مع تدهور الوضع الإنساني في الفاشر وتزايد المؤشرات على احتمالات انفجار أوسع في كردفان، تبدو البلاد مقبلة على واحدة من أكثر المآسي الإنسانية قسوة في تاريخ السودان الحديث، هذا التدهور دفع اللجنة الرباعية (الولايات المتحدة – السعودية – مصر – الإمارات) إلى رفع وتيرة تحركاتها الدبلوماسية بحثًا عن هدنة إنسانية مؤقتة تُخفف من حجم الكارثة وتمنح المدنيين هامش نجاة ولو محدود.
مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة للسودان، رمضان لعمامرة، ينظر لهذه الهدنة المقترحة بوصفها “فرصة نادرة” لإيقاف العنف مؤقتًا، وتحصين المدنيين، وكسر دائرة الألم المتصاعدة، مؤكدًا أنّ مثل هذه القرارات، رغم صعوبتها في زمن الحرب وتعقيدات الحسابات العسكرية والسياسية، تبقى ضرورية في لحظة مفصلية كهذه لإنقاذ الأرواح وبناء حد أدنى من الثقة بين الأطراف المتحاربة.
ويحذر لعمامرة من أن استمرار دوامة العنف كفيل بتوسيع نطاق الفظائع وتسريع الانهيار الأخطر، بينما يمكن لوقف النار – حتى لو كان مؤقتًا – أن يفتح بوابة أولية نحو مسار سياسي جاد ينتهي بسلام عادل ومستدام، مشيرًا إلى استعداد الأمم المتحدة للعمل مع الشركاء الدوليين والإقليميين لتحويل الهدنة من مجرد آلية لوقف النزيف الإنساني إلى نقطة تحول تُعيد توجيه البوصلة نحو السلام.
ما يجري في كادوقلي ليس مجرد نزاع مسلح، بل هندسة متعمدة لمعاناة جماعية، من الحصار إلى حرق الأسواق وقصف المدارس والمستشفيات، في سيناريو يعيد تجربة #الفاشر دون أدنى محاذير إنسانية
كادوقلي على خطى الفاشر: التجويع لإخضاع المدن وتهجير السكان❗https://t.co/kjnKUsFdy2
مقال لـ:… pic.twitter.com/WIvNC9qC4X— نون بوست (@NoonPost) November 8, 2025
لكن هذا المقترح الأممي الرباعي ليس الأول؛ التجارب السابقة منذ اندلاع حرب الجنرالات أثبتت أن كل هدنة تم طرحها تحطمت أمام إرادة التصعيد لدى الطرفين، ومع كل مرة يصبح حملات الوساطة أمام اختبار أصعب، ومن هنا تُطل علامات استفهام عدة برأسها باحثة عن إجابة: هل يمكن لهذه الهدنة أن تكون مختلفة بالفعل؟ هل تستطيع كبح شهية الحرب، أم ستكون مجرد استراحة قصيرة لإعادة التموضع وترتيب المعسكرات قبل جولة جديدة أكثر شراسة؟
يذكر أن الإجابة على مثل تلك التساؤلات لا تتوقف فقط على نوايا الأطراف، بل على قدرة الوسطاء على تحويل هذا التوقف التكتيكي المقترح إلى نقطة انعطاف استراتيجية تُغيّر معادلة الحرب نفسها، بدل أن تكون مجرد تمديد لزمنها وتأجيل لانفجار أكبر لاحقًا.
من الخطة الكاملة إلى الهدنة المؤقتة
في سبتمبر/أيلول الماضي، قدمت اللجنة الرباعية أول إفراز فعلي لتحركاتها الدبلوماسية عبر طرح خريطة طريق جديدة لمعالجة الأزمة السودانية. هذه الخريطة بدأت بفكرة هدنة إنسانية تمتد لثلاثة أشهر، يعقبها مسار انتقالي شامل يُفترض أن يكتمل في غضون تسعة أشهر، هذا الترتيب الزمني يكشف محاولة واضحة من الرباعية للجمع بين معالجة الانهيار الإنساني الآني، ووضع أساس سياسي وأمني أكثر تماسكًا يمكن البناء عليه لإنهاء الحرب بصورة مستدامة، لا ظرفية.
