في حدث استثنائي أعاد رسم معالم السياسة في واحدة من أكثر مدن العالم تنوعًا، فاز السياسي الأميركي من أصول أوغندية هندية زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك، 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، ليصبح أول مسلم يتولى هذا المنصب في تاريخ المدينة، وأحد أبرز الوجوه الصاعدة في اليسار التقدمي الأميركي.
هذا الفوز، الذي تجاوز دلالاته الانتخابية المباشرة، يحمل رمزية عميقة في المشهد الأميركي العام؛ فهو انتصار لهوية متعددة الجذور في مدينة لطالما كانت مرآةً لتجارب الهجرة، وأيضًا ساحةً مفتوحة لتوترات العرق والدين والسلطة.
وُلد ممداني في أوغندا لأبوين من أصول هندية، وهاجر مع أسرته إلى الولايات المتحدة في طفولته، ليجسّد في مسيرته السياسية المعنى الحقيقي لتقاطُع الهويات. مسلمٌ أسمر من أصول جنوب آسيوية، يعتنق أفكارًا اشتراكية، ويخوض معركة انتخابية في مدينة شكّلت مركز صناعة الرأي الأميركي بعد هجمات 11 سبتمبر.
وفوزه لا يُقرأ بمعزل عن هذا السياق؛ فهو دليل على تحوّل عميق في المزاج العام داخل الولايات المتحدة، وعن جيل جديد من الناخبين يرفض الخطابات التقليدية، ويكافئ الصراحة السياسية على حساب المساومات.
الجذور جسرًا إلى القمة
يتجاوز فوز زهران ممداني كونه أول مسلم يتولى منصب عمدة نيويورك، إلى كونه انتصارًا لهوية مركّبة كسرت القوالب النمطية التي صاغت الوعي الأميركي لعقود، فالرجل، المولود في أوغندا لأبوين من أصول هندية، والمهاجر صغيرًا إلى حي كوينز الشعبي، يمثّل تلاقي ثلاث دوائر طال تهميشها في المجال العام الأميركي: الإسلام، والسواد، والهجرة.
بهذا المعنى، لا يرمز انتخابه إلى انفتاح المدينة على ديانة بعينها فقط بقدر ما يعكس توسّعًا في مفهوم من يحق له أن يقود هذه المدينة العالمية والتي تمثل في ذات الوقت الوجه الإعلامي للولايات المتحدة الأمريكية.
وهو إنجاز مضاعف من حيث التوقيت والمضمون؛ ففي لحظة تعود فيها الولايات المتحدة إلى نزعات أكثر تحفظًا وانغلاقًا تحت تأثير الخطاب الترامبي الجديد، يأتي فوز ممداني كفعل مقاومة رمزي يعيد تعريف معنى الانتماء الأميركي، إذ يتحدّى هذا الانتصار البنية الصلبة للهوية كما تصوغها التوجهات الرسمية والاستطلاعات الديموغرافية.
ويفرض على الإعلام والسياسة معًا إعادة النظر في سؤال ظلّ مؤجلًا: من يُعتبر “أميركيًا كاملًا” ومن يُستثنى من هذا التعريف؟ فحين أعادت بعض الصحف نشر الجدل القديم حول خانة العِرق التي دوّنها في استمارته الجامعية، كان ردّه المباشر أبلغ من أي بيانٍ مكتوب؛ لقد أجاب “عبر صناديق الاقتراع لا عبر الخانات الإدارية”.
لكن سرّ قوّته لم يكن في رمزية أصوله فقط، بل في قدرته على تحويل تعدّدها إلى تحالفٍ سياسي، فقد بنى حملته على خطاب يُشبه المدينة التي ترعرع فيها: متعدّد اللغات، متداخل الثقافات، يجمع بين الأفارقة، والجنوب آسيويين، والعرب، والمسلمين، واللاتينيين، والشباب تحت مظلة حركة تقدّمية واحدة. تحالفٌ مدنيّ جديد يقوم على فكرة العدالة الاجتماعية ومواجهة السلطة الاقتصادية، ما جعله أقرب إلى حركة شعبية عابرة للهويات، دون أن يتنكر لأيٍّ منها.
خطاب صريح بلا مواربة
يُعدّ فوز زهران ممداني أيضًا تتويجًا لأسلوبٍ سياسي نادر في المشهد الأميركي، أسلوبٍ يستمد قوته من جذورٍ صلبة وهويةٍ واضحة، أكثر مما يستمدها من التحالفات أو التمويل. فالرجل الذي ينتمي إلى خلفيةٍ مهاجرة أفرو–آسيوية، ويتحدث بلسان الطبقات الشعبية في كوينز، خاض حملته بخطابٍ صريحٍ لا يعرف المواربة؛ لا في السياسة الداخلية ولا في الخارجية. وقد شكّلت هذه الصراحة محور جاذبيته السياسية، إذ رآه مؤيدوه تجسيدًا لمرشحٍ لا يخفي مواقفه ولا يُخضعها لحسابات اللوبيات أو المانحين.
