في مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني، دعمت الإمارات قرار مجلس الأمن رقم 2797 بشأن قضية الصحراء الغربية، والذي كان استجابة لمقترح قرار أمريكي رعاه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. ينص القرار الذي بدا أنه يلاقي اجماعًا أمميًّا مؤخرًا أكثر من أي وقت مضى، على دعم الخطة المغربية بشأن الصحراء والتي اقترحتها المغرب عام 2007 كحل لنزاع عالق ما يقارب الخمسين عامًا. تُريد المغرب أن تُعطي للصحراء وضعًا شبه فيدراليًّا، بينما آلت جبهة البوليساريو، بدعم جزائري، إلى الاستقلال التام عن السيادة المغربية.
– اعتمد مجلس الأمن الدولي قرارًا يؤكد أن منح الصحراء الغربية حكمًا ذاتيًا تحت السيادة المغربية قد يكون الحل الأنجع للنزاع المستمر منذ خمسة عقود.
– جاء القرار بعد تصويت 11 دولة لصالحه، بينما امتنعت روسيا والصين وباكستان عن التصويت، ولم تشارك الجزائر، في وقت جدد فيه المجلس مهمة… pic.twitter.com/ici4uDMREJ
— نون بوست (@NoonPost) November 1, 2025
لم يكن دعم الإمارات لذلك القرار سابقةً، بل خطوة تأكيدية للخيارات الجيوسياسية الإماراتية التي بدأت في فرضها، منذ صعود نهج السياسة الخارجية للشيخ محمد بن زايد، التي مزجت بين توجهيّن مبدأييّن تمثلا فيه تحقيق المطامع الإمبريالية الطموحة، وصناعة محاور إقليمية جديدة تستند إلى الإتفاقيات الإبراهيمية، لذلك في قضية الصحراء الغربية، كان الدور الإماراتي مساهمًا فعالًا بشكل كبير في إذكاء الصراع الثنائي في السنوات الأخيرة بين دولتيّ المغرب والجزائر، حيث مثلت الصحراء الغربية ساحة لتقاطعات مبادئ الجيوسياسة الإماراتية، الإمبريالية الإبراهيمية.
كان الوجود الإماراتي في الصحراء الغربية انعكاسًا لما سماه الباحث السوداني حسام عثمان محجوب “سياسات الإمبريالية الفرعية”، حيث استخدم مصطلح الناشط الماركسي البرازيلي روي ماورو ماريني، واصفًا الطموحات الجيوسياسية للإمارات.
في هذا الاستخدام الاصطلاحي، تمثل الإمارات كدولة طرفية تمارس الإمبريالية داخل منطقتها بينما تظل معتمدة على الولايات المتحدة، القوة الإمبريالية الأساسية، نموذجًا للتحول إلى دولة إمبريالية فرعية، استثمرت على مدار العقود الماضية الكثير من مليارات البترودولار، في القارة الإفريقية بالخصوص، لتضع أقدامًا في مناطق تقوم بخدمة سياسات الإمارات في تحقيق الأمن الغذائي من خلال الاكتفاء الذاتي، والمشاريع العملاقة لشركات موانئ أبوظبي وموانئ دبي، والسعيّ الحثيث تجاه مناجم الذهب، والمشاريع الاستثمارية في البنية التحتية، بأثمان بخسة.
اصطدمت تلك السياسات بقضية الصحراء الغربية، التي تشكل ساحة النزاع بين دولتيّ المغرب والجزائر، وهي قضية قديمة، قدم الدولتيّن ذاته، اختارت الإمارات، ووفقًا لتموضعها وريادتها للاتفاقات الإبراهيمية، أن تقف إلى جوار شريك رئيسي في تلك الإتفاقيات، وهي المغرب على حساب الجزائر، لذلك كانت الصحراء الغربية محورًا رئيسيًّا لتقاطعات السياسة الخارجية الإماراتية، منذ قنصلية “العيون”.
قنصلية “العيون” وفوائض بترودولارية
كانت نهايات عام 2020 مفصلية في وطأة الأقدام الإماراتية لمسرح الصراع في الصحراء الغربية، فبشكل ريادي لم تسبقه إليها أية دولة عربية أخرى، افتتحت الإمارات قنصلية عامة لها في مدينة العيون، وهي كبرى حواضر الصحراء الغربية. تلك الخطوة فُسرت بكونها تصريح بالاعتراف القانوني والسياسي بسيادة المغرب على الإقليم المتنازع عليه، وقد وضعت ضغوطًا على جبهة البوليساريو، وداعمتها الجزائر، حيث تبُعت تلك الخطوة بأُخريات من دول عربية وإفريقية على النهج الإماراتي.