ما أكدته اللجنة ضمن هذا الطرح هو مركزية دور السودانيين أنفسهم في تحديد مستقبل الحكم، ومحورية الانتقال الشفاف والمفتوح دون وصاية أو تحكم من طرفي الحرب، هذا المنطلق يعكس إدراكًا بأن الشرعية الداخلية والسيادة الوطنية ليست مجرد عناوين معيارية، بل متطلبات أمنية وسياسية أساسية لضمان ألا تتحول أي تسوية إلى اتفاق هش أو مفروض؛ وهي تجربة عاشت السودان تبعاتها في جولات سابقة.
كما وضعت الخطة وحدة السودان وسلامة أراضيه كشرطَين غير قابلين للمساومة، في ظل واقع أن تشظي الميليشيات وتكاثر القوى المقاتلة يجعل أي حل عسكري مدخلًا لانفجار أكبر بدلًا من الحسم، كما أن استمرار الحرب بهذا الشكل لا يشكل فقط مأساة إنسانية داخلية، بل بات تهديدًا صريحًا للاستقرار الإقليمي والدولي.
إنسانيًا، شددت الرباعية على ضرورة فتح ممرات المساعدات بشكل كامل وسريع وآمن، مع عدم استهداف المدنيين أو البنية التحتية، والالتزام الفعلي بتعهدات جدة 2023، فهذه الجزئية ليست مجرد متطلب إغاثي، بل جزء مدمج من نجاح أي عملية انتقال، لأن انهيار الجبهة الإنسانية والأمنية يعني انهيار أي عملية سياسية قبل أن تبدأ.
لكن ما حدث لاحقًا كان العكس تقريبًا، تعثر التطبيق، تصاعدت التعقيدات، وتباينت أولوية ومقاربات أطراف الرباعية ذاتها. ومع الزمن، تآكلت الثقة في قابلية هذه الخريطة للتنفيذ حتى وصلت لمستوى الصفر، واليوم أصبح الحديث لا يدور حول تسوية كبرى أو مسار انتقالي شامل، بل فقط عن هدنة إنسانية محدودة، كمحاولة أخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أرواح المدنيين وسط هذا التصعيد الدموي المتسارع.
موافقة الدعم.. مناورة سياسية لا رغبة في التهدئة
في تطور لافت على مستوى الخطاب والمواقف، أعلنت ميليشيا “الدعم السريع” قبولها بالهدنة المقترحة من الآلية الرباعية، وذلك بعد فترة لم يمض عليها طويلًا كانت قد رفضت فيها مقترح هدنة مماثل طرحه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، في وقت كان الجيش قد أعلن موافقته عليه. هذا التحول المفاجئ يحمل أبعادًا سياسية لا يمكن قراءتها في إطار إنساني بحت، بل في سياق إعادة تموضع وتكتيك تفاوضي مرتبط بموازين القوى الميدانية.
في بيانها الصادر الخميس 6 نوفمبر/تشرين الثاني، قدمت “الدعم السريع” سردية تعبّر فيها أن قبولها بالهدنة يأتي استجابة لتطلعات السودانيين ومعالجة الكارثة الإنسانية، ولتمكين دخول المساعدات العاجلة. وفي السياق ذاته، مضى مستشار قائد “الدعم السريع” الباشا طبيق في بناء خطاب يربط قبول الهدنة بما يسميه “موقفًا عسكريًا وسياسيًا ثابتًا”، مستخدمًا القبول كأداة خطابية لتوجيه الاتهام للجيش باعتباره الطرف الذي أشعل الحرب ويعرقل جهود الوساطة الإقليمية والدولية.
غير أنّ الوقائع الميدانية ما لبثت أن كشفت هشاشة هذا الخطاب. فبعد ساعات من إعلان الموافقة، شنّت قوات “الدعم السريع” هجمات مكثفة بالمدفعية والطائرات المسيّرة على عدد من المدن الواقعة تحت سيطرة الجيش، ما أسفر عن سقوط قتلى وجرحى مدنيين في عطبرة والدلنج والدمازين والأبيض، مع توسع الهجمات حتى صباح السبت 8 نوفمبر/تشرين الثاني. هذا التزامن بين إعلان القبول السياسي واستمرار العمليات العسكرية، يضع علامات استفهام حقيقية حول صدقية الهدنة ويدعم القراءة التي ترى فيها محاولة لكسب مكاسب سياسية دون وقف فعلي للقتال.