انعكست هذه الهوية الجريئة بوضوح في مواقفه من القضايا الحساسة التي لطالما تعاملت معها السياسة النيويوركية بقدرٍ كبير من التوجس. ففي قلب مدينة تُعدّ من أبرز معاقل اللوبيات المؤيدة لـ”إسرائيل”، استخدم ممداني عباراتٍ غير مسبوقة في الخطاب الانتخابي الأميركي، واصفًا ما يجري في غزة بـ”الإبادة الجماعية”، وما يحدث في الضفة الغربية بـ”نظام فصلٍ عنصري”، ورافضًا ما سمّاه “اختبارات الولاء السياسي” التي تُلزم المرشحين بإعلان دعمهم غير المشروط لتل أبيب، مكتفيًا بموقف مبدئي واحد: المساواة في الحقوق بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
View this post on Instagram
في الماضي، كان مثل هذا الموقف كفيلًا بإقصاء أي مرشح في نيويورك، لكن النتيجة أثبتت أن المزاج الشعبي تغيّر جذريًا. فقد وصفت صحيفة وكالة التلغراف اليهودية فوزه بأنه “قطيعة مع الإجماع التاريخي حول السياسة الخارجية في نيويورك”، فيما أظهرت استطلاعات موقع “نيويورك بوست” أن غالبية الديمقراطيين تحت سن الأربعين باتوا يؤيدون مساءلة السياسة الإسرائيلية ويرفضون ازدواجية المعايير الأميركية.
وحين تصاعدت الانتقادات ضده بسبب مواقفه من غزة، واتهمته منظمات يهودية كبرى بـ”معاداة السامية”، وشنّت عليه القنوات الوطنية حملات مركّزة، لم يتراجع أو يخفف لهجته. بل واجهها بشعارٍ أصبح من أكثر مقاطع حملته تداولًا: “الحقيقة لا تحتاج إلى إذن”. كان هذا الموقف، بقدر ما هو تحدٍّ، بمثابة تجسيدٍ لصورة السياسي الجديد في أميركا، سياسيٍّ لا يعتذر عن مبادئه ولا يتنازل عنها من أجل التوازنات الإعلامية أو التحالفات المالية.
لكن جرأته لم تقف عند السياسة الخارجية؛ بل امتدت إلى الداخل، حيث خاض ممداني مواجهة مفتوحة مع السلطة المالية في المدينة، ودعا إلى تجميد الإيجارات، وفرض ضرائب تصاعدية على الأثرياء، وتمويل النقل العام المجاني، معتبرًا أن “العدالة الاجتماعية ليست ترفًا بل أمنٌ وطني”. هذه اللغة، التي تمزج بين المثالية الأخلاقية والبراغماتية المدنية، جعلته أول عمدة – بحسب صحيفة الغارديان “يمتلك شرعية مواجهة وول ستريت من داخل شرعية صناديق الاقتراع نفسها”.
تحوّل القاعدة السياسية
على الرغم من غياب جداول تحليلية رسمية نهائية، تكشف استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات أن الفوز لم يُبنَ على استقطاب جماعةٍ بعينها، بل على إعادة تركيب الخريطة الانتخابية حول ثلاث دوائر متقاطعة: الشباب، والمهاجرون، والطبقات العاملة.
فاستطلاع جامعة “كوينيبياك” الشهير (23–27 أكتوبر/تشرين الأول) أظهر تقدّم ممداني على مستوى المدينة، لكنه سجّل ميلًا واضحًا لدى الناخبين اليهود نحو منافسه أندرو كومو. أمّا استطلاع “ماريست” قبل أسبوع من الانتخابات، فأشار إلى انقسامٍ داخل التصويت اليهودي، دون هيمنةٍ لممداني على تلك الكتلة. بل إن معظم التحليلات من صحيفة الغارديان إلى وكالة “أسوشييتد برس” وصفت المشهد بأن الناخبين اليهود لم يصوّتوا كجماعةٍ واحدة، بل كأجيالٍ مختلفة برؤى متباينة.
هذه الانقسامات، بعيدًا عن تفصيلها الديموغرافي، تشير إلى تحوّل رمزي في جوهر الحياة السياسية للمدينة. فعلى مدى عقود، مثّل الصوت اليهودي، خاصة بين الكهول والطبقة المتوسطة البيضاء، أحد أعمدة “التوافق الآمن” في انتخابات نيويورك، ألا وهو دعم المرشحين الموالين لـ”إسرائيل”، ومؤازرة النخب المالية، وتجنّب الخطابات الجذرية.
