على بعد نحو ثلاثة كيلومتر من مقبرة قرية بوتوتشاري، الواقعة شمال مدينة سربيرنتسا في شرق البوسنة، حيث دفن أكثر من ستة آلاف شخص جلهم من الرجال والشبان البوشناق المسلمين الذين قتلوا في تموز/ يوليو من عام 1995، يقع منزلاً ريفياً صغيراً تملكه “حركة أمهات سربرنيستا وجيبا/ Pokret Majke enklava Srebrenica i Žepa”، وهي منظمة أنشأتها أمهات الضحايا للمطالبة بالعدالة لأبنائهم وذويهم. يقع هذا المنزل في منطقة تغيرت ديموغرافياً واسعاً خلال الحرب، إذ تحولت من منطقة متنوعة المكونات إلى منطقة تخضع اليوم لإدارة جمهورية صربسكا، إحدى الكيانين المكونين لدولة البوسنة والهرسك (اتحاد البوسنة والهرسك الذي يهيمن عليها البوشناق والكروات وجمهورية صربسكا التي يهيمن عليها الصرب).
في الزيارة، تخبر سيدة في الثمانين عاماً والتي فقدت كثر من خمسين فرداً من عائلتها في المجزرة، قائلة: “معظم من قتلوا في المجزرة كانوا من الرجال، أخذوا من هنا إلى مراكز اعتقال بعيدة، قتلوا فيها، دفنوا في أماكن مختلفة، ثم نقلت رفاتهم وعظامهم لاحقاً في محاولة لإخفاء الجريمة. وبعد عشر سنوات من انتهاء الحرب، اقترح البعض أن يدفن من يتم ايجاده منهم في مناطق خاضعة لسيطرة اتحاد البوسنة والهرسك، ولكنا رفضاً نحن الاخوات والزوجات والامهات ذلك، كان من العدل أن يدفنوا هنا، في المكان الذين ولدوا، وعاشوا، وضحكوا، وقتلوا فيه”.
مع انتصار #الثورة_السورية، وبدء الحـديث عن الآليات المحتملة لمحاسبة رموز النظام السابق، نستعرض معكم تجارب محاسبة أنظمة ديكتاتورية بعد سقوطها
#سوريا #درعا pic.twitter.com/v9PJITC5Ru
— نون بوست (@NoonPost) March 18, 2025
على الطريق إلى المقبرة يخبرنا السائق أن بعض الصرب في ذكرى المجزرة من كل عام، يوم 11 تموز/ يوليو، يضعون لافتات كبيرة تستقبل مواكب الأمهات والعائلات اللواتي يأتين لزيارة القبور، أو لدفن آخرين وجدت عظامهم، كاتبين “سيتكرر هذا مرة ثانية”، ومع عبثية المشهد، تؤكد الأمهات أنهن يجدن في المقبرة نوعاً من العدالة الرمزية، إذ يبقى الاعتراف بالضحايا وحفظ الذاكرة الجماعية وسيلة تقف في وجه إنكار ما حدث، ولمواجهة النسيان ومنع طمس معالم الجريمة.
بعد ثلاثين عاماً من الحرب، ورغم محاكمة عدد من القادة الصرب على الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت بحق البوشناق، والتعويضات المادية التي قدمت برعاية دولية للضحايا، ما زالت عوائل الضحايا – وعلى رأسها الأمهات – تنتظر مزيداً من العدالة في الاعتراف بما حصل. فالعدالة القضائية وإن كانت ضرورية، لم تشف الجرح الإنساني العميق، ولم تجب عن الأسئلة المتبقية حول الحقيقة والمفقودين.