عناصر من قوات الدعم السريع يتفاخرون بالجرائم التي ارتكبوها بحق المئات من المدنيين في الفاشر. pic.twitter.com/8pE5vf8Xf1
— نون بوست (@NoonPost) November 7, 2025
من منظور العديد من المحللين، فإن قبول “الدعم السريع” بالهدنة اليوم يعود أولًا لتغيرات موازين القوى بعد السيطرة على الفاشر، المعقل الاستراتيجي الأخير للجيش في دارفور، هذه السيطرة تُعد نقطة تحول تمنح المليشيا موقعًا تفاوضيًا أقوى، وتتيح لها فرض واقع جديد يجعل إقليم دارفور أقرب لفضاء نفوذ منفصل ومهيمن عليه بالكامل من قوات حميدتي.
هذه الخطوة لا تنفصل عن مشروع أكبر ظل يتغذى منذ بداية الحرب؛ مشروع يسعى إلى خلق كيان أمر واقع يمنح “الدعم السريع” ثقلاً سياسيًا داخليًا وإقليميًا لا يمكن تجاوزه في مرحلة ما بعد الحرب، وبالتالي فإن التحول في خطاب الهدنة يبدو أقرب إلى مناورة سياسية تكريسية للنفوذ، أكثر من كونه انعطافة حقيقية نحو وقف القتال.
الضغوط تتزايد على الجيش
موافقة “الدعم السريع” على الهدنة المقترحة من اللجنة الرباعية وضعت الجيش السوداني في موقع أكثر تعقيدًا وضغطًا، داخليًا وخارجيًا، إذ أصبح الجيش مطالبًا بتقديم موقف واضح، بينما اتجهت الحكومة إلى إخضاع المقترح لمزيد من الدراسة، وتكليف لجنة رسمية لصياغة رؤيتها بشأن آليات إيصال المساعدات وتحريك المسار الإنساني بما لا يمس حسابات السيادة ومسار الحرب.
الجيش، بقيادة عبد الفتاح البرهان، يتعامل مع هذه الضغوط بمنطق رفض الإذعان والاعتراف بواقع جديد فرضته الميليشيا عبر التقدم العسكري، فقبول التسوية وفق المعادلات الحالية يعني – سياسيًا – منح “الدعم السريع” شرعية موازية والجلوس معه كشريك أمر واقع، وهو ما يعتبره الجيش انكسارًا خطيرًا وتراجعًا عن هدفه المعلن منذ البداية: إنهاء وجود الميليشيا العسكرية وليس التعايش معها.
وبعد سيطرة ميليشيا حميدتي على الفاشر، تعززت لدى الجيش قناعة بأن الهدنة بصيغتها الحالية لا تعني تهدئة مؤقتة بل تكريسًا للتقدم الميداني للميليشيا، وتحويله إلى مكسب سياسي، لذا يصر الجيش على عدم منح “الدعم السريع” ما عجز عن فرضه عبر القتال، وعدم السماح له بتحويل معادلة الميدان إلى بوابة شرعية دبلوماسية.
في المقابل، تشير التقارير إلى أن اللجنة الرباعية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تصعّد من ضغوطها لإجبار الحكومة على القبول بالهدنة، وهو ما أكدت عليه الخارجية الأميركية بقولها إنها تتواصل مباشرة مع الطرفين لتأمين وقف إنساني فوري للقتال، باعتباره ضرورة عاجلة للحد من الانفلات الأمني والكلفة الإنسانية المتصاعدة.
بهذا المعنى، يتحول ملف الهدنة إلى اختبار سياسي محوري، ما بين قراءة دولية ترى فيها فرصة لوقف النزيف الإنساني بأي ثمن، وقراءة داخلية للجيش ترى أنها مناورة لفرض معادلة جديدة في لحظة اختلال موازين القوة لصالح ميليشيا حميدتي المدعومة من أطراف إقليمية وفق مقاربة الجيش.
