركا يغذي صناعات الدفاع والطاقة النظيفة لكلا البلدين.
على خلاف حلافائها الأوروبيين، فضلت الولايات المتحدة انتهاج دبلوماسية تجارية تمنحها هامشا من الوقت، مذكرة بأن بكين ما تزال تمتلك القدرة على استخدام هذه المعادن كورقة مساومة في أي نزاع مستقبلي. ويجسد هذا الانقسام، المتجذر منذ سنوات، التباين التقليدي بين النهج الأمريكي الثنائي القائم على الصفقات المباشرة، والنهج الأوروبي الجماعي الذي تسعى من خلاله بروكسيل إلى بناء تحالف أوسع لمواجهة الاحتكار الصيني.
أصبحت واشنطن تدرك جيدا حجم الورقة التي تمتلكها الصين في ميدان المعادن الحرجة، فسارعت إلى بناء قاعدة إنتاج محلية بدعم مباشر من وزارة الدفاع، واستثمرت أكثر من 550 مليون دولار في شركتي “إم بي ماتيريالز” و” نوفـيون ماغنِتِكس” لتوسيع عمليات التعدين والتكرير في كاليفورنيا وإنشاء مصانع مغناطيسات جديدة داخل الأراضي الأميركية خلال 10 سنوات.
في ألمانيا، أثارت القيود الصينية على صادرات المعادن النادرة قلق قطاع الدفاع، إذ تعتمد الصناعات العسكرية على هذه العناصر في تصنيع الطائرات المقاتلة والغواصات وأنظمة الاستشعار، ما جعل برلين تدرك حجم هشاشتها أمام الهيمنة الصينية على هذا السوق الحيوي.
كما يواجه لوبي صناعة السيارات الألمانية مخاوف جدية من تعطل أو حتى توقف إنتاج السيارات بسبب القيود الصينية على صادرات العناصر الأرضية النادرة والمغناطيسات التي تعد مكونات أساسية في المحركات الكهربائية وأنظمة الفرامل وأجهزة الاستشعار، فقد حذر اتحاد صناعة السيارات الألمانية من أن بكين لم تصدر سوى عدد محدود من التراخيص لموردي هذه المعادن، وهو ما لا يكفي لتغطية احتياجات الشركات الكبرى مثل “فولكس فاجن” و”مرسيدس-بنز” و”بوش”.
معركة نفوذ اقتصادي.. الصين تواجه ضغوط #ترامب بكشف أرباح الماركات العالمية وحقيقة تكلفتها، وتطرح سؤالًا كبيرًا: كيف سيتصرف المستهلك بعد الآن؟ pic.twitter.com/ZoEWUacbBX
— نون بوست (@NoonPost) April 16, 2025
في الوقت ذاته، كشفت باريس عن خطة وطنية لإجراء “جرد تعدين شامل” لمواردها الجيولوجية، خاصة بعد أن باتت الصناعات الفرنسية، من السيارات الكهربائية إلى الطيران والدفاع، تعتمد بشكل شبه كامل على المكونات الصينية، كما دعا الرئيس إيمانويل ماكرون الاتحاد الأوروبي إلى تفعيل أداة مكافحة الإكراه التجاري، وهي الآلية الأكثر صرامة في ترسانة بروكسل التجارية، في سابقة لم تعرفها السياسة الأوروبية من قبل.
صُممت هذه الآلية القانونية لردع أي دولة تستخدم الضغط الاقتصادي أو التهديدات التجارية ضد دول الاتحاد الأوروبي أو شركاته، من خلال إجراءات مثل فرض رسوم جمركية انتقامية أو تقييد دخول شركات تلك الدول إلى الأسواق الأوروبية، ومع ذلك قد يتسبب هذا الخيار الذي اقترحه ماكرون في ردود فعل انتقامية بدلا من استعادة التوازن، حتى ولو كانت باريس محقة في اختبار صلابة أوروبا.
يأتي هذا التحرك في ظل حالة استنفار صناعي أوروبي؛ أبرزها افتتاح أكبر مصنع لإنتاج المغناطيسات الدائمة في مدينة نارفا الإستونية، قرب الحدود الروسية، بتمويل بقيمة 14.5 مليون يورو من الاتحاد الأوروبي، حيث تسعى شركة الكندية “نيو بيرفورمانس ماتيريالز” إلى إنتاج أولي يبلغ 2000 طن سنويا، على أن يرتفع إلى 5000 طن، لتلبية احتياجات تصنيع توربينات الرياح وبطاريات السيارات الكهربائية.
