في تحرّك دبلوماسي غير مسبوق على مستوى الرئاسة الإسرائيلية، استهل رئيس الكيان الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ زيارة قصيرة لأفريقيا شملت لكل من زامبيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، في جولة استمرت ليوم واحد فقط، حيث تركزت المحادثات على القضايا الراهنة في النظام الدولي ومحاولة إعادة تعزيز الحضور الإسرائيلي على الساحة العالمية، وفق ما أفادت به وسائل إعلام عبرية.
جاءت هذه الجولة في توقيت بالغ الحساسية بالنسبة لتل أبيب، التي تواجه حالة عزلة سياسية متصاعدة بفعل حرب الإبادة التي تشنها على قطاع غزة وما خلفته من إدانات واسعة واتهامات دولية بانتهاك القانون الدولي الإنساني.
وفي المقابل، برز خلال العامين الأخيرين تحوّل لافت في المواقف الأفريقية التي أظهرت تماسكاً أقوى إزاء الانتهاكات الإسرائيلية، ما اعتبرته الدوائر الإسرائيلية تهديداً مباشراً لنفوذها التقليدي في القارة، يستوجب التحرك العاجل.
وتحاول “إسرائيل” عبر هذه الزيارة إعادة فتح منافذ تأثير داخل أفريقيا بهدف الحد من التآكل الذي أصاب علاقاتها مع عدد من الدول الأفريقية، وإعادة صياغة شبكة مصالح تحميها من مزيد من العزلة في المحافل الدولية، في ظل تصاعد الاستقطاب الجيوسياسي العالمي وقرب استحقاقات أممية حرجة تتعلق بالقضية الفلسطينية.
تبييض صورة “إسرائيل” المشوهة
اعتبرت حركة المقاومة الفلسطينية “حماس” أن الزيارة تمثل محاولة إسرائيلية متعمدة لإعادة تلميع صورتها بعد التدهور الحاد الذي أصاب مكانتها الدولية خلال العامين الماضيين، على خلفية جرائم الإبادة والانتهاكات الواسعة التي ارتكبت في قطاع غزة.
وترى الحركة أن تل أبيب تسعى عبر هذه الجولة إلى توظيف الانفتاح الدبلوماسي على أفريقيا كأداة لكسر دائرة الانتقادات الحقوقية ومحاولة استعادة جزء من الشرعية السياسية المفقودة دولياً، لافتة في بيان لها أن تل أبيب تحاول عبر اختراق المواقف الأفريقية التاريخية المؤيدة لحقوق الشعب الفلسطيني، إعادة تشكيل المشهد السياسي داخل القارة، وخلق بيئة أكثر مرونة تجاه سياساتها في المرحلة المقبلة.
واعتبرت أن استقبال هرتسوغ في هذا التوقيت، يعني عملياً المشاركة في عملية “تبييض” للجرائم والانتهاكات التي ارتكبت في غزة، وإضفاء طابع طبيعي على واقع الاحتلال، رغم استمرار تبعات الحرب وتداعياتها الإنسانية، ورغم استمرار خروقات الاحتلال لوقف إطلاق النار.
وفي السياق ذاته، دعت الحركة دول العالم إلى تعزيز المقاطعة السياسية والدبلوماسية لـ”إسرائيل” وقياداتها، كما دعت الدول الأفريقية على وجه الخصوص إلى التمسك بتاريخها النضالي المناهض للهيمنة والاستعمار، مؤكدة أن الحالة الكولونيالية التي يمثلها الاحتلال الإسرائيلي ما تزال النموذج الأكثر تطرفاً ووحشية في السياق المعاصر.
إلى جانب بيان حماس، فإن ما تواجهه “إسرائيل” اليوم من ضغوط دولية متراكمة، سواء من العواصم الأوروبية أو من داخل المؤسسة الأميركية نفسها، بات يترك أثره المباشر على المشهد السياسي داخل تل أبيب، رغم محاولات الإعلام الإسرائيلي التقليل من حجم تلك التداعيات.
فتآكل الثقة بين “إسرائيل” وحلفائها التقليديين لم يعد مسألة رمزية أو لها طابع معنوي فقط، بل تحول إلى عامل يربك الحسابات الاستراتيجية للحكومة الإسرائيلية ويفرض عليها البحث عن متنفس سياسي خارج المجال التقليدي.
وفي هذا السياق، تبدو أفريقيا خيارًا محسوبًا، ليس من باب رفع مستوى العلاقات أو توسيع النفوذ فحسب، وإنما كمساحة بديلة لإعادة تشكيل مظلة دعم دولية يمكن الاستناد إليها في المحافل الأممية، وتحديدًا في مواجهة الضغوط المتعلقة بالمساءلة القانونية والحقوقية.