وعلى الرغم من الفوارق الكبيرة بين السياقين البوسني والسوري، فإن طيف الانتهاكات الواسع في سوريا، يدفع للتفكير حول ماهية العدالة التي ينتظرها السوريون، ولا سيما أمهات وذوو الضحايا؟
العدالة والانتقال وتطبيقها في البوسنة
ينطلق النقاش حول العدالة في مراحل ما بعد النزاعات من المفهوم الكلاسيكي أو ما يعرف بالنموذج الليبرالي للعدالة الانتقالية، والذي يرى كتاب “العدالة الانتقالية في الميزان” بأنه يقيد العدالة بمفهومها الواسع في إطار زمن محدد هو مرحلة “الانتقال السياسي” ويحصرها ما بين قطبي المساءلة العقابية والمصالحة الوطنية، بهدف العبور نحو استقرار سياسي ينهي العنف ويمهد لبناء الدولة. ضمن هذا الإطار تظهر العدالة الانتقالية التي تعرف بجملة من الآليات القانونية والسياسية والمجتمعية التي تعتمدها الدولة أو السلطة في مرحلة التحول بعد النزاعات الداخلية أو الحروب الأهلية، لتحقيق أربع اهداف رئيسية: المساءلة، وإنصاف الضحايا، ومنع تكرار الانتهاكات، والأهم هو الوصول إلى حالة من الاستقرار السياسي. وتقوم هذه العدالة الضيقة بالانتقال السياسي على أربع ركائز هي المحاكم القضائية، وكشف الحقيقة، وجبر الضرر والتعويض، والإصلاح المؤسسي الذي يجد الإشكالية المؤسساتية التي سببت العنف، ويعمل على إصلاحه.
#البوسنة والهرسك.. المصالحة طريقًا للتعافي من الإبادة
نبدأ بقراءة تاريخ الحكم في البوسنة والهرسك، وذلك من الحكم العثماني، مرورًا بفترة الحكم النمساوي المجري، وصولًا إلى جرائم الإبادة جماعية ضد المسلمين البوشناق. ونركز على أهمية المصالحة والعدالة الانتقالية في مرحلة ما بعد… pic.twitter.com/N0k78u2IYv
— نون بوست (@NoonPost) April 16, 2025
ورغم اكتمال هذا النموذج من الناحية النظرية، فإنه كثيرًا ما يُنتقد في التطبيق العملي، إذ تُظهر التجارب المتعددة أنه يغفل البعد المحلي والاجتماعي للعدالة، ويتناول آثار النزاع من الأعلى، ممثلًا برأس الدولة، إلى الأسفل، أي مجتمع الضحايا، بدل أن يكون نابعًا من المجتمعات المتضررة ومعبّرًا عنها.
إن تصميم العدالة الانتقالية من قبل النخب السياسية، أو تنفيذها بإشراف المجتمع الدولي كما في تجربة البوسنة، يجعلها بعيدة عن مفهوم العدالة المجتمعية، حيث يتحوّل الضحايا إلى متلقين لسياسات جاهزة بدل أن يكونوا فاعلين في صياغة العدالة التي تنصفهم حقًا.
بعد سقوط النظام، تبدأ معركة البناء وإعادة الإعمار… كيف تستفيد #سوريا من تجارب الدول التي نهضت بعد الحرب؟ pic.twitter.com/YzTOhbYmoN
— نون بوست (@NoonPost) March 17, 2025
في البوسنة والهرسك تجسدت هذه الإشكالية بوضوح؛ إذ إن السلام الذي أعقب حرب 1992-1995 كان نتاج هندسة دولية، أطلقت العدالة عبر المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة (ICTY) التي أُنشئت في لاهاي عام 1993، خلال الحرب نفسها، وقد جاءت محاكماتها مفصولة عن المجتمع المحلي، إذ لم يخترها البوسنيون ولم تُسهم في بناء الثقة بين المجموعات الإثنية المختلفة، كما أنها لم تحاسب جميع مرتكبي الانتهاكات، بل اقتصرت على كبار القادة الصرب، ما أوجد شعورًا بالانتقائية وأبقى الجرح مفتوحًا بين البوشناق والصرب حتى بعد مرور ثلاثة عقود، إذ يرى البوشناق أن معظم الرجال الصرب مجرمون، بينما يتمسك الصرب بإنكار ما حدث ويتوارثون العداء تجاه البوشناق.
وجاء اتفاق دايتون للسلام عام 1995 لينهي الحرب على قاعدة “الأمر الواقع”، مانحًا عفوًا عامًا ومكرّسًا الانقسام والشرخ الاجتماعي بدل معالجته، فقد نقل الانقسام المجتمعي ليصبح نظام حكمٍ ممأسسًا في الدستور والدولة، من خلال نظام سياسي قائم على المحاصصة الإثنية، لتتحول العدالة إلى أداة علاج مؤقت تُبقي البلاد في حالة انتظار وتوجس دائمين من احتمال تكرار الحرب والإبادة.