View this post on Instagram
أمّا اليوم، فمجرّد فوز ممداني، رغم انتقاداته الصريحة للسياسات الإسرائيلية، يعني أن هذا “التوافق التاريخي” لم يعد حاكمًا، وأن الناخبين اليهود باتوا جزءًا من لوحةٍ أكثر تنوعًا.
وإذا كان الانقسام اليهودي قد مثّل عنوان التحوّل في مركز المدينة، فإن التحالف الأوسع حول ممداني اتسع على أطرافها. فقد حصد دعمًا واسعًا من الناخبين السود والمهاجرين، وهي كتل انتخابية تُعرف بعمقها الاجتماعي وواقعيتها السياسية. وعلى الرغم من أن البيانات الدقيقة ما زالت محدودة، فإن مجمل التحليلات تشير إلى أداءٍ قوي لممداني في الأحياء ذات الأغلبية الأفريقية واللاتينية، لا سيما بين العمال والمستأجرين وسكان المناطق ذات الخدمات المتدنية.
نيويورك تختار
في مطلع الألفية، وبعد أن أصبحت نيويورك عنوانًا عالميًا للريبة تجاه المسلمين، عاش مسلمو المدينة مرحلةً يمكن وصفها بـ”عصر المراقبة”، حين أنشأت شرطة نيويورك وحدةً خاصة تُعرف بـ”الوحدة الديموغرافية” لرسم خرائط المساجد والمقاهي والمراكز الإسلامية، في محاولةٍ معلنة لـ”منع التطرف”. غير أنّ تحقيقات “أسوشييتد برس” اللاحقة كشفت أن هذه الوحدة لم تُنتج أي معلومة استخباراتية مرتبطة بالإرهاب، لكنها تركت أثرًا عميقًا في النسيج الاجتماعي للمدينة، إذ بثّت الخوف في حياة مئات الآلاف من المسلمين العاديين، من طلاب الجامعات إلى أصحاب المتاجر.
من هنا، يأتي انتخاب ممداني اليوم كرسالة مدنية معاكسة تقول إن المسلمين في نيويورك لم يعودوا موضع مراقبة، بل شركاء في صنع القرار وإدارة المدينة. ويمكن النظر إلى فوزه كامتدادٍ لمسارٍ طويل بدأ قبل نحو عقد، حين أدرجت المدينة رسميًا عيدي الفطر والأضحى في تقويم مدارسها العامة عام 2015، في خطوةٍ رمزية نحو الاعتراف بالمكوّن الإسلامي في الحياة اليومية.
ومن ذات المنطلق، يُعبر انتخابه عن نضجٍ مدني متأخر، لمدينةٍ خرجت من زمن الريبة لتجد في تنوعها مصدر استقرارٍ لا تهديد. فالمسلم في نيويورك لم يعد “آخرًا” في معادلة الأمن، بل “ذاتًا” في معادلة المواطنة. وهي لحظة تحوّل يصعب عدم المبالغة في معناها الرمزي داخل الذاكرة الأميركية التي ربطت بين الدين والإرهاب لوقتٍ طويل.
View this post on Instagram
وبذلك، تتجاوز رمزية هذا الفوز حدود الأحياء النيويوركية الخمسة لتبلغ الأمة الأميركية كلها. فالعالم اعتاد أن يرى “عمدة نيويورك” بوصفه رمزًا سياسيًا للقيادة المحلية الأميركية، وغالبًا ما يكون هذا المنصب بوابةً لأدوار وطنية لاحقة. واليوم، بتولّي ممداني المسلم، المهاجر، الأفرو–آسيوي هذا المنصب، تتغيّر الصورة النمطية لـ”النيويوركي النموذجي” التي ارتبطت دائمًا بالرجل الأبيض من الطبقة المتوسطة، لتتسع وتشمل ابن المهاجرين متعدّد اللغات والهوية، الذي يحمل جذوره لا كعبءٍ بل كقيمةٍ مضافة.
بهذا المعنى، يرمز فوز ممداني ـ من بين رمزيات عدّة ـ إلى لحظة ارتدادٍ صاخبة على خطاب الخوف الذي حكم السياسة الأميركية منذ عقدين، وإلى تهاوي الحملات التي سعت إلى شيطنته وربطه بـ”معاداة السامية”، والتي انتهت إلى نتيجةٍ عكسية باختيار نيويورك، مهد الإسلاموفوبيا، لمسلمٍ لم يساوم على مواقفه. وفي لحظةٍ يمكن وصفها نهايةّ، ببداية مرحلة جديدة في السياسة الأميركية المحلية، يُقاس فيها المرشّح بمصداقيته وقدرته على تمثيل مجتمعه، لا بمدى ولائه للسلطة الأوليغارشية أو الصهيونية.