فتل أبيب تحاول اليوم إعادة هندسة شبكتها الخارجية عبر استعادة كتلة تصويتية أو داعمة داخل الأمم المتحدة تُعيد شيئًا من التوازن لصورتها المتآكلة، وتحد من أثر الانكشاف الدولي الذي خلفته حرب غزة والعزلة السياسية التي تتسع دوائرها يوماً بعد آخر.
لماذا أفريقيا الآن؟
تُدرك تل أبيب أن القارة الأفريقية تمثّل كتلة تصويتية ليس من السهل الاستغناء عنها داخل المؤسسات الأممية، وأن تأثيرها في هندسة القرار الدولي بات أكثر حضورًا مع تغير موازين القوى العالمية. وبالتالي، فإن خسارة هذا الرصيد الأفريقي أو تركه ينزلق لصالح قوى منافسة، ستكون مغامرة سياسية باهظة الثمن بالنسبة لـ”إسرائيل”، وهو ما يفسر استعجال التحرك الدبلوماسي نحو أفريقيا في هذا التوقيت، بهدف الحفاظ على ما تبقى من جسور مع الشركاء التقليديين ومنع انهيار ما تبقى من شبكات التأثير.
كما تحمل الجولة بُعدًا اقتصاديًا صريحًا، ففي ظل السباق التكنولوجي الذي تسعى “إسرائيل” لتعزيزه، في معركة حروب المعادن المستقبلية، تبقى المعادن الأفريقية النادرة والثروات التعدينية الاستراتيجية عنصرًا لا يمكن تجاهله، خصوصًا داخل صراع النفوذ الدولي على تلك الموارد التي تتحكم في مستقبل الصناعات التقنية والعسكرية.
وفي الوقت ذاته، تتحرك “إسرائيل” بحسابات تتعلق بمنع التمدد المضاد على الساحة الأفريقية؛ فطهران عززت مؤخراً حضورها في عدة دول، وروسيا أعادت هندسة نفوذها عبر أدوات جديدة بعد مرحلة فاغنر، فيما تواصل الصين تكثيف نفوذها الاقتصادي والمالي، ومن هنا يأتي التحرك الإسرائيلي كجزء من معركة نفوذ مفتوحة لمنع خصومها من ملء الفراغ.
أما من حيث التوقيت، فالزيارة تتقاطع مع مرحلة دولية حساسة داخل المنابر الأممية، حيث تتصاعد المناقشات حول حقوق الشعب الفلسطيني، ومسار حل الدولتين، وتزداد الضغوط المتعلقة بالملاحقة القانونية لمسؤولين إسرائيليين، ولذلك، تبدو محاولة استعادة القاعدة الأفريقية داخل الأمم المتحدة خطوة استباقية لحسم توازنات تصويتية وشرعية قبل معارك سياسية وقضائية مقبلة.
ولا يمكن فصل ذلك أيضًا عن التحولات داخل القارة نفسها، تحديدًا في دول الساحل، وما تلاها من انقلابات وتغيير مراكز سلطة في مالي وغيرها، الأمر الذي يمنح تل أبيب فرصة لإعادة تموضع داخل فضاء جيوسياسي متغير وإعادة هندسة التحالفات بما يخدم مصالحها ويعيد تثبيت حضورها في واحدة من أكثر الجبهات الدولية حساسية في المرحلة المقبلة.
عامان من التضامن الفلسطيني
خلال العامين الماضيين، تبلور التضامن الأفريقي مع غزة بشكل غير مسبوق، من حالة تعاطف رمزي إلى مسار متعدد المستويات شمل المؤسسات الإقليمية والجهات القضائية والحملات الشعبية، ما وضع القارة في طليعة المدافعين عن الحقوق الفلسطينية على المستوى الدولي منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية في أكتوبر/تشرين الأول 2023.
في قمم الاتحاد الأفريقي لعامي 2024 و2025، اتسم الموقف الأفريقي تجاه الحرب على غزة بتصعيد واضح في الخطاب والمستوى القانوني، إذ وصفت القمة العدوان الإسرائيلي بأنه عمل وحشي يرتقي إلى مستوى الإبادة الجماعية، وطالبت المجتمع الدولي بتحرك عاجل لوقف الحرب وفرض عقوبات صارمة على تل أبيب.