كانت تلك الخطوة تأسيسية لتفاهم سيظل ينمو بشكل هائل على مدار السنوات القادمة بين دول الإتفاقيات الإبراهيمية، المغرب والإمارات و”إسرائيل”، لتشكيل محور إقليمي جديد مواجهة للمحاور الأخرى في المنطقة.
View this post on Instagram
في قضية الصحراء الغربية، تأسس التعاون المغربي الإماراتي على تعزيز سياسات الأمر الواقع (de-facto)، حيث وجهت الإمارات كثير من ملياراتها تجاه الاستثمار في البنية التحتية للصحراء الغربية غير محسومة المصير ولا السيادة، والتي تُسيطر عليها المغرب منذ 1975. تجلت أشكال ذلك التحالف خصوصًا في التعاونات الاقتصادية، ففي عام 2024، وضمن صفقة تعاونية في 15 مشروع، اتفقت الإمارات والمغرب على تنفيذ خمسًا منها في الصحراء الغربية، كتطوير مطار الداخلة و تهييئ ميناء الداخلة، وفي عام 2025 وقعت الإمارات والمغرب صفقة استثمارية في حدود 14 مليار دولارًا في الصحراء الغربية في مجالات أمن الطاقة والماء، وهي أكبر صفقة استثمارية في التاريخ المغربي.
بضخ فوائضها البترودولارية في استثمارات ضخمة بالأقاليم الجنوبية للمغرب استهدفت قطاعات حيوية مثل الطاقة المتجددة والزراعة والسياحة، في خطوة من الدبلوماسية الاقتصادية المُعتادة التي تهدف إلى خلق واقع مادي على الأرض يصعب تغييره على المدى القصير، كالحال في مصر السيسي مثلًا، حيث ساهمت الإمارات في ربط اقتصاد الصحراء بالاقتصاد المغربي والعالمي عبر بوابتها، وكسبت بذاك كله نفوذها السياسي الجديد وموطئ قدمها في منطقة استراتيجية تُضاف إلى حدائقها الخلفية في القارة الإفريقية، ولكن نقطة التماس الحقيقية مع دولة الجزائر، تمثلت في خط الغاز الجديد.
عداء علنيّ
“تلك الدويّلة المصطنعة التي تحولت إلى مصنع لإنتاج الشر والفتنة، وعادت هذه المرة عبر إحدى قنواتها اللقيطة، لتنفث شكلًا جديدًا من السموم والوساخة والعفن والوقاحة وسط الجزائريين“، تلك الكلمات التي تفتقر إلى الدبلوماسية، كانت رد الحكومة الجزائرية من خلال تلفازها الرسمي، على تصريحات المؤرخ الجزائري محمد الأمين بلغيث على قناة سكايّ نيوز عربية، الإماراتية، في مايو/ أيار الماضي.
رأت الدولة الجزائرية، أن قناة سكايّ نيوز باستضافتها بلغيث على شاشاتها، ليتحدث عن كون الأمازيغية، صناعة صهيونية فرنسية، إهانة قوية لشعبها، ومحاولة لفك نسيجها الإجتماعي، حيث يحدد الدستور الجزائري في مقدمته مكونات الهوية الجزائرية على الأسس الآتية “الإسلام والعروبة والأمازيغية”، لتصل بذلك العلاقات الإماراتية الجزائرية إلى مرحلة مأزومة، ومكشوفة في عدائيّتها، وهي التي كانت قد بدأت في التأزم منذ صعود الرئيس تبون إلى الحكم عام 2019. ولكن، لماذا؟
إن كانت الجزائر تنظر بريبة إلى الإمارات مؤخرًا، فلا بد أن لذلك أسبابه، ففضلًا عن الدور الكبير الذي تلعبه الإمارات في تسليح الجيش الملكي المغربي، خصيصًا في رفد الإمارات أسطول طائرات الميراج المغربي، حيث تُعد الإمارات المورد الرئيسي والعمود الفقري لسلاح الجو المغربي، ترعى الإمارات مصالح أخرى تتصادم مع الجزائر.