هل تنجح الرباعية في فرض الهدنة؟
تتحرك اللجنة الرباعية اليوم نحو تكثيف جهودها الدبلوماسية تحت ضغط عاملين أساسيين: الانهيار الإنساني الحاد في الفاشر وما حولها والذي أصبح يصعب تبرير الاستمرار في تجاهله، إضافة إلى تصاعد الانتقادات الدولية والإقليمية للرباعية نفسها باعتبارها تتحمل جزءًا من مسؤولية غياب الحل، هذا جعل الرباعية في مأزق أخلاقي وسياسي يفرض عليها التحرك وإظهار جدية في دفع مسار التهدئة، لكن هذا الدافع الإنساني والدولي وحده لا يكفي لضمان فرض هدنة مستقرة، ما دام المشهد محكومًا بتعقيدات تتجاوز البعد الإنساني إلى حسابات النفوذ الاستراتيجي لكل طرف داخل اللجنة.
فعلى الرغم من أن الرباعية تضم الولايات المتحدة والسعودية والإمارات ومصر تحت إطار هدف واحد معلن هو وقف الحرب في السودان، إلا أن مقاربات كل دولة وطبيعة مصالحها تختلف جذريًا، الولايات المتحدة تتحرك من زاوية استعادة التواجد في أفريقيا ومنع السودان من التحول إلى ساحة نفوذ روسي في البحر الأحمر، مع محاولة إعادة ضبط التوازنات الأمنية الإقليمية بما يخدم مصالحها.
السعودية تركّز على استقرار محيط البحر الأحمر، وتحاول الحفاظ على دورها كوسيط رئيسي قادر على إدارة التهدئة وتثبيت نتائجها، مع رغبة عملية في إنهاء النزاع بسرعة قبل أن ينعكس على استثماراتها ورؤيتها الاقتصادية، أما مصر تنظر للسودان باعتباره جزءًا من أمنها القومي المباشر، وتعتبر الحفاظ على الدولة السودانية المركزية واستمرارية الجيش شرطًا وجوديًا، خصوصًا في ظل الهشاشة الأمنية الإقليمية وتداخل ملفات المياه والحدود.
من الجانب الإماراتي، تسعى أبو ظبي لتعزيز نفوذها الاستراتيجي عبر الاستثمار السياسي والعسكري في قوات الدعم السريع، ما يمنحها أدوات ضغط داخل السودان وموقعًا أفضل في التحكم بممرات البحر الأحمر وميناء بورتسودان مستقبلاً.
– أكد تقرير حديث صادر عن مختبر الأبحاث الإنسانية بجامعة ييل، بتحليل صور الأقمار الصناعية، أن قوات الدعم السريع أغلقت بآليات ثقيلة الطريق الحيوي الوحيد الذي كان يستخدمه المدنيون للهروب من الفاشر باتجاه قرني، مما يحكم الحصار على ما يقدر بـ 200,000 مدني محاصر.
– رصدت صور الأقمار… pic.twitter.com/ZquNA2Kpe2
— نون بوست (@NoonPost) November 8, 2025
هذا التعارض البنيوي في مصالح الرباعية، رغم الغطاء السياسي الموحد، يجعل القدرة على فرض هدنة حقيقة على الأرض محل شك كبير، إذ يحدّ من انسجام الضغط الدولي ويوفر للطرفين في السودان، وخاصة “الدعم السريع”، إمكانية اللعب بين التناقضات.
كما يدفع الجيش إلى التشكيك في حيادية بعض الأطراف داخل الرباعية، وعلى رأسها الإمارات، التي تُتهم من قبل الخرطوم بدعم مباشر وقائم لديناميكيات الحرب نفسها. وهذا ما يجعل الحديث عن فرض هدنة إنسانية مستقرة في ظل هذا السياق أكثر قربًا من الرغبة الدبلوماسية منه إلى قدرة تنفيذية واقعية على الأرض.
إلى جانب التعقيدات المرتبطة بمواقف الرباعية ومصالحها المتباينة، هناك مسارات داخلية سودانية تُعرقل بشكل جوهري إمكانية تثبيت أي هدنة، سواء كانت محدودة أو ممتدة. في مقدمة هذه المسارات يأتي عامل انعدام الثقة العميق بين الأطراف. فالهوة بين الجيش والدعم السريع لم تعد خلافًا سياسيًا أو تفاوضيًا، بل تحولت إلى قطيعة كاملة مبنية على دماء ومجازر ميدانية وصراع وجودي. هذا الانهيار في الثقة لا ينحصر بين طرفي القتال فقط، بل يمتد ليشمل علاقة الجيش بالوسيط الإماراتي، الذي ينظر إليه الجيش باعتباره طرفًا منحازًا وصاحب مصلحة مباشرة في دعم الميليشيا. هذه المعادلة تجعل أي اتفاق عرضة للتفكك منذ لحظة توقيعه، لأنها تفتقد لبنية ضمانات حقيقية يمكن الركون إليها.