ولم تقف أفريقيا عند حدود المواقف السياسية أو البيانات التضامنية، بل انتقلت إلى إجراءات عملية غير مسبوقة، تمثلت في قرار طرد السفير الإسرائيلي في فبراير/شباط 2024 ومنع مشاركة الوفد الإسرائيلي في قمم الاتحاد، متجاوزة بذلك مرحلة تعليق صفة المراقب.
وقد شكل هذا القرار نقطة تحول مفصلية تعكس تغيراً جوهرياً في المزاج السياسي الأفريقي، ورسالة أخلاقية مباشرة إلى العالم بأن القارة لم تعد تقبل التعامل مع العدوان الإسرائيلي كملف خلاف سياسي عادي، وإنما كقضية تستدعي موقفاً فعّالاً ومؤسسياً.
وبذلك تحوّل الموقف الأفريقي من الإدانة اللفظية التقليدية إلى ممارسة ضغط سياسي عملي، بما يؤشر على دخول أفريقيا مرحلة جديدة في صياغة مواقفها الدولية وصناعة تأثير متقدم في ملفات العدالة الدولية.
هذا المسار توازى مع تحرك قانوني بارز قادته جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، مدعوماً من عواصم أفريقية عديدة، مع توسع مظلة التضامن لتشمل الإعلاميين والثقافة والفضاء المجتمعي، حيث تحولت فلسطين إلى رمز إنساني وقيمي داخل الخطاب الشعبي والنخبوي في القارة.
جدير بالذكر أن الموقف الأفريقي الداعم لفلسطين لم يكن وليد اللحظة، بل امتداداً لجذور تاريخية في الوعي السياسي الأفريقي تربط بين النضال ضد الاستعمار وبين الحقوق الفلسطينية، هذا الإرث هو ما جعل القارة تتعامل مع قضية غزة ليس باعتبارها ملفاً سياسياً بعيداً، بل قضية تحرر وكرامة إنسانية تتقاطع مع تاريخها ومعنى وجودها.
مساعي خلخلة الجدار الأفريقي
خلال السنوات الماضية، كثّفت “إسرائيل” من حضورها السياسي والاقتصادي والأمني داخل دول أفريقية محددة، مستفيدة من مصالح استراتيجية، وتفاوتات داخلية في أولويات الدول، وتحوّلات جيوسياسية عالمية. وقد ساهم هذا التحرك في إحداث اختراق نسبي في جبهة التضامن الأفريقي التقليدية مع فلسطين، عبر نقل الموقف من كتلة متجانسة تقريباً إلى اصطفافات متباينة يمكن استثمارها ومراكمة نفوذ عليها لاحقاً.
هذا الانقسام يعبّر عن قدرة تل أبيب على العمل داخل الفراغات السياسية والاقتصادية في القارة، وعلى إعادة هندسة علاقات قائمة على تبادل المصالح والموارد والتكنولوجيا الأمنية، مما سمح لها بتقليص صلابة الموقف الأفريقي، وإن لم تتمكن بعد من تفكيكه بالكامل.
في 12 سبتمبر/أيلول 2025، وبينما كانت الأنظار تتجه إلى التصويت على “إعلان نيويورك” في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بدت أفريقيا أمام لحظة سياسية كاشفة. فبعد عامين من حرب غزة، أظهر التصويت انقساماً غير متوقع داخل القارة، إذ أيدت 38 دولة الإعلان الداعم لحل الدولتين، مقابل امتناع 4 دول وغياب 12 أخرى، وهذا التباين لم يكن انعكاساً ظرفياً لمزاج سياسي طارئ، بل نتيجة تراكم طويل من التحرك الإسرائيلي داخل القارة ومحاولات منهجية لكسر حالة التماسك التي تبلورت خلال الحرب.
ورغم قوة الموقف الأفريقي العام الداعم لفلسطين، يكشف مشهد الدول الأربع الممتنعة عن التصويت على “إعلان نيويورك” أن “إسرائيل” نجحت بالفعل في اختراق بعض الدوائر الحسّاسة داخل القارة عبر مدخل المصالح والأمن والتحالفات الطويلة الأمد.
فإثيوبيا – بثقلها الديمغرافي وكونها مقر الاتحاد الأفريقي – وجدت نفسها أمام شبكة تشابكات مع تل أبيب تشمل ملف اليهود الإثيوبيين، ودور “إسرائيل” التقني في سد النهضة، والتحالف الأمني بعد حرب تيغراي، وصولاً إلى التوتر مع إريتريا. هذا كله أعاد صياغة إدراك النخبة الإثيوبية بأن إسرائيل شريك لا يمكن المجازفة بخسارته في لحظة سياسية هشة داخلياً وإقليمياً.