يرى الجزائريون أن الإمارات كبوابة لـ”إسرائيل” بالشراكة مع المغرب، يجمعهم مسعى تآمري مشترك يهدف إلى عزل الجزائر دبلوماسيًا، لمعارضتها الاتفاقيات الإبراهيمية، ففي مطلع عام 2024، أعرب المجلس الأعلى للأمن الجزائري عن أسفه إزاء الأعمال العدائية تجاه الجزائر الصادرة عن دولة عربية شقيقة، وكانت تلك إشارة إلى الإمارات، وقد ظلت الجزائر دائمًا من خلال وسائل إعلامها تُشير إلى أدوار إماراتية في تطويق الجزائر، واتهامها مثلًا بدعم الانقلاب في النيجر. لكن، بعيدًا عن الغمز واللمز، ما هي نقاط التماس التي اشتركت الإمارات فيها بشكل مباشر في إذكاء الصراع المرير بين الأشقاء المغاربيين؟
نعرف تاريخيًا، أن دول الجزائر وليبيا سيطرت كدول عبور على جغرافيا أنابيب الغاز، لهذا يسعى المغرب لأن يكون دولة عبور لأنابيب الغاز من خلال ربط غاز غرب إفريقيا بالسوق الأوروبية، من خلال مشروع خط أنابيب الغاز المرتقب مع نيجيريا، الذي اُقترح أول مرة عام 2016، وتم النهوض به بجدية مؤخرًا بعد اندلاع الحرب الأوكرانية.
يسعى هذا الخط لتوفير 30 مليار متر مكعب من الغاز سنويًا لأكثر من 400 مليون شخص على امتداد مساره 7000 كيلومتر، وهنا يأتي دور الإمارات، فبعد أن ظل هذا المشروع حبيس الطموحات منذ عام 2016، ثم محاولة أخرى لم تُسفر عن راعي ممُول في عام 2022، جاء إعلان الإمارات كممول رئيسي للمشروع في عام 2025، الذي سيربط 15 دولة أوروبية بكلفة تناهز 25 مليار دولار.
يُشكل ذلك المشروع المغربي النيجيري الطموح، خطرًا على الوضع التقليدي للجزائر كمورد رئيسي لأوروبا بالغاز، حيث يُعد الغاز في السياسة الخارجية الجزائرية واحدًا من أدوات الضغط الهامة التي تصنع به توازناتها الدبلوماسية وتمارس به ضغوطها، لذلك تنظر الجزائر بقلق إلى ذلك المشروع، وترى فيه محاولة إماراتية إسرائيلية من خلال المغرب، من أجل إضعافها، حيث طلبت من جنوب أفريقيا في عام 2024 التوسط لديها في نيجيريا لترجيح تفضيلها لمشروع خط أنبوب الغاز البحري عبر الصحراء، بدلًا من خط أنبوب الغاز البحري النيجيري المغربي، لكن تلك المحاولة باءت بالفشل.
في فبراير/ شباط من عام 2025، صرح الرئيس تبون، أن بلاده رفضت منح جبهة البوليساريو تكنولوجيا تشويش الطائرات المسيّرة مثل نظام ربلانت 1 الروسي، حيث قال أن البوليساريو تطلب أسلحة، ونحن نمتنع عن منحها لهم “في الوقت الحالي”، ويبدو أن تشديد الرئيس على راهنية الوقت، يحمل في طياته تهديدًا للمساعي الإماراتية الإسرائيلية المغربية -كما ترى الجزائر- وإن رأت الجزائر في قرار مجلس الأمن الأخير تهديدًا فربما سيبدأ نهجًا ما في التغير.
خطًا من الدماء، ممتدًا من السودان إلى الصحراء الغربية، هل ترسمه سياسات الإمارات الإمبريالية؟ فسعيًا وراء موانئها وممراتها، وطموحاتها للسيطرة على الممرات البحرية واللوجستية العالمية، طوقت الإمارات تقريبًا منطقة تمتد من القرن الأفريقي وصولًا إلى غرب أفريقيا، لذلك يمثل الساحل الأطلسي للصحراء الغربية حلقة وصل حيوية محتملة في هذه السلسلة، وما نتج عن ذلك من تعزيز الشراكة مع المغرب، والاستمرار في الانحياز، حيث تجاوزت الإمارات في قضية الصحراء، ومنذ زمن، حدود التضامن العربي التقليدي، لتتحول إلى شراكة استراتيجية تهدف إلى إعادة رسم الخريطة الجيوسياسية للمغرب الكبير، وكل ذلك لا يتحقق دون إذكاء نيران صراع مُر، ربما ليس من المقدر له أن ينطفئ عما قريب!