إلى جانب ذلك، يتمسك الجيش والحكومة بموقف يرفض خريطة الطريق المقترحة من الرباعية، ويرى فيها تدخلًا مباشرًا يمس السيادة ويضع المؤسسة العسكرية في مستوى واحد مع ميليشيا مسلحة، وهو ما يعتبره الجيش إهانة سياسية وتقويضًا لدور الدولة نفسها، هذا الموقف لا يضعف فقط قدرة الرباعية على فرض خطوط تنفيذ، بل يفرغ أدوات الضغط الدبلوماسي من محتواها.
ثم هناك عنصر آخر لا يقل أهمية، تغييب القوى المدنية عن مسار صنع القرار، فالرباعية تركّز على طرفي السلاح، متجاهلة أن الثورة السودانية كانت فعلًا مدنيًا بالأساس، وأن أي حل لا يمنح القوى المدنية موقعًا مركزيًا في معادلة التسوية سيكون حلًا بلا شرعية داخلية وغير قابل للصمود. هذا النهج يعيد إنتاج نفس الفخ الذي أدى إلى سقوط كل الصيغ السابقة: هندسة الحلول من الخارج أو من غرف ضيقة، دون إشراك القوى الاجتماعية والسياسية التي صنعت لحظة ما قبل الحرب.
هذه العناصر الثلاثة مجتمعة تجعل فرض هدنة مستدامة ليس مجرد تحدٍ تنفيذي، بل إشكال بنيوي يتطلب إعادة ترتيب طريقة التفكير في أسس العملية السياسية نفسها قبل الحديث عن تثبيت وقف إطلاق النار.
بين الاستراحة التكتيكية والتهدئة المستدامة
يبقى مسار فرض هدنة في السودان مرهونًا بعدة عوامل حاسمة تحدد النجاح من الفشل، أولها القدرة على ممارسة ضغط فعلي على جميع الأطراف، وبخاصة ميليشيات حميدتي التي تواصل ارتكاب الانتهاكات والإجرام في الفاشر وكردفان ومناطق أخرى، فاستمرار هذه الممارسات يضعف أي اتفاق مؤقت ويحول الهدنة إلى مجرد غطاء لإعادة ترتيب القوى على الأرض بدلاً من أن تكون نقطة انطلاق لعملية سياسية شاملة تُنهي الحرب بشكل كامل.
النجاح في تثبيت الهدنة يعتمد على مدى جدية الوسطاء الدوليين، وبالأخص الرباعية، في فرض التزامات ملزمة على الأرض، وضمان احترام وقف إطلاق النار، مع خلق آليات رقابة واضحة تمنع الانتهاكات، كما أن إشراك القوى المدنية السودانية ضرورة لا غنى عنها لمنح أي اتفاق شرعية وطنية، بعيدًا عن صياغة الحلول العسكرية أو التفاوضية بين الأطراف المسلحة فقط.
في ظل استمرار الانقسامات الداخلية، وتباين المصالح الإقليمية والدولية داخل اللجنة الرباعية، وغياب الثقة بين الأطراف السودانية، تبقى الهدنة الحالية أكثر عرضة لأن تتحول إلى استراحة تكتيكية تسمح لميليشيات الدعم السريع بإعادة ترتيب أوراقها، بدلاً من أن تتحول إلى نقطة تحول استراتيجية تحقق السلام الدائم.
وعليه، فإن أي محاولة لوقف النار ستظل محدودة الأثر ما لم تُدمج مع رؤية سياسية شاملة تضمن احترام سيادة الدولة، وحماية المدنيين، واستعادة الثقة بين جميع الفاعلين السودانيين، وتنحية الفاعلين الإقليميين والدوليين واستبعاد أجنداتهم التوسعية في السودان ولو مؤقتًا.