سقوط آلة إجرام آل #الأسد قد يطوي صفحة سوداء من تاريخ سوريا، لكن التعافي يبدأ بتحقيق العدالة للآلاف فكيف يمكن للسوريين الاستفادة من تجارب العدالة الانتقالية عالميًا؟#ردع_العدوان pic.twitter.com/pNDPwRxHmH
— نون بوست (@NoonPost) December 12, 2024
في هذا السياق، رأت أمهات الضحايا أن العدالة لا يمكن اختزالها في محاكمة القادة، ولا في برامج التعويض أو التعليم أو الدعم الاجتماعي التي قُدمت لهن ولأبنائهن وذوي الضحايا. فبالنسبة لهن، كل ذلك مهم، لكنه يظل ناقصًا ما لم يتحقق الحق الأبسط؛ أن يُدفن أبناؤهن في أرضهم، حتى وإن أصبحت اليوم تحت إدارة صربية. هذا الفهم الشعبي للعدالة يكشف نزعة أعمق نحو معناها الرمزي والمعنوي، القائم على الذاكرة والكرامة والحق في المكان، بوصفها عناصر لا تستطيع أي محكمة دولية أن تمنحها كاملة.
العدالة التي تطلبها الأمهات بين الحداد والاعتراف والمسؤولية
في مطلع الحديث، استهلت منيرة سوباشيتس “Munira Subašić” مديرة حركة أمهات سربرنتستا، الحديث عن نشاط الأمهات الممتد لثلاثة عقود بقولها: “قتلوا زوجي وابني الصغير الذي أحبه أكثر من كل شيء”، كمفتاح للحديث عن اعتصاماتهن الدورية، ومطالباتهن المتكررة بالكشف عن مصير المفقودين الذين ما تزال عمليات البحث عن مقابرهم الجماعية قائمة حتى اليوم، مؤكدة أن حركتهن “لن تتوقف طالما هناك بنات وأخوات وأمهات على قيد الحياة”.
تختصر كلماتها رحلة طويلة من مقاومة التهميش، والمطالبة بالعدالة. رحلة لم تبدأ بالمطالبة بالقصاص وحسب، بل من رفض الخضوع للنسيان، ومن إصرار على تحويل الفقد إلى فعل عام ضاغط يغير السياسات ويطالب في سياق مقعد الاعتراف والمساءلة. وهو ما يفتح الباب أمام سؤال يتجاوز البوسنة: ما العدالة التي تريدها الأمهات السوريات اليوم؟
سؤال يطرح من زاوية ناقدة لجوهر العدالة الممكنة بعد المأساة، وبالأخص فيما يتعلق بالفئات الضحايا الأكثر ضعفا وتهميشا من ضحايا هذا الصراع وذويهم وعلى رأسهم النساء، حاملات الذاكرة الجماعية للانتهاكات، واللواتي يعكسن مدى عمق الخلل الاجتماعي الذي سببها. ومنه تصبح العدالة التي ترضي النساء من ذوي الضحايا، كناية عن العدالة التي ترضي المجتمع بأسره، هي العدالة التي يُعترف فيها بالمعاناة، ويكشف فيها عن الحقيقة ويضمن فيها ألا تتكرر الانتهاكات. في إجابة عنه أخبرتني أم محمد، وهي أم اعتقل ابنها الأصغر وهو في الرابعة عشر من عمره، أن شخصاً ممن دفعت لهم لمعرفة مصيره أبلغها بعد ثمان سنوات من اعتقاله أنه مات بـ “أزمة ربو”، لتضيف “لا أريد سوى أن أعرف أين دفن، وكيف كان شكله حين أصبح شاباً، هل يشبه صورته حين جاء في الحلم ليسألني لماذا لا أزوره؟”.
يأخذ هذا المطلب البسيط – وصعب التحقق – بعداً رمزياً عميقاً، يذكر بما نادت به أمهات البوسنة، في الحصول على الحقوق الأساسية للحداد “قبر وإمكانية زيارة”. بينما تخبر ديالا عن إسماعيل الشاب الذي تعيش عائلته اليوم في اللايقين، بين الأمل والحداد، ترفض قبول موته وتشك في إمكانية حياته، وتطالب بـ “عظامه”، ومحاسبة كل من تورط بقتله.
بينهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس السوداني المخلوع عمر البشير.. إليك أبرز القادة الذين أصدرت #المحكمة_الجنائية_الدولية مذكرة اعتقال بحقهم pic.twitter.com/pnFyogv0V6
— نون بوست (@NoonPost) November 22, 2024
بينما تتشابه أنماط الفقد، يتضخم حجم المأساة السورية يجعل الصورة أكثر تعقيداً واتساعاً، ففي حين قدرت أعداد الضحايا في البوسنة بحوالي الثلاثين ألف شخص، تشير التقديرات السورية إلى أرقام أولية تفوق الثلاثمئة ألف مفقود، ووفقاً لتصريحات الهيئة الوطنية للمفقودين، الذي أشار أنه حتى آب / أغسطس يوجد أكثر من 63 مقبرة جماعية في سوريا.
يتقاطع هذا الفقد مع مستويات أخرى من المعاناة المستمرة التي يعيشها ذوو الضحايا؛ مئات الآلاف من قتلى الحرب معروفو المصير، وملايين آخرون يواجهون النزوح القسري والعيش في المخيمات أو بلدان اللجوء، إلى جانب ما تعرضوا له من ابتزاز مادي ومعنوي مارسته مؤسسات الدولة وأجهزتها الأمنية خلال سنوات الصراع.
تقول ريم، وهي زوجة مفقود في سجن صيدنايا وتنحدر من عائلة فقدت “الكثير من الشهداء”، إن العدالة بالنسبة إليها هي “رفع الظلم ومحاسبة الذين ظلموا”. وتضيف أم لشهيد ومفقود آخر في السجون أن العدالة بالنسبة لها لا تقتصر على محاسبة الجناة، بل تشمل أيضًا “حياة كريمة للأيتام من أحفادها ولها”، مع شفافية من السلطة الحالية أو أي سلطة تليها كي “لا يتكرر ما حدث”.
ومن خلال هذين التعريفين الشعبيين للعدالة، تبرز السمتان الأساسيتان في فهمهما: رفع الظلم وضمان عدم التكرار. وهذان المفهومان لا يمكن اختزالهما في مجرد رحيل بشار الأسد، بل يتسعان ليشملا رفع الظلم البنيوي المتجذر في بنية الدولة نفسها، أي في مؤسساتها وهياكلها الإدارية التي سمحت بظهور العنف وشكلت بيئة خصبة لولادة الجلاد. ومن هنا تتحول العدالة من حدث قانوني مجرد إلى مسارٍ اجتماعي طويل لبناء الكرامة، ولمنع إعادة إنتاج الظروف التي أفرزت العنف في المقام الأول.
الخاتمة، لأجل سوريا التي تنصف الضحية من أين نبدأ؟
في إطار ضيق جداً، وبناء على أحاديث صغيرة وشعبية مع أمهات ونسوة يكافحن ضد النسيان، وفي ظل مجتمع منهك بالحرب والانقسام ويحاول بصعوبة النهوض من جديد، يبدو الحديث عن العدالة التي تنصف الضحايا بعيدة المنال – على الأقل في المستقبل القريب.
العدالة لا تبدأ من القوانين أو المحاكم الدولية فحسب، ولا من إرادة السلطة القائمة أو تلك التي تخلفها، بل من الإصغاء إلى الأصوات الصغيرة التي تتجمع معا وترفض الصمت. من بين هذه الأصوات تتقدّم أمهات يطالبن بمعرفة مصير أبنائهن، ونساء يصررن على حفظ الذاكرة في وجه محاولات محوها. هؤلاء يمثّلن القوة الضاغطة القادرة على تحريك السياسات وتغيير وجه العدالة نفسها.
لإنصاف الضحايا لا بد من البدء بالسردية التي تعترف بما حدث وتعكس ذاكرة الألم الجماعية، يليها الحق في الحقيقة، فلا مستقبل دون معرفة مصير المفقودين، وتحديد المسؤولية الجنائية عن القتل والإخفاء القسري، ثم تأتي العدالة التوزيعية التي تضمن للناجين والمفقودين ولعائلاتهم الحق في العيش الكريم، والعدالة البنيوية التي تفكك المنظومة الأمنية والإدارية التي كرست القيام بالانتهاك والافلات من العقاب، وتعيد بنائها.
إن سوريا العادلة والمنصفة لن تُبنى في قاعات المؤتمرات والاجتماعات الدولية، بل في البيوت التي فقدت أبناءها، وفي المخيمات التي ما زالت تنتظر أسماء المفقودين لتُكتب على شواهد قبورهم. ولعل الخطوة الأولى نحو تلك العدالة تبدأ بالإصغاء إلى الأمهات، إلى وجعهن، وأسئلتهن، وإصرارهن على الوصول إلى العدالة التي تنصفهن وتنصف المجتمع ككل.