“السلاح الصامت” الصيني
حتى الآن، ما تزال الصين تمسك بخيوط النفوذ في سلاسل التوريد العالمية ذات الأهمية الحيوية للأمنين الوطني والاقتصادي، إذ تهيمن على نحو 70% من عمليات التعدين و90% من التكرير العالمي للعناصر الأرضية النادرة، بفضل استثمارات استراتيجية تراكمت على مدى عقود.
وأمام تراجع المناجم الغربية خشية التلوث البيئي، أصبحت بكين الحارس الفعلي لمحركات السيارات الكهربائية وتوربينات والأقمار الاصطناعية، وحتى مقاتلات “إف-35” الأمريكية التي تحتوى واحدة منها على أكثر من 440 كلغ من المعادن النادرة، بينما تحتاج غواصة “فرجينيا” إلى 4200 كلغ.
منذ التسعينيات، شرعت الصين في بناء إمبراطوريتها المعدنية، حين أعلن زعيمها الراحل دنغ شياو بينغ عام 1992 أن “الشرق الأوسط يملك النفط، والصين تملك المعادن النادرة”. ومنذ ذلك الحين، سعت بكين إلى إحكام سيطرتها على سلاسل الإمداد العالمية، لا لأنها تملك أكبر الاحتياطات، بل لأنها استثمرت بصورة منهجية في تطوير التكنولوجيا وقدرات التكرير والمعالجة، ورغم ما واجهته من إخفاقات، واصلت المحاولة بإصرار حتى رسخت تفوقها في هذا القطاع.
في المقابل، فقدت الولايات المتحدة والدول الصناعية الكبرى الكثير من قدراتها في مجال معالجة المعادن وتكريرها، وتبددت خبراتها نتيجة فترات الركود وتراجع الاستثمار، بينما واصلت بكين دعم هذا القطاع عبر سياسات حكومية ممنهجة مكّنتها من تحويله إلى ركيزة من ركائز قوتها الاقتصادية والجيوسياسية.
بحلول عام 2010، بلغت حصة الصين من إنتاج العناصر الأرضية النادرة ذروتها بنحو 95% من الإنتاج العالمي، قبل أن تتراجع إلى حوالي 60% بحلول عام 2019، مع بدء جهود دولية لتنويع مصادر العرض. لو تمتلك بكين كنزا جيولوجيا فحسب، بل بنت شبكات تكرير ومعالجة ومعامل تحويل جعلت من سلسلة القيمة بأكملها تعمل لصالحها؛ من التنقيب إلى الفصل الكيميائي وصناعة المغناطيسات.
الضربات السابقة: دروس من اليابان وترامب
استخدمت الصين الأتربة النادرة أحيانا لتلعب دور “بندقية مؤقتة” في نزاعاتها الدبلوماسية، ففي عام 2010 إثر تصاعد خلاف بحري مع اليابان بسبب احتجاز طاقم صيني اعترضت طريقه سفن يابانية، خفضت بكين بشكل مفاجئ حصص تصدير هذه المعادن إلى اليابان، الأمر الذي أربك صناعة التكنولوجيا وأجبر طوكيو على تقديم التراجع بعد أسابيع.
استطاعت الصين تحويل هذه الميزة الصناعية إلى قوة سياسية فعالة، مستخدمة الأتربة النادرة كورقة ضغط لتحقيق تأثير سريع، لكنها تبقى إجراءا محدود الأهداف والمدة، وليس سلاحا طويل الأمد.
في السنوات التالية، اتخذت جولات متعددة من التوتر بين الصين والغرب أبعادا مماثلة، ففي خضم الحرب التجارية بين واشنطن وبكين 2018-2019، ألمحت وسائل الإعلام الصينية الرسمية إلى أن التحكم في صادرات الأتربة النادرة قد يمثل “سلاحا قويا” ضد الولايات المتحدة.
لاحقا في أبريل 2025، ردت الصين على فرض الولايات المتحدة تعريفات جمركية جديدة عبر تشديد القيود على تصدير سبعة عناصر نادرة، حيث وضعت تلك القيود صناعة السيارات الغربية أمام اختبار نقص فوري في الإمدادات؛ فقد اضطر بعض مصنعي السيارات إلى إيقاف خطوط الإنتاج لأسابيع بسبب تعطل تدفق المغنطيسات الحرجة.