الكاميرون وجنوب السودان تمثلان نموذجاً أوضح في تبعية القرار السياسي للأمن الإسرائيلي المباشر، في ياوندي، تقف “الوحدة الإسرائيلية” كعصب حاكم لأمن الرئيس بول بيا، وامتداد النفوذ الإسرائيلي يتجاوز الدعم السياسي ليصل لعمق أجهزة القوة الصلبة داخل النظام.
وفي جوبا، تاريخ النشأة نفسه بُني في حضن الاعتراف والدعم الإسرائيلي، واستمر هذا الارتباط في صفقات تسليح وتدخلات غير معلنة، وصولاً إلى تقارير إعادة توطين فلسطينيين في جنوب السودان، بما يجعل أي تصويت مناوئ لإسرائيل يهدد بنية الدولة نفسها.
أما الكونغو الديمقراطية -المحطة الثانية للرئيس الإسرائيلي في تلك الزيارة- فتمثل حالة التوازن القلق بين الاعتراف التقليدي بفلسطين والمصالح الأمنية والتعدينية مع “إسرائيل”، بلد يمتلك 70% من الكوبالت العالمي يعيش تحت ضغط تهديدات داخلية في الشرق، ويعتمد على خبرات ومدربين إسرائيليين وشبكة رجال أعمال مثل دان غيرتلر، من هنا فإن امتناع الكونغو لم يكن هشاشة موقف، بل خيار حسابي دقيق يحمي مصالح النظام.
وهكذا تكشف حالات الامتناع الأربع أن “إسرائيل” تمكنت من إحداث اختراقات مؤثرة داخل مساحات محددة من القارة، عبر أدوات مركّبة تجمع الأمن والسلاح والتكنولوجيا والمصالح الاستراتيجية، وهو ما يجعل معركة استعادة الإجماع الأفريقي حول فلسطين بحاجة لجهد سياسي مضاد بحجم ما تُنتجه تل أبيب من نفوذ متراكم.
في المحصلة، تمثل زيارة هرتسوغ إلى زامبيا والكونغو محاولة إسرائيلية مدروسة لكسر حالة العزلة الدولية من جانب، واستعادة مسارات النفوذ داخل القارة الأفريقية من جانب ثاني، وإعادة هندسة الاصطفافات قبل استحقاقات أممية فاصلة تتعلق بالقضية الفلسطينية من زاوية ثالثة.
وتدرك تل أبيب جيدًا أن خسارة أفريقيا تعني خسارة إحدى أهم الكتل التصويتية داخل منظومة الأمم المتحدة، وأن أي تحول جذري داخل القارة – كما شهدناه في قمم الاتحاد الأفريقي الأخيرة وفي تصويت “إعلان نيويورك” – قد يسرّع من اتساع طوق العزلة السياسية والعقابية حولها دولياً، لذلك تنشط تل أبيب في محاولة تفكيك هذا التماسك، وبناء تحالفات جزئية، وتقوية علاقات أمنية واقتصادية في دول محددة بهدف إضعاف الجبهة الأفريقية الداعمة لفلسطين تدريجياً، لا عبر المواجهة المباشرة وإنما عبر سياسة “الاختراقات الموضعية” في أماكن حساسة وذات ثقل استراتيجي.
على الجانب الأخر، يبقى الحفاظ على أفريقيا ككتلة داعمة للقضية الفلسطينية ليست مسؤولية فلسطينية فقط، بل عربية وإسلامية أيضاً، فالمطلوب ليس مجرد خطاب تضامني، بل استثمار سياسي – اقتصادي – إعلامي منظم يمتد داخل البنية القارية، يعيد تعزيز حضور القضية الفلسطينية كقضية تحرر إنساني داخل الوعي الأفريقي، ويُفَعِّل أدوات الشراكة والتعاون بدلاً من ترك المساحة فارغة أمام المشاريع الإسرائيلية.
فالمعركة داخل القارة لم تعد “معركة رمزية” بل معركة نفوذ فعلي، وربما على درجة كبيرة من الخشونة، ومن ثم فالتفريط بها يعني خسارة ساحة تأثير مركزية في النظام الدولي المقبل، من هنا تبدو الحاجة، عربية وإسلامية، ملحة لاستراتيجية مضادة ومستدامة تحفظ أفريقيا ضمن دائرة الاصطفاف الأخلاقي والسياسي مع فلسطين، وتقطع الطريق على محاولات تل أبيب المتتالية لإعادة تدوير شرعية احتلالها تحت غطاء الانفتاح الدبلوماسي.