رغم أن عددا من هذه الإجراءات خُفّفت لاحقا أو جرى التفاوض بشأنها، إلا أن سجل الصين يُظهر أنها لا تتردد في تفعيل هذا الورقة خلال وقت الأزمات.
أخطبوط الشركات الصينية
على امتداد العالم، كرست الصين استراتيجيتها بالاستحواذ والاستثمار في المشاريع التعدينية، ففي إفريقيا، يشهد العقد الأخير تدفقا صينيا غير مسبوق نحو المناجم الاستراتيجية، فقد تملكت الصين أو استثمرت شركاتها حصصًا في مناجم النحاس والليثيوم والكوبالت في الكونغو الديمقراطية وزيمبابوي ومدغشقر.
بلغت الالتزامات الصينية بالإنفاق على مشاريع البناء والاستثمارات في أفريقيا نحو 21.7 مليار دولار خلال 2023، ما يجعل القارة أكبر متلق إقليمي لهذه الاستثمارات، التي خصصت نحو 7.8 مليار دولار لقطاع التعدين، شملت مناجم النحاس في بوتسوانا التي استحوذت عليها شركة “إم إم جي” الصينية مقابل 1.9 مليار دولار، بالإضافة إلى مناجم الكوبالت والليثيوم في ناميبيا وزامبيا وزيمبابوي.
يشكل السعي وراء هذه المعادن الاستراتيجية محفزا رئيسيا لتطوير مشاريع البنية التحتية في إفريقيا، حيث أعلنت شركات صينية في يناير 2024 عن استثمارات تصل إلى 7 مليارات دولار ضمن مشاريع بنية تحتية، في إطار تعديل اتفاقيات شراكاتها الخاصة بتعدين النحاس والكوبالت في جمهورية الكونغو الديمقراطية.
كما تتوسع بكين عبر شراكات ضمن مبادرة الحزام والطريق لتأمين معادن كبرى في أمريكا اللاتينية وأستراليا أيضا، ورغم أن الكثير من هذه المشاريع موجه نحو الصناعات المدنية كالطاقة المتجددة والتكنولوجيا، إلا أن أن تأثيرها قد يمتد إلى القطاع العسكري. وبهذه الطريقة، تملك بكين شبكة عالمية من الشركات والمشروعات التي توازي تقريبا سعيها الاستراتيجي وراء المعادن النادرة داخل أراضيها.
في #ملف “⚒️حروب المعادن”، لهذا الأسبوع
يطوف “نون بوست” في جولة معمقة لاستكشاف المعادن الإستراتيجية التي يصنفها الخبراء والكيانات البحثية المتخصصة كـ”معادن حروب وصراعات”،
نقف هنا على خريطة تلك #المعادن وأهميتها ومعاناة الدول معها مستقبلًا في ظل ندرتها المتوقعة، مع استشراف… pic.twitter.com/2XrBBtEdOs— نون بوست (@NoonPost) July 6, 2025
في وجه النفوذ الصيني، يسعى الغرب حاليا لبناء “استقلال معدني” تدريجي، فقد أطلقت بروكسل قانونا للمواد الخام الحرجة يُحفز الاستثمار في المناجم المحلية ويضع أهدافا طموحة، منها تعدين 10% من الاحتياجات وتصنيع 40% على أرض الاتحاد بحلول 2030.
كما تسعى شركة “ليدينغ إيدج ماتيريالز” السويدية لاستئناف استخراج الأتربة النادرة في منجم “نورا كار” جنوب البلاد، بينما تخطط الشركة الحكومية “إل كيه آي بي” لاستخراج ألفي طن من هذه المعادن من من مخلفات منجم قديم للصلب شمال السويد. وفي فرنسا، يستعد مجمع “سولفاي” الكيميائي لتوسيع إنتاج مغنطيسات الأتربة في مصنعه بجنوب البلاد لتلبية نسبة تتراوح بين 20% و30% من الطلب الأوروبي على هذا المنتج.
يتطلّب تحرر الغرب من الاعتماد على الأتربة الصينية استراتيجية متكاملة، بدءا من التمويل والتكنلوجيا إلى إقامة شراكات وقواعد تنظيمية مرنة، وقد تساعد البدائل الجيولوجية على المدى الطويل، مثل الاكتشافات الجديدة في تركيا عام 2022، لكن تحويل الاكتشاف إلى سلسلة إنتاج تجارية ومستدامة يستغرق سنوات وقد يواجه معارضة محلية وبيئية.